أوائل تسعينات القرن العشرين : كنتُ أصاب بحمى الملاريا كل أسبوعين ، وانتظم للعلاج في البيت لأن حقنة الملاريا الواحدة تُصيبني بالدوار . عندما أذهب للحمام وأنا أتمسك بالحائط كي لا أسقُط . وفي ذات اليوم الذي أصاب فيه ، أشتري لفائف ملونة من الورق المقوي ، وثلاث مقصات وسيارتين صغيرتين ، يمكنك أن تُطوي الواحدة منهما في قبضة اليد .وأذهب للبيت . بينما أنا في عطلة مرضيّة ، تدور الطفلة الصغيرة بدراجتها ذات الثلاثة أرجُل ، وتلك فرصة في نظرها للعب . بعد يومين من العلاج ، استفيق مما بي ، وأحضر الورق المُقوي الذي خبأته وأرسم عليه أشكال الطيور و البط والحمام ،وبالمقص أقصص زوجين من الرسم وأربطهما براباطات من الورق المقوي وأقوم بلصقهما بمسافة بينية 5 سنتيمتر . تقوم الطفلتان بمحاكات طريقتي في القص ويفشلان. وأضع أنا في الختام على الأرض شكل طائر يقف ، وبطة أخرى تقف أيضاً . وهكذا يمتلئ البيت بالطيور الورقية الملونة، والطفلتان تضحكان. .في مسطبة الدار ، أرسم طريقاً لسير السيارتين بالطباشير الأبيض. وإنارة الطريق بأعواد الكبريت المُثبتة على الأرض بواسطة قواعد مستديرة أقوم بقصها مسبقاً وتثبيت أعواد الكبريت عليها بالصمغ ، والطفلتان في نهاية الأمر تقودان كل منهما سيارتها بيديها عبر الطريق الدائري المرسوم .هذه طريقتي ليستمتع الطفلتان بالعطلة المرضية وينشغلا .
(2)
في اليوم الثالث من العطلة المرضية ، وعند الواحدة ظهراً وصل صديقنا السائق " حسن " بسيارة الإدارة الهندسية . أخطرني بأن مدير الإدارة الهندسية يعتذر لاخطاري بضرورة الحضور عصراً عند الرابعة بعد الظهر في مبنى الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم ، لدراسة المخططات التي أحضرتها وزارة التعليم العالي ومعها دفاتر المواصفات والكميات الخاصة بقاعات ما كانت تسمى " ثورة التعليم العالي ". وأوضح أن وزير التعليم العالي سيلتقي بمدراء الجامعات ورؤساء الأدارت الهندسية بالجامعات ومساعديهم ، في الساعة السادسة مساء نفس اليوم، وأن قاعة الشارقة سيكون الاجتماع بشأن التصميمات وطرائق التنفيذ. كانت السلطة في السودان قد قطعت علاقاتها بكل دول العالم ، وبالتالي فقدت مصادر العملات الصعبة ، لذا قررت أن تستوعب كل الطلاب الذين يدرسون خارج السودان للدراسة داخل السودان . ومن الخفاء كان السبب عدم توفر العملات الصعبة في بنك السودان لتحويلات أولياء الأمور لطلابهم للدراسة خارج السودان عند الرابعة وصلت مبنى الإدارة الهندسية ، ووجدت مدير الإدارة كان قد سبقني . واطلعنا على المُخططات ، ودفاتر المواصفات والكميات سوياً و تدوين الملاحظات . وجميع المستندات هي تصميمات للقاعات ( سعة 1000- طالب ، وسعة 500 طالب وسعة 250 ) .
