ظللنا نعيش، لسنوات، في أتون حالة حيرة مطبقة. وهي حيرةٌ يزداد، استحكام حلقاتها، حول رقابنا، كل صبحٍ جديدٍ. فكلما فكرنا، واستعصى علينا إيجاد مخرج من حالة الانغلاق السياسي الراهنة، ازدادت حيرتنا، واقتربنا أكثر من حافة اليأس. وما أكثر ما تلقيت، وأنا أكتب، وأتحدث، حول المشكل السوداني، من أسئلة المتعلقة بالمخرج. وكثيرا ما سمعت ممن يقرأون لي، قولهم: لقد شخصت، وغيرك، الحالة خير تشخيص، لكن السؤال: ما هو المخرج. ولم تكن لدي إجابة، واضحة على هذا التساؤل، في أي مرة سُئلته فيها. لكن، في هذا المناخ السياسي الخانق، وفي أتون هذه الحيرة، خرج علينا الأستاذ، السر سيد أحمد بمقالٍ محكمِ السبك، مُلهِمٍ، محفِّزٍ، باعثٍ للأمل. ورغم أن إشارات وردت من كثيرين، إلى ذات الوجهات التي أشار إليها مقال الأستاذ السر سيد أحمد، إلا أن إشارته اتسمت بوضوح أكبر. كما أنها جاءت في وقتها.
وأحب أن أقول هنا، على المستوى الشخصي، إن هذا المقال، قد وصلني، ، في وقت أوشكت فيه عزيمتي على الوَنَى، وعلى الركون إلى بارقات اليأس، التي أخذ وميضها يشتد، في هذه الحلكة المدلهمة. ولذلك، عليَّ أن أتقدم، بدءاً، للأستاذ، السر سيد أحمد، بجزيل شكري، لإشعاله هذه الشمعة الوضيئة في داخلي.
وأحسب أن هذه الشمعة سوف تضئ، أيضا، هذا النفق المظلم الذي طال مكوثنا فيه. لكن، بشرط أن ننطلق مما طرحه، الأستاذ السر سيد أحمد، لندير حوارًا هادئا بناءً، بعيدًا عن الاتهامات، والمزايدات بالثورية، والبطولة، التي أكل عليها الدهر وشرب، وبعيدًا، أيضا، عن التنميطات، والاسقاطات العجولة، المعتادة.
لا غرابة، أن يرى الأستاذ السر سيد أحمد ما لم نر؛ أو لربما، ما لم أر أنا، شخصيا، على أقل تقدير. فلقد عُرف أستاذنا السر سيد أحمد، منذ فترة عمله في حقبة السبعينات، حين عمل في مجلة "سوداناو"، التي انتقل منها إلى صحيفة "عرب نيوز" السعودية، لفترة وجيزة، ثم إلى جريدة "الشرق الأوسط" في لندن. ولقد اتسم السر سيد أحمد، بالحيدة، والموضوعية، والحكمة، والتعقل. يضاف إلى ذلك، أن تلك السمات التي عرفها بها، يدعمها، أيضا، إلمامٍ دقيقٌ بتفاصيل التاريخ السياسي السوداني، وقدرةٌ على استحضار هذه التفاصيل، في لحظة ممارسة النقد الهادئ المبصر، الذي لا تحرفه عن مساره نوازع التفكير السياسي الرغبوي، المتعجل، ولا المنزلقات الموحلة، التي تعج بها مستنقعات الأيديولوجيا.
اختار السر سيد أحمد، لمقالته، التي نشرها، منجَّمةً، بصحيفة "السوداني"، وكذلك في صحيفتي "الراكوبة"، و"سودانايل"، الإلكترونيتين، عنوان: "مراجعات في المشهد السياسي". وقد بلغت حلقاتها الخمس. وأرى أن أهم ما في هذه المقالات، إشارته إلى ضرورة إحداث نقلة في تلمس الحل للمشكل السياسي السوداني. وهي نقلة، أصفها، من جانبي، بأنها "نقلة برادايمية"، Paradigm Shift. أي؛ نقلة من قبضة "دولة الأفندية"، التي تعود بدايات تخلقها النظري إلى مؤتمر الخريجين ثم شغلت، عقب ذلك، مجمل حقبة ما بعد الاستقلال، إلى دولة "الديمقراطية"، التي تتيح للجمهور المشاركة الفعلية، في صنع مستقبله، ثم حراسته.
