مراجعات في المشهد العام (2/5)

 


 

 

 


عثرات الفترات الانتقالية

غداة أول مظاهرة مناوئة للسياسات الحكومية في يناير الماضي عادت الاصوات المعارضة لترتفع بضرورة ازالة النظام وادارة البلاد عبر حكومة انتقالية تتيح الحريات وتهيء المناخ لمناقشة مشاكل البلاد الدستورية والسياسية والاقتصادية، فهل تمثل الفترة الانتقالية المخرج المنشود لوضع أسس الاستقرار في السودان؟

عرف السودان أربع فترات انتقالية: الاولى في فترة الحكم الذاتي 1953-1955 واثنتان جاءتا عقب انتفاضتين شعبيتين واستمرتا عاما واحدا أو أقل وهما الفترة الانتقالية الاولى عقب انتفاضة أكتوبر في 1964 ثم رصيفتها الابريلية في 1985. أما الثالثة التي استمرت ست سنوات عقب أتفاقية السلام مع الحركة الشعبية فكانت نتاج اتفاق بين القوتين العسكريتين الرئيسيتين في الساحة.


الانجاز الرئيسي للفترتين الانتقاليتين والاشارة الى 1964 و 1985 انهما تقيدتا بالمدى الزمني المخصص لها ولم يتم تمديد أي منها وتمكنتا من اجراء انتخابات تمتعت بقدر معقول من المصداقية وضعت اساسا لشرعية للنظام البرلماني الذي أعقبهما، لكنهما لم تقدما انجازا يذكر فيما يتعلق بتوفير الحلول للقضايا العاجلة التي أدت الى الانتفاضات على النظام الذي ثارت ضده في المقام الاول.

النقطة الاولى التي تستحق التوقف ان تحديد مدى الفترة الانتقالية يتوقف على ميزان القوة الفعلية التي تعقب انتفاضة شعبية: وهي جبهة الهيئات في أكتوبر و المجلس العسكري الانتقالي في أبريل، ثم ان الفترة الانتقالية تعمل في اطار ما يعرف بالشرعية الثورية وأحد ملامح هذه الشرعية انها تتحرك وفق تفاهمات عامة تستند أساسا الى نجاحها في الاطاحة بالنظام القائم، لكن يجمعها القليل فيما ينبغي عمله لادارة البلاد.

وفي هذه المرحلة تتساوى المقامات السياسية على أساس ان الكل شارك في اسقاط النظام وبالتالي يستحق مقعدا وأن يسمع صوته في الترتيبات الجديدة، على ان الاشكال الرئيسي يتمثل في القيادات التي يتم تعيينها في مواقع دستورية وتنفيذية بدون تفويض شعبي أو معايير واضحة وانما نتيجة لتوافق ومحاصصة بين القوى التي ثارت ضد النظام المباد، كما يترك للأحزاب والنقابات أن ترشح من ترى وبدون مراجعة أو محاسبة، الامر الذي يجعلها عملية ترضيات، هي الوجه الاخر لعمليات الترضيات التي تتم مع حملة السلاح التي نفاقمت بشكل وبائي في هذا العهد. وأهم من ذلك ان هؤلاء المسؤولين يصبحوا غير مقيدين بالمرجعية التي أتت بهم الى هذه المواقع، وانما يستمد كل مسؤول تم تعيينه وفق الشرعية الثورية قوته ونفوذه من جهاز الدولة وعلاقاته بزملاءه.

يصدق هذا على جبهة الهيئات التي قادت الانتفاضة الشعبية ضد نظام عبود كما يصدق على غيرها. فسرالختم الخليفة رئيس الوزراء عقب أكتوبر قام منفردا بحل حكومته الاولى بعد ضغوط من الاحزاب التقليدية بقيادة حزب الامة بعد أربعة أشهر فقط من تشكيلها وبدون مشاورة جبهة الهيئات التي جاءت به الى منصبه ابتداءا وذلك لما اعتبر وقتها من سيطرة لليسار على تلك الحكومة لا تتناسب وحجمه السياسي.

وخلال الفترة الانتقالية الثانية في 1985 التي استمرت عاما فشل التجمع الوطني الديمقراطي في أنفاذ أحد أهم الاسباب التي أدت الى الانتفاضة ضد نظام النميري وهو ألغاء قوانين سبتمبر، وتعلل المسؤولون وقتها ان تلك قضية حساسة وخلافية ينبغي أن تبت فيها حكومة منتخبة، على ان من أهم كوارث الفترة الانتقالية تلك الغاء جهاز الامن بصورة كلية واستخدام ملفاته المبعثرة في الكيد السياسي، غير تلك التي حصلت عليها مخابرات دول اجنبية، بدلا من الحفاظ على الجهاز وتغيير قياداته وسياساته، واستغرق الامر قرابة ثلاث سنوت حتى تمكنت الحكومة المنتخبة من اقامة جهاز جديد. وكرر رئيس الوزراء الجزولي دفع الله أسلوب التصرف منفردا وبدون الرجوع الى مرجعيته في التجمع الوطني النقابي عندما قام لوحده بتعيين وزير جديد للمالية هو سيد أحمد طيفور بدلا من عوض عبد المجيد المستقيل.