(3)
التفاصيل الموجزة : القاعات هي في الأصل قاعات طعام مؤقتة ( Kitchen Sheds ) ، بمقاييس مُختلفة ،و تم شراءهم من المملكة العربية السعودية ، بعد الانتهاء من حرب الخليج الأولى عام 1991 . وتم تكليف مدير شركة مقاولات قطاع خاص كان ينتمي لأهل السلطة من قبل الدولة بشراء قاعات الطعام من المملكة العربية السعودية . وقد كلفت وزارة التعليم العالي ، مكتباً استشارياً يرأسه أحد خريجي 1971 من كلية الهندسة والعمارة ، وصاحبه ينتمي لأهل السلطة أيضاً. وقام المكتب بتصميم مقاعد داخل كل نوع من أنواع " مظلات المطبخ " ، وبناء مسطبة بإرتفاع مناسب ، وسبورة أمام القاعة و قواعد للأعمدة الحديدية مصممة على نظام افتراضي ، هو نظام " تصميم النوبتجي " حسب السائد للمباني من الطابق الواحد ، دون دراسة دقيقة لنوعية التربة أو تصميم لقوة الريح !. انتظم الاجتماع الساعة السادسة مساء ، وفي المنصة ثلاثة أشخاص : وزير التعليم العالي ، مدير شركة المقاولات الخاصة ، ومدير المكتب الإستشاري الخاص . وفي الصالة انتظم الحضور المكون من مدراء الجامعات – 16 جامعة - و مدراء الإدارات الهندسية بالجامعات ومساعديهم .
(4)
تحدث الوزير بأنه تخفيفاً على إدارات الجامعات ، تم تكليف مدير شركة مقاولات خاصة بالسفر للمملكة العربية السعودية بشراء ثلاثة أنواع من قاعات الطعام سابقة التجهيز بمبلغ 5 مليون دولار. وتم تكليف مكتب استشاري خاص بالتصميم الداخلي لنماذج القاعات الثلاث حسب الحجم كل منهم ، من مقاعد ومساطب وسبورات وأساسات، وتحويل قاعات الطعام سابقة التجهيز إلى قاعات محاضرات . اختُصرت المناقشة في النقاط الفنية الآتية : - كيف تم تصميم قاعة سعة ألف طالب ولم يكُن هناك نظام تقني يُمكن الطلاب من المشاهدة ؟ ، فهناك أكثر من خمسين مقعد لا يرى الجالس فيهم السبورة ، إضافة على أن القاعة مربعة الشكل ، ولا يمكن للصفوف الخلفية أن ترى السبورة ؟ - رد الوزير بأن القاعة سعة 1000 طالب ، القصد منها لاحقاً أن تكون مكاناً للبرلمان الإقليمي لكل ولاية من الولايات حسب الجامعات، وفق تصور سوف يأتي في المستقبل القريب. - طرح أحد مُدراء الجامعات ، بأنه لا حاجة لجامعته للقاعة سعة 1000 طالب ، ألا يمكن استبدالها له بقاعتين سعة 500 طالب . - أجاب السيد الوزير بأن كل مدير جامعة حر في استبدال ما يراه مناسباً ولكن يستبدل ما يريد من جامعة أخرى يوافق مديرها على التبديل !. واتضح أن جميع مدراء الجامعات لا يرغبون في قاعة سعة 1000 طالب. - طرحنا مسألة القواعد الافتراضية بنظام " أساس النوبتجي " التي ظهرت ضمن المخططات ، فهي موحدة على جميع النماذج وفي جميع مناطق السودان ، ولم يتم دراسة اختبارات للتربة في مواقع الجامعات المختلفة ، وذلك سوف يؤثر ذلك على طبيعة التأسيس ، وقد عانت جامعة الخرطوم عندما انضم إليها معهد المعلمين العالي ، ووجود مشكلات مُعلقة لأن المباني التي قامت فيه من قبل، لم يتم دراسة تربتها أو اتباع نظام التأسيس المناسب ، وكذلك تكرر الأمر عند تنفيذ مباني جامعة الجزيرة في منطقة " النشيشيبة " ، وظهرت تشققات بسبب عدم دراسة لخصائص التربة في الموقع وبالتالي عدم التأسيس للقواعد المناسبة . - رد الوزير بأنه حلاً للمشكلة ، فهو الآن بوصفه وزيراً للتعليم العالي فقد قرر أن أرضية القاعات والأساسات هي من مسئوليات الإدارات الهندسية في كل الجامعات !. صاحب التصميم صامت ينظر. - وعن إجراءات التنفيذ المطلوبة وهي شهر من تاريخه ، فإن إجراءات لجنة العطاءات ورقابة إدارة المشتريات بوزارة المالية رأينا أنها تأخذ وقتاً . - أجاب السيد الوزير ، بأنه يُسر إلينا لأول مرة أن الدولة بصدد حلّ " إدارة المشتريات بوزارة المالية " في القريب العاجل ،لأن وجودها البيروقراطي يُعطل القرارات الثورية !.
