بينما كنت أقلب بين صفحات كتاب ذكريات د. يوسف بك النحاس في السودان ، توقفت مَلِيَا أمام الخطاب المفعم بالحماسة و الرجاء و الشجاعة والذي ألقاه القيادي الرمز في الحركة الوطنية الأستاذ حسن عوض الله سكرتير النادي أمام ضيفي البلاد يوسف بك النحاس و رفيقه خليل مطران في الأمسية الفريدة الخالدة التي نظمها نادي الخريجين لهما ، و تناولناها مسبقا بشيء من الأسهاب و التفصيل في الجزء الأول من هذا المقال . مواصلة للحديث عن تلك الليلة و قبل أن أدلف بالتحليل لهذا الخطاب المميز يجدر بنا الأشارة و التذكير و ربما إنعاش الذاكرة و رسم صورة تقريبية للقارئ الكريم عن مواقف و بطولات و طبيعة شخصية هذا القيادي الذي ملأ كل ساحات النضال و الجهاد الوطني و هو يذب عن الضعفاء مظالم الأستعمار الأنجليزي وينوب عنهم للمطالبة بحقوقهم و تحقيق رغباتهم . كان الأستاذ حسن عوض الله من قيادات الرعيل الثاني من الحركة الوطنية إذا ما أعتبرنا أن رموز و قيادات جمعية اللواء الأبيض هم الرعيل الأول ، و كان أيضا أحد الدعامات الرئيسية التي قام عليها مؤتمر الخريجين . عُرف حسن عوض الله بين أقرانه بأنه القلب النابض و الماكينة المحركة لكل حراك شعبي قصد به طلب الحريات و الحقوق المستلبة من قبل الأنجليز خصوصا عندما تولى منصب السكرتير بالأنابة . كانت السكرتارية في أيامه شعلة من النشاط بلا حدود ، جعلها الأستاذ بوتقة تنصهر فيها كل اللجان الفرعية في الأقاليم ، و بسبب حرصه الدائم على مراسلة كل المسؤولين في تلك اللجان الفرعية و إطلاعهم على آخر المستجدات في الساحة السياسية و الأجتماعية و الثقافية و تنويرهم أيضا بدورهم فيها ، أمتلك الأستاذ حسن عوض الله رصيدا عظيما من الصلات الشخصية بين كل الفئات ، قيادات كانوا أو من الجماهير . كان رجلا عصاميا نبيلا بكل ما يحويه هذين الوصفين من معاني ، يحمل بين جنبيه هموم الناس و مطالبهم و حقوقهم ، وكذلك أيضا حمل هموم نجاح منظومة مؤتمر الخريجين و تثبيت و ترسيخ دورها كممثل شرعي و صوت أصيل و حقيقي للشعب السوداني ، مناهضا في ذلك كل خطط الأنجليز لتهميشها و أضعافها . يذكر له التاريخ كيف أنحاز للجماهير و قاد بنفسه حملة إنقاذ منكوبي فيضان 1946 الشهير و الذي تضرر منه الألاف من الناس بعد أن غمرت مياهه العديد من المدن و القرى . في تلك الحملة نشط الأستاذ على المستوى المحلي في أستنهاض الأمة للمشاركة في جمع تبرعات شعبية لتغطية العجز و الخسائر التي تكبدتها الدولة و المواطنين ، و قام على المستوى الدولي أيضا بالتواصل سريعا مع أسماعيل الأزهري الذي كان وقتها في مهمة وطنية بالقاهرة ليحثه على ضرورة قيامه بأتصالات عاجلة مع الحكومة المصرية لأرسال مساعدات عاجلة للمتضررين من ويلات هذا الفيضان . كما أن الأيام لن تنسى له أيضا و لزميليه في مؤتمر الخريجين أحمد خير المحامي و محمد أحمد المرضي قيادتهم أول أضراب مدني للمزارعين وكان في العام 1946م بغرض تحسين أوضاع المزارعين المعيشية من مال الأحتياطي الذي أنشيء عقب الأزمة العالمية في العام 1929م نظرا لعدم أستقرار كميات المحصول و أنخفاض الأسعار و تكدس المال العام حتى بلغ مليون وثلاثمائة في الوقت الذي كان فيه معظم المزارعين مدانين فيه بمبلغ 600 ألف جنيه لشركة الجزيرة ، فوجهوا بذلك عبر هذا الأضراب ضربة موجعة للأنجليز . و عندما صار الأستاذ حسن عوض الله وزيرا للزراعة في الحكومة الأنتقالية التي كانت تتهيأ لإعلان الأستقلال ، كان أول قرار يصدره هذا الرجل الوطني هو فك الرقعة الزراعية الكبيرة