شهد "الشاعر محمد ود الرضي " عند طفولته، أيام حكم الخليفة عبدالله " نهاية القرن التاسع عشر. وتفتحت عيونه أياماً عاشها السودان بلا أفراح . كانت تُضرب الطبول لمقدم جيوش المهدية أو لمغادرتها إلى ميادين الحرب ونفرة القتال ، ودون ذلك لم تكُن يدٌ ممدودة للأفراح أو الغناء .
يقولون إن الأربعة سنوات الأولى من الطفولة تُشكل شخصية المرء، وتسير معه إلى بقية حياته . في سنواته في منتصف العشرية الثانية من القرن العشرين ، بعد أن تيسر استقرار الحكم الثائي . جاءت السلطة الجديدة ، وحملت من بعد القهر ، بذرة مُتطورة لأساليب الحياة الاجتماعية ، وتم تحديث البنية التحتية الجديدة وتم تحديد مساحات البيوت والطرقات ، ومسح مناسيب الأرض وعمل طرق وسكك حديد ووابورات للنقل النهري . دخل التخطيط المساحات السكنية والطرق والأسواق، كما دخل الاقتصاد الحديث والتجارة للحياة الجديدة . وأقيمت المنشآت والجسور وخزان سنار وميناء بورتسودان . وبدأت من بعد العقد الثاني من القرن العشرين تتشكل الطبقات الجديدة التي احتاجت فناً غنائياً جديداً ، متطوراً عن"الدوبيت" و"الحُمبّي "، وبدأ الغناء الجديد بمقدم " محمد ود الفكي " من " كبوشية ".
(2) بعد دراسة شاعرنا القرآن في " الخلوة " ، بدأ العمل مع والده في الزراعة في منطقة "العسيلات" بشرق النيل . ثم هجرها لزيادة تكلفة الحياة الأسرية وأعبائها . وانتقل للعمل رئيساً للعمال الذين يشتغلون في تشييد خزان " سنار " . بعدها شقّ عليه العمل وفُرقة الأهل والصحاب في موقع الخزان ، وجاء للعاصمة وعمل بائعاً لثمار " القرع " في السوق ، ثم انتقل للعمل كاتباً في مصلحة الري المصري بمنطقة " الشجرة " في أطراف الخرطوم القديمة . لم ينتظر كثيراً وبعدها تحول إلى مصلحة الوابورات في مدينة بحري ، وعمل في وظيفة أمين مخازن . هذا النمط من الحياة ، بدأ فيه عاملاً زراعياً ، وتطور مهنياً حتى صار ضمن الطبقة المتوسطة بمقاييس زمنه . وحمل ثقافة الطبقة ، وبالتالي آدابها . وعند التقائه بشعراء العاصمة الذين ينطقون بثقافة الطبقة المتوسطة ، ووجد نفسه بينهم . تميّز شعره بالسلاسة والنقاء وكثافة التعبير والاقتباس من التصوير البلاغي القرآني . لم يكن أي من الشعراء في مجتمعه ذاك يصرّح باسم محبوبته . وقد استخدم الشاعر وكذلك أترابه الرمز في الأحرف الأولى لاسم المحبوب على نظام حساب أبجد . وفي نظمه قصيدة " ست البيت " ، عني بها المرأة الزوجة ،وقد أبرز الكثير من الصفات التي كان يراها تُميّز الزوجة المثالية: مسلكها، علاقتها بزوجها، اهتمامها بجمالها، وحياتها ضمن التكافل الذي كان يعيشه المجتمع .
(3) وكانت قصيدة " ست البيت " هي قصيدة الزوجة النموذج التي يراها الشاعر، وفق مقاييس مجتمعه ذاك، ووفق رغباته الشخصية في زوجة أحلامه. يصف الشاعرالزوجة وهي تعيش التكافل الاجتماعي بين جاراتها . تتفقد البيت وتلحظ بعين دقيقة كل احتياجات أسرتها . وذكر الشاعر أنه يشكر صنيعها في غيابها إعمالاً للمثل العامي (الشكروه قِدامه نبَّذوه ) . وصفها الشاعر بحلاوة الحديث، رغم أنها سكوتة منذ نشأتها ، ولكنه السكوت عن فهم وادراك ، ولم تكن بليدة الفهم. وصفها الشاعرأيضاً بالرقي والنظافة والنظام و رعايتها أطفالها وطاعة زوجها. كذلك وصفها الشاعر بأنها لا تحسب عيوبه ، ولا تُحب المغالطة . طيبة العُشرة ، جميلة التقاطيع وجميلة الفعال . تُكرم كل أضياف زوجها، من الأقرباء أو الصحاب وذلك تقديراً له. كانت المرأة في نظره هي الطيِّعة مثل البنان و تهتم بموجبات زينتها، رغم كِبر سنها وقد صارت جَدّة . وهي التي تشكر زوجها حين يشتري لها الكساء. في حياتها لا يراها تقضي وقتها حزينة تُكثر الحداد على الأموات ، بل مُفرحة لزوجها ، تعتني بمتعته الدافئة وسروره . ويصرِّح الشاعر بمحبته لسيدة عمره ، التي يري فيها أنموذجاً للزوجة سيدة الدار أو " ست البيت ".