انتهى الاجتماع ، بعد أن تمّ هدم كل الأسس الإدارية والفنية لنظام تصميم وتنفيذ المشاريع . لقد تم تكليف القطاع الخاص بتعديل التصميم لقاعات الطعام لتناسب قاعات المحاضرات وهو تكليف يتعين أن تقوم به الدولة ممثلة في الإدارات الهندسية للجامعات أو وزارة الأشغال ، وأي تكليف لمكتب استشاري خاص ، يتعين ألا يتم إلا بعد إجراء مناقصة عامة ، وهو ما لم يتم . فقط مكتبٌ صاحبه موال للسلطة وتم تكليفه بالأمر!. وتم تكليف مدير شركة مقاولات خاصة بشراء " Kitchen Sheds " من المملكة بملغ وقدره 5 مليون دولار ، وهي صلاحية لا تُعطي لفرد ، وأيضاً لا تعطى الصلاحية إلا لمجموعة اختصاصها الشراء إنابة عن الدولة ، وهو ما لم يتم !. عند إظلام الدُنيا ودخول الليل سماؤها ، انتهى الاجتماع . وخرج الجميع كأن على روؤسهم الطير.وأنا نسيت مسألة الملاريا.
(5)
حول السلطات السياسية و الإدارية و الفنية والقضائية :
السلطات السياسية يتعين أن تخضع للصلاحيات التنفيذية للعمل وفق النُظم والإجرءات .و تنبع من السلطة التشريعية أصولاً و تخضع للسلطة القضائية ، بحيث يجب أن تكون وفق ضوابط ونُظم لا يتعين تجاوزها. لا يمكن للسلطات السياسية أن تُصادر العمل الإداري والفني من أصحاب الإختصاص ، فيتعين للشخصية التي تمارس العمل السياسي العام أن تلتزم بالأصول والنُظم والشفافية والعدالة. السلطات الإدارية هي متوفرة في جميع وظائف الدولة الحكومية ،و يتم ممارستها بعد التأهيل المناسب، ووفق نظم وإجراءات إدارية وقانونية. وصلاحيات تراتبية وفق الوظائف الإدارية وطبيعتها. الوظائف القانونية تمارس سلطتها وفق التأهيل واتباع النظم والإجراءت القضائية ، التي تُبني على نصوص تشريعية للقوانين والدستور. لدى السلطة في السودان جسارة غريبة ، فقادتها يستطيع عمل أي شيء ، و لا يهم القانون أو الصلاحية أو النُظم . فالطبيعة الانقلابية التي بدأت بها ، هي خرق للدستور أولاً ، ورغم ذلك احتفظ النظامين العسكريين السابقين في السودان على النُظم الإدارية ، لكن الآن يفعل السياسيون عندنا ما يشاءون دون إحساس بالمسئولية أو خطورة ما يفعلون . وتبعهم في ذات النهج الإداريون ثم القانونيون المنتمين للمنظمة الإخوانية .
كل النظم والإجراءات التي تم صياغتها للعمل العام لم تأت عبثاً ، فقد تم تطويرها عبر تاريخ طويل ، فأصبحت الأعمال والنشاطات الحكومية شفافة وخالية من الفساد وملتزمة بالقانون . لذا ينبغي للماكينة الحكومية أن تعمل في ظل وكلاء الوزارات ، وفق المنهاج العام ، أما المناصب السياسية فهي تنفذ أعمالها وفق تلك المناهج، و تقوم بإعداد الميزانية وتخصيص نسبها لكافة المجالات ، ورفع التشريعات التي تطوِّر الأداء للسلطة التشريعية لإجازتها، والتنفيذ وفق الأصول .