عبد الكريم الكابلي: نورٌ مُبين

 


 

 

 

لم يعرف أحد كيف ذابت كل تلك المحاسن الإبداعية في شخصية واعدة ، لا يستطيع أحد توصيفها . اختار "عبد الكريم الكابلي" الشِعر الذي يوثق للتاريخ الثقافي ليتغنى به. رفض أن يحتفظ الشُعراء بكنوزهم بعيدة عن العامّة وأشجانهم . وضع فيها خميرته المُميزة بالغناء و التطريب ، ونقلها من الدفاتر والأوراق إلى نبض الجماهير وأحلامهم في غناء صادح ، و بنبرات فصيحة البيان.

(1)

نبش هو التُراث ، وجلب لنا أغانيه وأشعاره. وأضاف الكثير من إبداعه على الطيوب التُراثية ، وأكسبها رونقاً وجلالاً . اختار من أغنيات ما نسميها بأغاني "حقيبة الفن "، التي كانت الأسطوانات الفحمية تُحفظ فيها أغنيات مواضينا في حقيبة كبيرة ، منذ خمسينات القرن العشرين. وكان حامل تلك الحقيبة و هذا الطيب سعادة السفير السابق"صلاح أحمد محمد صالح " .يجلبها معه عند تسجيل البرنامج الإذاعي.
اختار " الكابلي" لنا من عيون أغنيات فناني المرحلة الوسيطة، التي كان هو دُرة سلسلتها، يتوسط الرونق الذي لم يزل في ضمائر وجداننا وحرزها الحصين . وغلب الأجيال الحالية من الشعراء، وتفوّق في قرض الشعر الذي يتحدث بلسان شعوبنا ، بلمسته الحانية وإخراجه الودود اللطيف .
اختار من تراث الشِعر العربي ، من الشِعر الأموي والعباسي . واختار لنا من شعراء النصف الأول من القرن العشرين . وأنطقها جميعاً وفق حنو السلم الخماسي وسلاسته ، وجوّد لحونه ، فكان رفيقاً بالنُطق العربي الفصيح ، يتتبع فراغات اللحن التي يستبينها من بين فقاعات موسيقى الشِعر ليرسم عليها. أظهر هو قدرته التي تفوقت على نفسها ، بتقريب هذا الشعر الفخم الجزل ، ووضع له ألحان توافق البيئة الثقافية السودانية .

(2)

اختار هو لنا من عيون شِعر المُخضرمين من الشعراء السودانيين ، وأنار ذلك الأرخبيل بوهج اللحن الصدّاح . وعرف العامّة شاعر الدهليز " توفيق صالح جبريل " ، بأيقونته المُزهرة " كسلا" ، كما عرفوا من قبل القلعة التي تسمى بها الحي الأم درماني المشهور :
نضّرَ اللهُ وجهَ ذاكَ الساقي إنه بالرحيقِ حَّل وثاقي
فتراءى الجمالُ مزدوجَ الإشراقِ يصبو ُمعَّدد الآفاقِ
و ابنة القاشِ إن سرى الطيفُ وهناً و أعتلى هائماً فكيفَ لَحاقِ
و الُمنى بين خصرِها و يديها و السنا في ابتسامِها البَّراقِ
كسلا أشرقتْ بها شمسُ وجدي فهي بالحقِ جنّةُ الإشراقِ
كانَ صبحاً طلقَ الُمحيا ندياً إذ حللنا حديقةَ الُعشاقِ
نغمُ الساقياتِ حرّكَ أشجاني و هاج الهوى أنينُ السواقي
بين صّبٍ في ِحبَّه متلاشٍ و حبيبٍ ُمستغرقٍ في ِعناقِ
ظلّتِ الغيدُ و القواريرُ صرعى و الأباريقُ بتنَ في إطراقِ
أأتني بالصبوحِ يا بهجةَ الروح ُترْحني إن كانَ في الِّدن باقِ
*
عرفنا كيف غرف من بركة الشاعر المُجيد " محمد المهدي المجذوب " ، وأتانا في زمن الترقُب لوهج أغنيات متصوفة ،وقد تدثرت بثياب التديُّن الشعبي ، تحكي كيف صنع التاريخ ملاءته الفضفاضة من عبق النور المُحمدي وأشعّ في أرجاء الكون :
درج الناس على غير الهدى
لا يبالون وقد عاشوا الردى
جنحوا للسلم أم ضاعوا سدى
أيكون الخير فى الشر انطوى
والقوى خرجت من ذرة هى حبلى بالعدم
أتراها تقتل الحرب وتنجو بالسلم
ويكون الضعف كالقوة حقا وذماماً
سوف ترعاه الأمم
وتعود الأرض حباً وابتساماً
ربّ سبحانك مختاراً قديراً
أنت هيأت القدر
ثم أرسلت نذيراً للبشر
آية منك ونوراً

