تقديم المذكرات ضرب من ضروب السيرة الذاتية؛ لأنها تَعْرِضُ جوانب مهمة من حياة مؤلفها في فضاءات الحراك الإنساني المتنوعة، واصفةً دوره الاجتماعي والسياسي والثقافي، دون أن تتَقَصَّى مسيرته الحياتية بطريقة تاريخية مسلسلة، ونتيجة لذلك أضحت أقرب لما يسميه هجيل بـ"التاريخ الأصل" الذي يكتبه المؤرخ الشاهد الذي ينقل ما راه، أو ما سمعه من الآخرين، وبذلك يحوّل الأحداث من واقعها الساكن إلى تصور ذهني متحرك. وإنَّ عملية التصور الذهني لأحداث الماضي تخضع لصراع جدلي بين "الأنا" المتمثلة في الراوي، و"النظرة الغيرية" التي تشكل قراءة الآخرين للأحداث نفسها، فضلاً عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أحاطت بمجرياتها وأسهمت في تشكيلها. ومن زاوية أخرى نلحظ أن الخيط الفاصل بين المذكرات والتدوين المهني للتاريخ خيطٌ رفيعٌ، علماً بأن المذكرات توثِّق لجزء من أحداث الماضي حسب انتقائية الراوي؛ لكن المؤرّخ المهني يحتاج أن يقارن روايات الأحداث التاريخية بنظائرها من الروايات الأخرى؛ ليتحقق من صحة ثبوتها، ثم يعيد تركيبها، ويحللها في إطار الظروف الموضوعية المحيطة وفق منهج بحثي ملتزمٍ بالمهنية الأكاديمية. ولذلك يقول الدكتور حسن عابدين في مؤلفه الموسوم بـ حياة في السياسة والديبلوماسية السُّودانية: "ليس هذا الكتاب بحثاً أكاديمياً في تاريخ السُّودان المعاصر، أو حتى عن حقبة من حقبه الأخيرة. فمثل هذا يكتبه المؤرخون وفقاً لأصول ومناهج البحث العلمي. ولئن عدَّني البعض من زملائي وأصدقائي وطلابي في زمرة هؤلاء المؤرخين، بحكم التأهيل الأكاديمي، والتجربة المتواضعة في تدريس تاريخ السُّودان وإفريقيا. فإن ما أكتبه اليوم ليس تاريخاً، إنما هو شهادة على أحداث ووقائع تاريخية، وعلى تداعيات لها تاريخ ... شهادة على أقوال، وآراء، وروايات، ومواقف آخرين، هي كلها أو بعض منها مادة للمؤرخين لكتابة التاريخ." فالنصُّ الذي بين أيدينا الآن يُشبه ما كتب الدكتور حسن عابدين من ناحية التوثيق التاريخي، وإن اختلفت الأحداث المروية، والمواقف المشاهدة، والشخصيات المحورية، والأزمنه المجددة لديناميات الحراك الإنساني، والأمكنة العارضة لمجرياتها. والدليل على ذلك قول الأستاذ حسن أحمد الحسن نفسه:
"حظيت بالتواصل مع [الصحافي محمد علي] صالح في واشنطن، وكان يلح علىّ خلال تلك اللقاءات والمناقشات على ضرورة تدوين محاور بعض المشاهدات الإنسانية والأحداث السياسية التي عايشتها في مصر إبان حقبة معارضة نظام الإنقاذ الإخواني من القاهرة وعدد من العواصم، بوصفي شاهداً على بعض جوانبها، وكمراقب لتطوراتها في حقبة التسعينيات، وهي الفترة التي قضيتها في مصر لأكثر من عقد عندما كنت مراسلاً لصحيفة البيان الإماراتية، ووكالة يونايتدبرس في القاهرة، ضمن كوكبة من الصحافيين والمعارضين والناشطين في فترة من أثرى فترات العمل السياسي والإعلامي السُّوداني الخلاق، الذي رغم فشله سياسياً في إحداث التغيير المطلوب في استعادة الديمقراطية والحريات الأساسية إلى رحاب الوطن؛ إلا أنه أسهم في انضاج التجربة السياسية السُّودانية، وفتح آفاقاً جديدة للتواصل بين القوى السياسية السُّودانية من ناحية، وبين النخبة السُّودانية والمصرية من ناحية أخرى."