دعا الأستاذ السر سيد أحمد إلى تخليق حقبة جديدة، يجري فيها العمل على تفعيل الشراكة الجماهيرية القاعدية، في إحداث التحول الديمقراطي. فقد نعى مقاله على القوى السياسية السودانية، حالة الصراع الطويلة، غير المنتجة التي، كما أشرنا، بدأت منذ مؤتمر الخريجين، واستمرت بعد الاستقلال. وهي حالة أعادت إنتاج نفسها، بصورة أسوأ، حتى عقب ثورتي أكتوبر وأبريل، اللتين تُعدّان ثورتان شعبيتان. وخص المقال بالنقد، على وجه الخصوص، فيما يتعلق بحالة الانغلاق السياسي الراهنة، نهج المعارضة في مقاطعة الانتخابات، التي ظل النظام يديرها، ويدعو إليها. ودعا المقال، قوى المعارضة، لأن تجرب طريق منازلة المؤتمر الوطني انتخابيا، رغم وعورة هذا الطريق، ومصاعبه الجمة، المتمثلة في سيطرة الحكومة المطلقة على آلياته، وتمرسها على التزييف.
ما من شك أن كثيرين سوف يقولون، إن طريق منازلة نظام المؤتمر الوطني عبر صندوق الاقتراع، طريقٌ نتيجته معروفة سلفا. كما أن الرحلة، حتى يؤتي ثماره، سوف تكون طويلة، حقا. وهذا قول صحيح، ولكن، لا عبرة به، في تقديري.
فالنظام بقي، عمليا، في دست الحكم، لثلاث عقود، تجنبت فيها القوى السياسية المعارضة، طريق منازلته انتخابيا، حين بدأ ممارسة الانتخابات. لكنها، أي المعرضة، لم تبرهن، في المقابل، حتى الآن، أنها قادرة على فعل شيء عبر الطرق الأخرى، التي ظلت تفضلها. وهي أساليب العمل المسلح، والانتفاضة الشعبية الشاملة، أو ما أسمتها: "الانتفاضة الشعبية المحمية بالسلاح". ويمكن القول، وبثقة كبيرة، الآن، إن خوض الانتخابات، في مواجهة حزب المؤتمر الوطني أضحى، من الناحية العملية، الواقعية، الخيار الوحيد، المتبقي لمخرج آمن. فحين يتعذر الخروج من باب ما، لحظة الحريق، ونحن نعيش الآن لحظة الحريق الحقيقية، فمن الحكمة البحث عن باب آخر، بدل إضاعة الوقت والجهد في محاولات فتح الباب، الذي وضح، جليًا، أنه صعب الفتح، أو غير القابل للفتح، أصلا.
الحلم بعودة أكتوبر، أو أبريل أخرى، في الواقع الراهن، حلمٌ لا يقوم، فيما أرى، على قراءة صحيحة للمتغيرات الكثيرة التي جرت في الثلاثين عاما الماضية. ومن تلك المتغيرات، على سبيل المثال، إتقان الأنظمة الشمولية فن البقاء في الحكم، عن طريق ضرب قوى المجتمع الحية الفاعلة وتبديد طاقاتها، وشرذمتها، واستتباعها، بمختلف الوسائل. فالحلم بأكتوبر وأبريل جديدتين، رغم هذه المتغيرات الكثيرة، الشديدة التأثير، يدل، في حقيقة الأمر، على حالة مزمنة من الانحباس العقلي، الرومانتيكي، في مجريات الماضي، ظنًا بأن حلقات التاريخ تعيد، بالضرورة، نفسها، على ذات النسق، بغض النظر عما جرى في السياق الأجد، من تغيُّرات جوهرية.
لقد انغلق، فيما أرى، باب الثورة الجماهيرية الشاملة، التي تتحدى القوة الغاشمة، وتجبرها على التخلي عن السلطة. والدلائل على ذلك بالغة الكثرة. وبعض هذه الدلائل جسدتها ثورات الإقليم، مثلما جرى في سوريا، وإيران، ومصر، واليمن، وليبيا. ويكفي أن نقول، إن مقتل طالب أو طالبين، كان فيما مضى كافيًا جدًا لأسقاط النظام، مثلما حدث لدينا في أكتوبر 1964. أما اليوم، فإن موت عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، لا يسقط أي نظام. فقد فشا القتل في الناس، في سائر أرجاء المعمورة، وتعود الناس، بسبب الإعلام الحديث، على مشاهد الدم والقتل. وعمومًا، لم تعد بشاعات العنف تحرك الناس، كما كانت تفعل في الماضي. لكن، رغم أن ظاهر هذه الحالة الجديدة الغريبة، يتسم بالشر، إلا أن في طواياها خيرٌ كثير. وخيرها هو أن نعرف، يقينًا، أن نهج إسقاط الأنظمة الشمولية، بالثورات الشعبية في الشارع، قد ولى زمانه. فالأنظمة لم تعد تهتم بالكم الذي تريقه من الدماء. أكثر من ذلك، لم يعد العالم، هو الآخر، يهتم كثيرا بذلك؛ لا في حكوماته، ولا في منظماته الإقليمية والدولية. بل إن المؤسسة الأمريكية القابضة، تؤمن بما أسمته "الفوضى الخلاقة" ليهلك من هلك ويحيا من يحيا، ليصب الخراب، في النهاية في جيب أمريكا.