(3)

نقل قصيدة الأديب " عباس محمود العقاد " من بين أسفار مجمع اللغة العربية بالقاهرة :
وهذا النور يبسُم لي
عن الدُنيا ويفترُّ
وأنظرُ لا أرى بدراً
أأنت الليلة ُ البدر
وبي سُكرٌ تملّكني
وأعجبُ كيف بي سكرُ
رددت الخمرَعن شفتي
لعل جمالك الخمرُ
*
وأوغل في القومية العربية عند ازدهار قادتها ، فكانت أغنية شاعرها " أبوآمنة حامد ":
قُم صلاح الدين وأشهد بعثنا
في لقاء القائد المنتصر
شعبنا الأسمر من فرحته
يزرع الدرب بحُبٍ أخضر
*
وغنى هو للوطنية في ثورة أكتوبر من أشعار " عبد المجيد حاج الأمين " :
هبت الخرطوم في جنح الدُجى
ضمّدت بالعزم هاتيك الجراح
وقفت للفجر حتى طلعا
مشرق الجبهة مخضوب الجناح
يحمل الفكّرة والوعد معا
والأماني في تباشير الصباح
فالتقينا في طريق الجامعة
مشهد يا وموطني ما أروعه

*
اختار أن يُغني للمرأة ، من أشعار " عيسى جربا" :
أي صوت زار بالأمس خيالي ؟؟
طاف بالقلب و غنى للكمال
واذاع الطهر في دنيا الجمال
و اشاع النور في صوب اليالي
انه صوتي أنا ,اوا تدري من انا ؟!
أنـا أم اليـوم أسـبـاب الهـنـا
أنـا مـن دنياكمـو أحلـى المنـا

(4)

من دفاتر أغنياته :

أكاد لا أصدق - أمطرت لؤلؤا - آسيا وإفريقيا - أغلى من عيني - أكيد ح نتقابل - السودان الجديد - الشيخ سيّرو - إلي متي يا قلب – أمير - حبك للناس - حبيبة عمري - خال فاطمة - خِلي العيش حرام - دمعة الشوق - روعة الليل - زمان الناس – زينب – سعاد – سكر – سلمى - شذى زهر - شربات الفرح - شمعة - ضنين الوعد - غزال الروض - فتاة اليوم والغد - فقدت حبيب - في طريق الجامعة - في عز الليل – كسلا - كل الجمال - كل يوم معانا - كنت في حفلة - لؤلؤة بضة – للذكرى - لو تصدق – لوإنت نسيت - ليس في الامر عجب - ليلة المولد - ما بنخاصم - ما تخجلي - ما خلاص نسيتنا – مرايا – مروي – مشاعر – معللتي – ناصر - نشيد التعاون - نوم عيني - هات لينا صباح - وصف الخنتيلة - يا جار - يا حلو - يا حليلك ياحليك - يا ستّار علي - يا نسيم قول للازاه - يا هناء – ياهاجر.

(5)

يقولون إن الفنان العظيم قد نجى ، قد كان على شفا حفرة حفرها الملفّحون بثوب الجهالة ، حين أضمروا للفن بيتاً من ورق ، تعبث فيه الريح كما تشاء . ونجى هو من الظلم المُبين الذي حاق بالجميع . كتب هناك في أرض ما بعد بحر الظلمات ، كتابه الإنكليزي " أنغام لا ألغام " .لن ننس ونحن نُضيء سيرته الخضراء ، بأنه باحث مُجتهد في التراث ، له إسهامات خلال خمسين عاماً من العطاء النثري والفني والغنائي . اشترك في إعداد برامج تلفزيونية ، وقدم مُحاضرات مُتخصصة في أشعار وأغنيات التُراث السودانية ، أصولها ومعانيها الغامضة لأبناء وبنات أجيال اليوم . استطال وتعملق ، فحجز لنفسه مقعداً بين النجوم ، ولم يزل مُتلألئاً مثلها.

عبدالله الشقليني

26 مارس 2018

alshiglini@gmail.com

 

آراء