وبسبب طبيعة الفترة الانتقالية وانها لا تعكس الثقل الحقيقي للقوى السياسية فأنه حتى البرامج التي يتم الاتفاق عليها في تلك الفترة لا تجد حظها من التنفيذ خاصة اذا كانت الفترة الانتقالية قصيرة وتترك القضايا المختلفة والخلافية للحكومة المنتخبة التي تتمتع بسند برلماني وشرعية مقننة. لكن الحكومة المنتخبة يحكمها برنامجها وتحالفاتها لا القضايا التي تبلورت خلال الفترة الانتقالية.

وخير مثال على ذلك البرنامج الاقتصادي القومي الذي تم التوصل اليه ابان الفترة الانتقالية لانتفاضة أبريل من خلال مؤتمر قومي ترأسه مدير جامعة الخرطوم الاسبق الدكتور عمر محمد عثمان، لكن لم يتم العمل به لآن مثل هذه البرامج التي يتم التوصل اليها في مثل هذه الظروف تستصحب بعدا سياسيا في العادة وتسعى جهدها للوصول الى توافق، الامر الذي يجعل توصياتها فضفاضة وهي في النهاية ليست ملزمة للحكومة المنتخبة التي لديها برنامجها الخاص وأهم من ذلك حساباتها لما يجري في الملعب السياسي. أضف الى ذلك أن ايا من الفترات الانتقالية لم تتناول موضوع الدستور ولو من باب الاستفادة من حالة الاصطفاف الوطني خلف شعارت التغيير ووضع أسس للأستقرار وانما تركت هذه القضية للجمعيات التأسيسية العديدة التي أعقبت الانتفاضات ولم تنجز شيئا يذكر في هذا الجانب.

ومن ذلك أيضا قضية قوانين سبتمبر التي تصدر حزب الامة عمليات نقدها والمطالبة بالغاءها، لكن عندما تولى رئاسة الوزارة في الحكومة الائتلافية التي أعقبت الفترة الانتقالية وجد انه مقيد بالواقع السياسي الجديد. فالشريك الرئيسي الحزب الاتحادي الديمقراطي ليس ملتزما بالغاء تلك القوانين، كما ان الحزب الثالث برلمانيا وهو الجبهة الاسلامية القومية كان معارضا لفكرة الغاءها.

وجدير بالذكر هنا ان الفترة الانتقالية التي أعقبت اتفاقية السلام بين الحكومة والحركة الشعبية شهدت اجازة قانون الامن الذي يشتكي منه الجميع الان، علما انه أجيز بواسطة البرلمان الذي شارك فيه الجميع بمن فيهم ممثلو الحركة الشعبية والتجمع الوطني الديمقراطي، الذين فشلوا حتى في اثارة قضية الغاء المادة 126 المتعلقة بالردة. كما انتهت تلك الفترة بالانفصال اثر موافقة كل القوى السياسية على حق تقرير المصير ودون أن تربط موافقتها تلك باستفتاء شعبي مما يشير الى العقلية السلطوية المتجذرة في نادي النخبة بمختلف أطيافه في الحكم والمعارضة

للأسف لم يتم أي تقييم أو نقد جدي للفترات الانتقالية التي شهدتها الساحة من قبل القوى السياسية وذلك جريا على عادتها في قلب الصفحة والبدء من جديد. واذا كان هدف الفترة الانتقالية احداث توافق قومي للبناء الوطني فان ذلك لم يحدث كما تشير تجارب الفترات الانتقالية الثلاث التي مر بها السودان المستقل. واذا لم يحدث ذلك من قبل فما هو الضمان الا يتكرر ذلك الفشل وهل في أداء القوى السياسية حتى الان ما يشير الى احتمال تغيير هذه المرة؟

مالم تتم مواجهة هذه الاسئلة باستحقاقاتها يصبح الامر جريا وراء السراب.

انتفاضة أكتوبر 1964 خرجت بشعار "لا زعامة للقدامى"، الذي يعتبر مؤشرا الى نوع الصراع المحتدم بين قوى الحداثة والمحافظة، لكن ذلك الصراع لم يتطور اثر التوصل الى تفاهمات تمت على أثرها عملية الانتخابات في أبريل 1965 التي جرت الى حد كبير وفق قانون توافقي تجاوز فكرة تخصيص دوائر للعمال والمزراعين رغم تقليص سن الاقتراع الى 18 عاما ورفع عدد دوائر الخريجين، وهو ما يعود الى ثقل العلاقة المهنية، التي شكلت قنطرة تفاهم، بين خمسة من الوزراء القانونيين رغم خلافاتهم السياسية وهم المحجوب (أمة)، زروق (أتحادي)، أحمد سليمان
( شيوعي)، أحمد السيد (شعب ديمقراطي) وعابدين أسماعيل (يساري) كما لاحظ السفير البريطاني وقتها في السودان. من ناحية أخرى تميزت انتفاضة أبريل 1985 بصراع شرس في الجانب الايدولوجي الذي كان أبرز مجالاته قوانين سبتمبر. ومثلما حدث سابقا تم التوافق على القانون الذي أجريت على أساسه الانتخابات وليصبح البرلمان ميدان هذا الصراع.

تبقى النقطة الاكثر أهمية وهي ان نجاح انتفاضتي أكتوبر وأبريل يعود بصورة رئيسية الى ضغوط مجموعة من الضباط للأنحياز الى جانبها، لكن نفس هؤلاء الضباط عادوا كل بأنقلاب تجاوز المعهود في الانقلابات قبله.

والامر كذلك فلماذا لا يكون التركيز على العملية الانتخابية خاصة والفترات الانتقالية أثبتت فشلا في أحداث نقلة في عملية الصراع.

(يتبع)

asidahmed@hotmail.com

 

آراء