التي تزخر بها البلاد للقطاع العام و لعامة الشعب السوداني بعد أن حال الأنجليز بينها و بينهم ، و كان يحتكر توزيعها لرجال الطوائف و القبائل مع ضمان تمويلها من البنوك و الشركات الأجنبية ليشكل بهم طبقة أرستقراطية أحتكارية يسهل السيطرة عليها و ضمان ولائها . و ربما لا يستقيم العود ولا يصح البيان لأنهاء الحديث عن مآثر و مواقف الأستاذ وهي قطعا كثيرة ولا تستطيع هذه المساحة من هذا المقال لأيفائها حقها كاملا منا ، إلا بذكر قصة الطلب الذي تقدم به أيام الحكم الأنقلابي العسكري الأول بمنحه قطعة أرض زراعية يقيم عليها مشروعا صغيرا يعتاش منه عيشا كريما و هو حق تكفله له مواطنيته و سودانيته عندما كانت للمواطنة و حمل الجواز السوداني قيمة و معنى ! كان الأستاذ وزيرا للزراعة قبل هذا العهد لكنه لم يمنح لنفسه موقعا زراعيا ليقيم عليه مشروعه و آثر أن يمنح البسطاء و الفقراء الأراضي الزراعية و يحرم نفسه من ذلك الحق ، ثم عندما أصبح مواطنا عاديا بعد الأنقلاب تقدم بالطلب فضيق عليه و على كثير من القيادات و الرموز التي كانت تمثل العهد الديمقراطي الأول البائد . سقط نظام عبود بثورة أكتوبر و عاد الأستاذ مع عودة الديمقراطية الثانية و قد تبوأ منصب وزير التربية و التعليم فإذا به يفاجأ يوما و هو بالوزارة بخطاب يصله من وزارة الزراعة يفيده بقبول طلبه و تخصيص مشروع زراعي كبير له في أقرب المناطق و أخصبها أستجابة للطلب الذي أرسله في فترة الحكم العسكري . نادى الأستاذ على أحد معاونيه و أملى عليه هذا الخطاب الموجز ليرسله لوزارة الزراعة ولكل من يهمه الأمر ........ السيد مدير الزراعة الألية .... تحية طيبة .... إشارة لخطابكم بالتصديق لي بالمشروع الزراعي ، أود أن أفيدكم بأنني عندما تقدمت بالطلب كنت بلا عمل ، و أنا الآن أشغل وظيفة وزير التربية و التعليم لذلك امل أن تتكرموا بأعتبار طلبي السابق لاغيا و أن تمنحوا المشروع لمن هو أحق وأولى مني والله الموفق ، و تفضلوا بقبول أسمى أعتباري . حسن عوض الله وزير التربية و التعليم ************* وقف الأستاذ حسن عوض الله ليخاطب الضيفين و الجمع من حولهم بكلام حمل كثير من الدلالات السياسية و الثقافية و الأقتصادية محاولا أن يضع أمام يوسف بك النحاس و رفيقه خليل مطران كل الهواجس و الآمال و الطموحات التي كانت تعتمل صدور كثير من السودانيين . قال لهما بروح المناضل الثائر لكي يوضح لهم عبقرية و رمزية المكان الذي نظمت لهما فيه الأمسية الأحتفائية : أن هذا النادي بمدينة أم درمان له زعامة كل أندية الخريجين المنتشرة في كل أقاليم البلاد ، فهو مركز البعث الذي ترفع منه أعلام الجهاد ومن حرمه تطل منارة المؤتمر الهادية تسكب الضوء في طريق الجيل الجديد المتطلع الى مرافيء التحرر و النور ، و لذلك فمن لم يزر هذا النادي لا يعتبر قد عرف السودان . نظر الى مطران خليل بأبتسامة عريضة ثم قال له : ( لقد عرف هذا الجيل في مطلعه مطران العظيم فأعجب بمعانيه في شعره ، ثم شب هذا الجيل و كبر و كبرت معه في ذهنه معاني مطران ، فزادت في نفسه روعة شعره روعة ، و تجلت له عظمة بلائه من أجل لواء التجديد في الشعر ) . هنا يتبين للقارئ لهذه الكلمات الأفتتاحية كيف أراد الأستاذ أن يوضح لهذا الشاعر العربي الكبير أن المتعلمين و المثقفين في السودان مرتبطين منذ المهد بالثقافة العربية و الشعر العربي خصوصا ، و كيف أنهم يقرأون و ربما يحفظون له شعره ، بل و يستطيعون تمييز دأبه و جهده المتواصل لوضع بصمة التجديد في حركة تطور هذا الشعر على أمتداد