الجزيرة منطقة عجيبة، وليس مثلها، وبحق، مكانٌ على وجه الأرض!. ولكل شخص مطلق الحق في ان يأخذ هذه العبارة كيفما إتفق!.
للاحداث فيها طعم خاص، وكذلك للحكاوي. ولسببٍ ما ما زالتْ تعلق بذهني تلك الحكوة، التي إستوقفتني ومنذها، حيث لا امل ترديدها، بل وتكرارهاحتى على نفسي. وفي كل مرةٍ احس وكأنني اقف عليها ولأول مرة!. حدث وفي اوائل السبعينات من القرن الماضي إن كانت هناك مناسبة وفاة في العقدة ، وكان العزاء او "الفراش" في ديوان عمنا المرحوم "بشير محمد علي التوم"، وعمنا بشير ود التوم له مكانة أثيرة في النفس، فهو واحدٌ من قادة العمل العام في العقدة. نحتفظ له نحن الطلاب في ذلك الزمن، بجمائل كثيرة، اقلها انه كان، وبحكمه رئيساً لمجلس اباء مدرسة البنات الإبتدائية، كان يعطينا مفاتيح المدرسة طيلة ايام العطلة الصيفية، ودونما شرط وذلك لاجل ممارسة نشاطاتنا المتنوعة. وكان كذلك هو اول من نقصده في شأن المساهمة والدعم المالي، وما كان يخذلنا، ابداً. إن مسيرة الوعي في العقدة ساهم فيها الجميع، إذ أنها لم تكن حكراً على أشخاصٍ بعينهم ولا على حزبٍ سياسيٍ لوحده او مجموعةٍ ناشطة بمفردها. فقد كانت مسيرة جماعية، باستثناء الحركة الإسلامية، وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن التطاول عليها. وحتى نهاية السبعينات لم يكن للحركة الاسلامية وجود يذكر، وليس ذلك على مستوى العقدة لوحدها وإنما على طول وعرض المشروع، بمدنه وبقراه!. وهذه الحقيقة الصلدة لا تقف صامتة لوحدها وإنما إستنطاقها هو الذي يفسر "الغبن التاريخي" للحركة الاسلامية تجاه المشروع واهله، ذلك "الغبن" الذي يمثل المحرك الاساس لهجمة الإسلاميين الظالمة على المشروع وأهله!. والحادثة الآن!. واعود للحكوة الأثيرة/ كان من العادة في العزاء في ذلك الزمان ان يفترش الناس، وخاصة الشباب، الارض ليلاً. وكنا مجموعة من الشباب، وقد صدف أن جاء عبد الملك "زول" الحلاوين مبكراً، واستلقى نائماً. عبد الملك واحد من الشخصيات المميزة التي مرت بالعقدة واصبحت جزءاً من نسيج الحياة فيها، وكان توائم روحه خميس ود الشاويش وفضل المولى ود جبارة الله وآدم عرقلة. خاطبه أحدنا، وهو مستلقي في نومٍ عميق، "يا عبد الملك ارقد عديل، عشان الناس يقدروا ينوموا برضو"!. لم يرفع عبد الملك رأسه، بل وهو مغمض العينين رد وبشكلٍ قاطع، " لا، طلقْ كان انوم شابورة"!. فبالرغم من انها مناسبة عزاء فقد غرق الناس في الضحك، وتركوه لحاله!. علِقتْ تلك العبارة بذهني من وقتها، ولأكثر من أربعين عاماً. في هذا الأمر لم تستوقفني الحقيقة المتعلقة بصعوبة إستعدال "الحواشة او الأرض الشابورة"، فحسب، لان إستعدالها للشكل الهندسي المعروف للحواشة يعني إستعدال "الترعة" او "الكنار" الذي أعطاها ذلك الوصف مبدأً، اي "شابورة"، وذلك ما لا يحدث!، ولكن ما إستوقفني وما زال، هو الإختزان في العقل الباطن للصعوبة والمفارقة والمرتبطتين لا باي شيئ آخر وانما بـ "الشابورة"، أي الأرض!. إن اهل الجزيرة لا يختزنون في عقولهم الباطنة سوى الأرض!. لانهم ينامون على ذكرها ويصحون على تذكرها. ولأنهم لا يسوون شيئ بدونها!. فهذه هي الحقيقة الوجودية التي وقف عليها القادة التاريخيين في مشروع الجزيرة، وبناءاً عليها وضعوا "الارض" نصب اعينهم ولذلك حينما صاغوا تاريخ هذا المشروع ورحلوا، لم يورثوا الأجيال الارض لوحدها وانما اورثوهم كذلك "قيمة الدفاع عنها والحفاظ عليها". و"يوم الأرض" لم يخرج قيد أنملة عن ذلك الموروث!. وهذا الشعار خطر/ لا اعتقد ان الراسمالية الطفيلية الاسلامية، "رطاس"، تعي ما قدمت او ما هي قادمة عليه!. إن أي شعار هو جزء من المقاومة، فهو ليس معبر عنها وحسب وانما هو المحرك الذي يمثل القوى المعنوية الدافعة لاجل الصمود في تلك المعركة. ودائماً، وكما هو معلوم، أنه وبحجم المعركة تكون القدرة على نحت الشعار او سكه ومن ثم التمسك به. إن إختيار شعار "يوم الارض" ومكان الإحتفاء به، فوق مغزاهما العميق فقد افصحا عن وعي اهل الجزيرة وبقيادة تحالفهم، وعيهم بقضيتهم التي اصبحت بين يديهم الآن، وليس بيد احدٍ غيرهم. ولكن على الجانب الآخر، إنه ومن المحزن حقاً أن هذا الشعار يعكس وبوضوح ايضاً المدى الخطر الذي اوصلت اليه الراسمالية الطفيلية الاسلامية الصراع حول الارض في مشروع الجزيرة. فبالنسبة لاهل الجزيرة فقد أصبح الأمر معركة وجود في وجه حملة الإقتلاع من الجذور. وتلك حالة تاريخية متفردة لم يشهدها المشروع منذ بداياته الأولى في العام 1911، وحتى عندما رفض الشيخ عبد الباقي رجل طيبة فكرة المشروع لم تجد الإدارة الاستعمارية من بدٍ غير الإستنجاد بآل ابو سن ابناء واحفاد التاية بت الشيخ يوسف ابشراء، وليكون لهم ما ارادوا من خيرٍ باهل المنطقة وبرأسمالية لانكشير!. لابد من تأكيد انه ومهما استقوت الراسمالية الطفيلية الإسلامية، ومهما تمادى طغيانها فإن النصر حليف المزارعين، وذلك لا لاي سببٍ آخر سوى ان المزارعين وطيلة تاريخهم لم يعرفوا للنصر بديل. ولتحيا ذكرى القادة التاريخيين الأماجد: الشيخ المرحوم الامين محمد الامين والشيخ يوسف أحمد المصطفى والشيخ المرحوم عباس دفع الله والشيخ المرحوم عبد الله برقاوي وبقية العقد النضديد.