إذاً ما دوَّنه يراع الأستاذ الصحافي حسن أحمد الحسن له قواسم مشتركة من حيث الطرح السياسي وكيفية التوثيق مع بعض المذكرات السُّودانية، مثل مذكرات خضر حمد (1910-1970م) ، ومذكرات الدرديري محمد عثمان (1896-1977م) ، ومذكرات محمد أحمد محجوب (1908-1976م)، ومذكرات أمين التوم ساتي (1914-2004م). نعم إنَّ الأستاذ حسن لم يتقلد مناصب دستورية في الحكومات السُّودانية المتعاقبة مثل هؤلاء، ولم يكن من رواد جيل الحركة الوطنية، لكنه كان ناشطاً سياسياً في حزب الأمة، ومديراً لتحرير صحيفة الأمة الناطقة باسم الحزب، ثم رئيساً لتحرير صحيفة الأنباء الأسبوعية أبان التجربة البرلمانية الثالثة (1985-1989م) في الخرطوم. وفي فترة المعارضة السياسية ضد حكومة الانقاذ خارج الخرطوم عمل الأستاذ حسن محرراً ومراسلاً لصحيفتي الشرق القطرية والبيان الإماراتية في القاهرة، وبعد انتقاله من القاهرة إلى واشنطن عمل محرراً ومذيعاً في القسم العربي بإذاعة صوت أميركا، ثم معداً ومقدماً للأخبار في مؤسسةMBN التابعة لمكتب الإذاعات الأميركية والخاضعة لإشراف وزارة خارجيتها. وتتمثل القواسم المشتركة بين الأستاذ حسن والسلف الوطني في الرؤية الحزبية للأحداث التاريخية، أي بمعنى أن الراوي حاول أن يوطِّن لنشاطه السياسي والثقافي والاجتماعي في إطار الحراك السياسي الذي عايشه والحزب الذي ينتمي إليه، ويوضح رؤية الحزب وتقيمه للأحداث التاريخية وفق منطلقاته السياسية، مع أصطحاب بعض المواقف والرؤى السياسية الأخرى التي كان شاهداً عليها، أو مراقباً لمراحل تشكلها في محيط الواقع. لكن هذا المزاج السياسي المشترك بين النخب الحزبية لا يمنعنا القول بأن مذكرات الأستاذ حسن قد مازت نفسها عن مذكرات الآخرين التي أشرنا إليها في أربعة جوانب: أولاً: تعتبر مذكرات الأستاذ حسن أحمد الحسن مذكرات لاجيء سياسي، هجر وطنه نتيجة لسياسة النظام العسكري الانقلابي الإقصائية تجاه الخصوم السياسيين؛ لدرجة جعلت مصير بعضهم القتل، أو السجن، أو التعذيب، أو اللجوء خارج السُّودان. وعن مرارات اللجوء السياسي يبتدر المؤلف صفحة الهجرة القسرية بقوله:
"إن احساسي بالرحيل عن مدينة أم درمان الأم إلى القاهرة ... بعد وقوع انقلاب الإخوان في بدايات إلياذة النجوع يختلف في ظاهره وباطنه عن الرحيل عن غيرها؛ لكونه يحمل مخزوناً خاصاً ومختلفاً من الذكريات التي شهدت على تفاصيل الطفولة والصبا، كان ذلك في صباح اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام تسعة وثمانين أي بعد شهرين من وقوع انقلاب الإخوان بزعامة البشير، كنت في طريقي إلى مطار الخرطوم صوب القاهرة في رحلة طويلة، وممتدة، ومتشعبة، لم أكن أعلم أنها ستستغرق حتى خروج هذا الكتاب أكثر من ربع قرن، هي عمر نظام الانقاذ بكل قراءاته ومحطاته وإفرازاته حتى اشعار آخر ."