العصور . يواصل الأستاذ في حديثه متغزلا في مطران و شعره قائلا : ( ولقد كان مطران من أحدى أرهاصات الجامعة العربية ومن حداتها المخلصون الصادقون الذين لم تشب مرماهم شهوات السياسة و أهوائها ، و ما يميز شعره أنه أستطاع أن يزاوج بين وحي لبنان الفيحاء و ضفاف النيل المشرقة الوضائة ، بين وحي الأرز و بين ما في مصر الخالدة من مادة و من إلهام ) . ثم جاء الى قلب الرسالة التي أراد أن يسمعها الشاعر الكبير بعد كل هذه المقدمة الغزلية العريضة في شخصه و شعره : ( لقد كنت أيها الضيف الكريم وسيط العقد في نظام الشرق المرموق لا عن زهو نفس أو مطمع أو هوى و لكن عن ولاء أكيد و عن رعي وثيق للذمام ، أو رأيت اليوم من تمام الذمام أن تهبط على الوادي لتكمل رسالة شاعر القطرين ؟ ) . ثم يواصل الأستاذ حسن عوض الله كلامه لمطران بعد علت حنجرته بالحماسة و الأنفعال : ( الدم عربي و اللسان عربي وشيجتان لا أنفصام لربط السودان بالمجموعة العربية ، و الشرق العربي يتوحد اليوم و يجتمع لنيل حريته و تركيز نهضته على أساس التعاون المشترك ، ولقد خفق السودان لحادث لبنان ، و أنهمرت دموعه لفلسطين قبل لبنان ، كما أن رابطته بمصر رابطة طبيعية لازمة ، و لكننا رغم ذلك فأننا نجد العرب في غير مصر لا يذكرون السودان و لا يعرفونه ، فهل يؤدي عنا الضيف الكريم أن قطرا عربيا عدد سكانه ضعفي عدد سكان العراق و ثلاثة أضعاف سكان سوريا و لبنان و خمسة أضعاف سكان فلسطين لا يمكن أن يولي ظهره شطر الشرق ليتجه نحو يوغندا و تنجانيقا و الكاب ) . ثم نظر الى يوسف بك النحاس بأبتسامة ملؤها الثقة و الأرتياح و السعادة و قال له : ( أما أنت يا أبن النيل ، يا رجل الأقتصاد و الأنجاز ، لقد عرفنا طول باعك في تدعيم صرح الأستقلال الأقتصادي في وادي النيل شماله و جنوبه ، و دأبك في صمت بليغ في رسم الخطط و مشاريع العمران ، و أستثمار ثروة النيل الخصيب ، و الأشراف الدقيق على الأنجاز . لم يبهرك ضجيج السياسة ، ولم يشقك بهرج الشهرة و الأعلان ، بل أردت أن تترك أعمالك تتحدث ، و علمت أنها سوف تينع و تزهر و تؤتي ثمراتها يوم تتلاشى الأضواء السياسية ، و تخفت أضواء الشهرة الزائفة ، و يزول الأعلان الكذوب ) . بعدها جاء الى بيت القصيد في رسالته فقال له : ( لقد أستبشرنا ببعثتكم الأولى ، و ترقبنا و نخشى أن يطول الأنتظار ، وليس من شك في أنك رميت ببصرك فرأيت جدبا حيث أن يجب أن يكون خصبا ، و رأيت متربة و مسغبة حيث يمشي الناس على أرض من الذهب ) . نحن أبناء هذا الجيل لا نعذر و التاريخ لا يغفل تقصير الشقيق الأقوى المتأهب الذي تتوفر له أدوات العمل لأعمار و تشييد الخراب في منزل أخيه الشقيق ، كما إن إيماننا بحقوقنا راسخ لا يتزعزع ، لذلك لن نعذر أنفسنا و لا الأشقاء في مصر مظاهر التردد و الغفلة و الأهمال . فلو أتحدت منا العزائم لأزلنا من الطريق أوعاره و أوضاره و حينئذ نكون جديرين بنعمة النيل و بشرف الأنتساب للنيل .... ثم أنشد : عار على إبن النيل سباق الورى مهما تقلب دهره أن يسبقا لا تعنيني كثيرا الحالة النفسية التي تتلبس بعض الأنتلجنسيا في مصر و السودان من دعاوى روح الأستعلاء أو الرفض للأخر ، بقدر ما يهمني و ربما يهممني أن أجد نفس هذه النخبة وقد عرفت كيف يمكن أن تتجاوز حقل الأشواك لهذه العلاقة الأزلية قبل عقود طويلة و أصر أن يسير من جاء بعدهم في هذا الحقل ليخلق حالة من الأرتباك و عدم النضوج و التأرجح بين الحب و الكراهية ميزت شكل هذه العلاقة و جعلتها حبيسة هذا السجن المظلم لفترات طويلة .