من ناحيتي، أنحو إلى أن أقرأ التحولات التي تتسبب في إجهاض الثورات الشعبية، على أنها إشارة إلى وجهة جديدة، أو قل "برادايم" جديد. وهو ما تفضل بالإشارة إليه، الأستاذ السر سيد أحمد. ويبدو جليًا الآن، في الحالة السودانية، التي نحن بصددها، أن وقت هزيمة النظام الأمني، الديكتاتوري، المتسلط، المهيمن على كل شيء، عن طريق صندوق الاقتراع، قد أصبح هو الخيار العملي الوحيد. ولا غ ابة أن دعا كثيرون قوى المعارضة لتجريب هذا الخيار، غير أنها ظلت ترفضه. ومن حسن حظ الشعوب المقهورة، فيما أرى، أن اختارت هذه الأنظمة الأمنية القابضة القامعة، التمظهر بمظهر الديمقراطية، فاخترعت هذا النوع من الانتخابات الصورية. غير أن هذه الانتخابات الصورية، بكل علاتها التي نعرفها، يمكن أن تتحول، في لحظة ما، عبر الممارسة المجودة، المحكمة، من قبل القوى المعارضة، إلى انتخابات حقيقية. وبذلك، يمكن أن تتحول نفس هذه الآلية الزائفة، التي اخترعتها الأنظمة الأمنية لتشرعن بها وضعها، وتطيل بها من عمرها، إلى سبب في موتها. وما يؤكد هذه القراءة، ما أورده الأستاذ السر سيد أحمد في مقاله، وهو أن هذا النهج، قد جرت تجربته في عدد من الدول، في العقود القليلة الماضية، وأثبت نجاحه، ولكن، عن طريق المحاولات الدؤوبة المتكررة، والتحلي بفضيلة الصبر.
من أجل تقديم نماذج عملية لهذا المسار، لم يترك الأستاذ السر سيد أحمد مقترح منازلة النظام انتخابيا، معلقا في الهواء، وإنما استشهد عليه بتجارب حية، في دول إفريقية، وغير إفريقية. وكان أبرز ما استشهد به، في مواجهة وهزيمة الأحزاب القابضة المسيطرة، ما جرى في السنغال، من مواجهة الرئيس السنغالي الأسبق، عبد الله واد، لحزب ليوبولد سنغور المسيطر. فقد قرر عبد الله واد، في عام 1978 تحدي الحزب الاشتراكي الحاكم، بقيادة سنغور. فأسس حزبًا مناوئًا، خاض به الانتخابات الرئاسية، التي خسرها. ولكنه أصر على المواصلة، وكرر التجربة في أعوام 83، و88، و93. وفي انتخابات 1999، فاز في الدورة الثانية ليصبح أول رئيس للسنغال من خارج منظومة الحزب الاشتراكي.
ما قدمته هنا، ليس تلخيصا للمقال الوافي، الغني بالمعلومات، وبالاستقراء وبالتحليلات الذكية، الذي كتبه الأستاذ السر سيد أحمد، وجرى نشره في خمس حلقات. فالمقال موجود على صحيفتي "الراكوبة"، كما على صحيفة "سودانايل"، التي تتسم بسهولة استرجاع المقالات، عبر البحث في أسماء كتابها. وأدعو كل من يقرأ مقالي هذا، إلى أن يسعى لقراءة مقال الأستاذ السر سيد أحمد، التي يمكن الوصول إليها عبر هذا الرابط: https://goo.gl/VzzjRe ما أود القيام به، فيما هو مقبل من حلقات، هو محاولة الغزل على هذا النول، الذي غزل عليه السر سيد أحمد، مساهمته القيمة هذه. ولسوف أناقش، في الحلقة المقبلة، انصراف الأحزاب عن قواعدها، وانفصالها عنها. كما سأناقش حالة التشظي الحزبية التي شملت الحزب الحاكم نفسه، بل والحركة الإسلامية، وكيف يمكن استثمار هذه الحالة في تخليق قوة جديدة تسحب البساط من تحت أقدام المؤتمر الوطني. فالنصر لا يبدأ في القمة بكسب الانتخابات، أو كسب مقعد الرئاسة، وإنما يبدأ النصر في القواعد، بتوعيتها، وتنظيمها، وبث روح الأمل فيها، وتغيير وجهتها، وجعلها أكثر تماسكًا، وقوة، ومراسًا، ومن ثم، صب طاقاتها في مجرى المسار الجديد الصاعد.