عفاف الصادق .. الموت ما هدَّ إلا هيكل الطين
_________
كنت في زيارة ودية لأبي عركي البخيت في معية نعمات مالك العظيمة الراكزة ونادر النذير الوراق شقيقي ومعلمي معنى الحياة، كان ذلك قبيل وفاة الأستاذة عفاف الصادق بأيام قلائل.. كعادته أكرمنا عركي بإفطار دسم وونسة حكيمة وودودة، تخللتها لحظات عناد محبب، ونقاش دافق ومثاقفة فريدة.. كيف لا، والجلسة بها أهل الجدل ذي الثلاث شعب، والمعرفة العميقة واللطف الجزيل ودفء الكلام وحلوه؛ حفر في التاريخ وتطواف في الجغرافيا والأماكن، بين مدني السُنِّي في الإنتفاضة، وخرطوم البلاد في الديمقراطية، وأمدرمان في نضال النفس الطويل، سبرٌ في أغوار علم الموسيقى والغناء، ونهلٌ من نهر الشعر الحالي. لم يفتنا العبور بمسارب الكفاح والمرور بمعاني المبادئ والثبات على المواقف رغم الوجع المقيم.
بعناده العاطف وإبتسامه الفنان، امتنع عركي عن حمل العود ونقرشة أوتاره، لكننا استعندناه، فإصرارنا على سماعه كان أقوى، أو، ربما زيارتنا مقامها عنده كان أرفع.
لم نطلب أغنية محددة، عدا ذلك، قدَّم لنا لحن حاذق، بكلمات ندية، كتبها في وصف محبوبته عفاف الصادق. قبل أن يغني قال إنه يفتقدها وهي في غربتها المجيدة، قال إنه يحتاجها بشدة ويراها في كل ركن بالبيت، ويسمع صوتها بين الردهات وعبر الجدران، غنانا وغناها، عزف عودها فعجمته وعوده، تلى كلماته فكانت حروفها..عجمتيني أجيب من وين الحروف تصطف عشان تقول وتوصف.. سجلناها ولكنه طلب عدم نشرها، ربما كان لديه شعور غامض أن أوانها يقترب، في ليلة تأبينها ربما، سيترنم بها..ستسيل حنجرته ذكرى وينساب حلقه حنين. تُرى كيف أمسى عركي ليلة مغادرتها الدنيا؟! وكيف أمضى سحابة نهاره وهي مسجية هناك على فراش الموت؟! في الغربة الكئيبة..البعيدة..الباردة بالوحدة والوحشة، والساخنة بلهيب الأشواق للأهل والوطن والديار.
عركي اليوم ينوي الغناء ضد العزلة.. ضد الموت.. من أجل الحرية والانعتاق والحب والذكرى، رغم قساوة اللحظات خاصَّها وعامها، خاصَّها عفافه وفقدها، وعامها المعتقلون والوطن، شهدائه وحاله ومآله وأوجاع أجنابه والغرغرينة في أطرافه. يغني في عيد الأم وفي شهر المرأة وفي تأبين عفافه.. يا للفراق ويا للمفارقات، يا للحزن الذي ينضح محبة وذكريات ومودة.. فما ماتت عفاف لكنها فاتت، يسابقها الخلود إلى الخلود، خلود ما أسلفت لخلود ما أتت، أما عركي فسيغني للجمال وللحياة، وبناتهم وأولادهم سيعزفون أناشيد الوداع وموسيقى الفقد، والناس فيما بينهم سيهدونهم الوجود والعزوة والمحبة والمسرة، وعلى الأرض السلام ولابنة الصادق حمد النيل الرحمة والمغفرة، وما تركته من كلام وشعر، وذكرى طيبة عزيزة و:
لسوف ترجع عطراً في الرّياحين أو نسمة تتهادى في البساتين
أو بسمة في ثغور الخرّد العين فالموت ما هدّ إلاّ هيكل الطّين
baragnz@gmail.com