وفي حديثه الماتع عن أم درمان وثَّق المؤلف لطرفٍ من تاريخ المدينة العريق، ولطرف آخر من سيرته الذاتية وعلاقته بالمدينة التي أحبها. وفي مواقع أخرى من السيرة يُشرك المؤلف القارئ في تذوق رحيق الأمكنة التي عاش بين ظهرانيها، وطبيعة الانطباعات والآثار التي تركتها على جدارية عمره المهجري سواء كان ذلك في قاهرة المعز، أو واشنطن. وفي بعض منعطفات المهجر السياسية تتقاطع مذكرات حسن أحمد الحسن مع مذكرات علي أبوسن (المجذوب والذكريات)؛ إلا أن الفرق بين الاثنين يتمثل في أن الأول كان راضٍ عن أداء الإمام الصادق المهدي في قيادة حزب الأمة؛ والثاني كان قادحاً في قيادة السيد محمد عثمان الميرغني، للحزب الاتحادي الديمقراطي الذي ينتمي إليه. ويتجلى ذلك في خطابه المفتوح للميرغني، قائلاً:
"وما زال الاتحاديون يتذاكرون كيف أن رجالاً شرفاء مثل الأساتذة ميرغنى سليمان، وأمين عكاشة، وغيرهم شباب كثير، كانوا من أقرب الناس إليك، ضقت بنصحهم المخلص فضاقوا بك، وجفوتهم فجفوك، وأبعدتهم فأبعدوك. وما زال الاتحاديون يتذاكرون كيف سقط وفارق الحياة بفعل الغيظ، وجرح الكرامة، والضيم، رجال أعطوك من جهدهم ومالهم وذات أنفسهم ما شهد به الأعداء، ثم فوجئوا بالخذلان والعقوق؛ لمجرّد إبداء رأي مخالف لك. منهم د. عثمان عبد النبي، وإبراهيم حمد، ويوسف أحمد يوسف، وغيرهم كثير."
فلا جدال في أنَّ قضية صراع السُّلطة والقيادة السياسية قضية شائكة، ولذلك تمنيت لو وثَّق الأستاذ حسن أحمد الحسن لأسباب الصراع بين السيد الصادق المهدي وبعض قيادات حزب الأمة، والمخرجات التي ترتبت على ذلك، علماً بأنه تناول طرفاً من موقف الأستاذ علي أبوسن تجاه الميرغني وقيادته السياسية للحزب الاتحادي الديمقراطي؛ وتطرق لأسباب الخلاف بين المهدي وقرنق. فشهادة الحسن عن الأسباب والمسوغات التي أفضت إلى الانقسامات السياسية التي شهدها حزب الأمة كانت ستضفي بُعداً آخر على هذه المذكرات، وترقى بقيمتها التاريخية؛ علماً بأن المؤلف كان شاهداً لصيقاً على معظمها، إن لم يكن طرفاً فاعلاً من أطرافها المتصارعة. ثانياً: تعكس هذه المذكرات شذرات من حياة الأستاذ حسن أحمد الحسن السياسية والصحافية في القاهرة، وواشنطن، والدوحة، حيث اشترك في كثير من المواقف والمشاهد السياسية، بحكم وضعه الصحافي أو انتمائه لحزب الأمة، فضلاً عن أنه كان شاهد عيان على بعضها، ومراقب حصيف على بعضها الآخر. وهنا تكمن قيمة العمل التوثيقي لنشاط المعارضة في القاهرة وواشنطن، والشخصيات الفاعلة في قيادة العمل المعارض على المستوى الحزبي، والعسكري، ومؤسسات المجتمع المدني. وفوق هذا وذاك توثيق المؤلف لدور حزب الأمة في المعارضة، وعلاقته مع التجمع الوطني الديمقراطي، والقيادة الشرعية للقوات المسلحة، والحركة الشعبية لتحرير السُّودان، وطبيعة مفاوضاته مع النظام الحاكم في الخرطوم. ويستقيم ميسم التوثيق بملحوظاته وتعليقاته الثاقبة عن الدور المصري في دعم المعارضة السياسية في القاهرة، ووسائل