(4) ست البيتْ اريدا براها ترتاح روحي كل ما اطراها ست البيت قالتْ جارتَا مجاوراها تجي شايلة وتجي مزاوراها تلحظ احتياجنا براها نَشكر سعيّها بى وراها ست البيت ربنا بالجمال كافاها لامِن قال قواما كفاها المسرورة ِمي تافاها ياحلاة الكلام في فاها ست البيت مِما ربّنا أنشاها ما بات بغبينة حشاها حاشية الرِّيبة ما بتغشاها ما قالولا بِسْ حاشاها ست البيت راقية سكوتة من ميلادا مو سكاتاً تنوبو بلادة نضيفة ومُنظمين أولادا برضها عندي حلوة جلادا ست البيت تتلاصف سرور وجناتا الرافيّة الكتار حسناتا طيبة عُشرة مِي غلّاتا ما سابت الشَباب لي بناتا ست البيت ما بتحسب علي كُليَّ تُكرم كلْ منسوب ليّ أطوّع من بناني إليّ وأشفق من جنايا عليّ ست البيت ما قالت بقيت حبُّوبة وتركت بوختا المحبّوبة لو جات من رياحا هبوبّة بتحيي عُروقك المهبّوبة ست البيت من صابحتها وماسّيتا طاعمة وناعمة لو مسّيتا ما قاستني ما قاسيتا وتشكُر فضلي كُل ما كسيتا ست البيت مِي العزّاية دايما ًساقدة ومِي الغبشَة المغبّرة حادّة مِي اللهفانة بي ورا المادة دي اللي شبابا ديمة موادا ست البيت فاضي البال حليلا جنابو ما اتغضبن لمس اشنابو ولا يوم سوء تفاهم نابو دي الأمثالا نتغنّابو ست البيت لو كان يوم حبيب واصِلّي الكرم العريض يوصلّي منها قطْ خلاف ما حصلي بس إزعاجا لي قوم صلي ست البيت ليه ما اشكرا مطاوعاني وحافظة لمُتعتي وحافظاني حاوية من الأنوثة معاني ومهما أبقى مُر بالعاني ست البيت ست البيت كسيحة الغُّمة نور البيت بلاها ضُلمّة احترما وكمان بالذّمة أحترم العليها مَسمى
(5)
وفي حواره الشِعري مع الشاعر إسماعيل حسن ، عدّل من وصف المرأة، بعد أن دخلت عصر العمل والمكتب : شوف فتاة اليوم حلاتا ربي زيد ريدا وغلاتا مهمّاتا يا اسماعين تلاتا مكتبا وبيتا وصلاتا
(6)
ربما كانت تلك صورة المرأة عند الطبقة المتوسطة ،التي نشأ شبابها في العقد الثاني من القرن العشرين ، تُماثل رؤية الشاعر " ود الرضي "، حيث كان وصف الشاعر لها شاملاً أركان حياتها ومعاملاتها مع جاراتها ، ورعايتها لأسرتها واهتمامها بجمالها ، وتلبية لرغبات زوجها . وعندما طال بالشاعر العُمر ، شهد نهضة المرأة وعملها في المكاتب في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، طوّر هو نظرته تلك . ربما لم تكُن تلك أوصاف المرأة عامة ، ولكنها أوصاف الزوجة خاصة . ونعلم حياة الشباب وانفلات مسلكه من مخالب نسور المجتمع المحافظ قدر المُستطاع، ونعلم أن لهم مسلكٌ آخر، يكون مخفياً عن ظاهر الحال ، يجدون امرأة أخرى لتروي هذا الظمأ ، بعيد عن عين المجتمع ، ولكنه شأن آخر لن نستطع أن نوثقه في حياة الشاعر ، ولكن لشباب جيله شأن آخر.