العمل السياسي المعارض، وقنوات التواصل بين القيادات السياسية وجماهير الشعب السُّوداني، وكذلك الحال بالنسبة للفترة التي قضاها في واشنطن، حيث وثَّق للعمل السياسي في أوساط الجالية السُّودانية، وطبيعة علاقتها بمؤسسات الدولة والمجتمع المدني الأمريكية. ثالثاً: تحتوي هذه المذكرات بعض المقالات التي نشرها المؤلف في مناسبات مختلفة وعبر وسائط صحافية متعددة. ومن أكثرها إمتاعاً ومؤانسة حديثه عن سير بعض الشخصيات السُّودانية التي قدَّم لها بقوله:
"السُّودان وطن يذخر بنوع نادر من الرجال والنساء، قلما تجد شبيها لهم؛ لكنهم يمضون في تواضع كالأنجم، بعد أن يهدوا الناس طريقاً للعبور إلى غاياتهم. دائماً ما يكون رحيلهم في صمت؛ إلا من ضجيج الحزن وجلبة الفقد ومأساة فراقهم، لمن سعد بصحبتهم، وعشق لحظاتهم النادرة، ونال من خصوصيتهم المتفردة. ومنهم من لا يزالون أحياءً يتجددون من خلال أعمالهم وآثارهم، كالشمس في كل صباح تتفاوت درجات دفئهم وإشعاعهم؛ لكنهم يظلون دوماً كل في مجاله مصدراً للفكر والإبداع، ووقوداً نووياً للخلق والتميز، تضاء بهم دروب المعرفة وتزدهي بهم الساحات. ورغم تكاثف الضباب يظلون أنجماً في سماء هذا الوطن ... من مضى منهم يظل حاضراً، ومن بقي يظل مؤثراً في التفاصيل."
وهنا يقدم المؤلف شذرات عن سير رهط من هؤلاء النفر، ونذكر منهم الدكتور عمر نور الدائم، والفريق فتحي أحمد علي، والأستاذ علي أبوسن، والأديب الطيب صالح، والأستاذ الطيب محمد الطيب، والأستاذ التجاني الطيب بابكر، والصحافي المصري يوسف الشريف. وإلى جانب هؤلاء سجل المؤلف انطباعاته عن صُنَّاع السياسة العالمية، ودرجة تواضعهم على المستوى الشخصي، حيث وقف عند مشاهد مختلفة لبعضهم، ونذكر منهم سيدات الخارجية الأمريكية: مادلين أولبريت، وكونداليسا رايس، وهلري كلنتون، فضلاً عن دينس روس، رائد الديبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط. رابعاً: ضمت مذكرات حسن أحمد الحسن بين دفتيها جزءاً نفيساً من الوثائق السياسية والمذكرات، والقصاصات الصحافية المرتبطة بعمل المعارضة السُّودانية في الخارج، فلا غرو في أنَّ هذه النصوص الوثائقية ذات قيمة تاريخية بالنسبة للباحثين في مجال العمل السياسي المعارض خارج السُّودان. وفي الختام تبقى لنا كلمة أخيرة، ذروة سنامها التهنئة الصادقة للأستاذ حسن أحمد الحسن على إخراج هذا السفر القيم في أدب السير والمذكرات إلى دائرة الضوء؛ لأن طرفاً منه يشكل توثيقاً لنشاط المعارضة السُّودانية في الخارج (مصر، وإرتيريا، وأمريكا)، وموقف حزب الأمة من بعض القضايا التي كانت مطروحةً على طاولة التداول السياسي السُّوداني، وطبيعة علاقات المعارضة بالدول المضيفة. آمل أن يكون إصدار هذا السفر حافزاً للآخرين، الذين عاصروا المؤلف في القاهرة أو واشنطن؛ ليدونوا شهاداتهم عن تلك الفترة، وبذلك يسهموا في تكتملة الصورة، وتقديم مادة أولية للباحثين في تاريخ المعارضة السُّودانية ونظام الحكم في السُّودان.