تحوُّل البلاد إلى فريسة عقدت الدهشة حواجب كثيرٍ من السودانيين، طيلة الأسابيع القليلة الماضية. فتساءلوا: ما الذي منع كلاً من السعودية والإمارات، تقديمَ يدَ العون للرئيس البشير، وهم يرون أزمة الوقود المستفحلة، غير المسبوقة تحدث شللاً كاملاً، غير مسبوقٍ في كل أرجاء البلاد؟ فالجميع يعلمون أن في وسع السعودية والإمارات فك ضائقة الوقود الخانقة، في السودان، من بنزين، وجازولين، وغاز، في لحظاتٍ، دون أن تتأثرا بذلك. لكنهما، رغم ذلك، آثرتا الفرجة والانتظار، فماذا يعني ذلك؟ كل الشواهد تقول: إن وراء الأكمة، ما وراءها.
وجد نظام الإنقاذ نفسه، عقب إخراج قطر من مجموعة عاصفة الحزم، مضطرًا لأن يلعب على حبلين. فمن جهةٍ، أبقى جنوده في اليمن، ومن جهةٍ أخرى، حاول الاحتفاظ بشعرة معاوية مع معسكر قطر وتركيا. وهكذا فقد نظام الانقاذ، تعاطف المعسكرين، وأصبح عرضةً لتكتيكات الضغط منهما معا. والغالب، في تقديري، هو أن يضطر نظام الانقاذ إلى إعلان انحيازه إلى واحدٍ من هذين المعسكرين، انحيازًا كاملاً، لا رجعة فيه، ليجد عونًا إسعافيًا يمكنه من الصمود لفترة ما. ولربما يختار نظام الانقاذ التضحية بالإسلاميين السودانيين، فيقدمهم قربانًا بين يدي الإمارات والسعودية، ليجد بذلك التزكية السعودية الإماراتية المصرية، ومن ثم الرضا الأمريكي الكامل، ورفع الاسم من قائمة الدول الراعية للإرهاب. أما خياره المنقذ الآخر، فهو أن يسحب قواته من اليمن، ويعيد رأب الصدع في علاقته بقطر، التي فترت كثيرًا، فيصبح هدفًا للحلف الآخر، الذي لن يتردد في أن يرسم له صورةً سيئةً، أمام الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن خيار الانحياز الكامل لمعسكر قطر وتركيا، وإن أمدَّ في عمر النظام، فإنه ربما قوّى كفة الحركة الاسلامية والحرس القديم الذي أُزيح. ومن ثم جعل الرئيس البشير عرضةً للإزاحة، ومواجهة الجنائية، وهو ما يخشاه الرئيس البشير، وما ظلَّ يحكم تحركاته لسنواتٍ طويلة. عمومًا، أصبح الرئيس البشير عبئًا ثقيلاً على منظومة الإسلام السياسي الدولية، وواجهةً قبيحةً لمشروعهم.
أصبح نظام الانقاذ، بناءً على ما آل إليه الحال، مؤخرًا، من استفحال أزمات المال، والوقود، والاقتصاد، معرضًا للسقوط في أي لحظة. وعلينا أن نقرأ، إلى جانب فشله المدوِّي، داخليًا، حيرته، تجاه ازدياد العسكرة في البحر الأحمر، وتضارب الأهداف الإماراتية السعودية في حرب اليمن، ووقوفه هو، بالسلاح والجنود، ضد الخطط الإيرانية في اليمن. يُضاف إلى ذلك، قلق إثيوبيا تجاه كل ما يجري في اليمن، وجنوب البحر الأحمر، وخليج عدن، وإرتيريا. هذا الوضع بالغ التعقيد يعكس، بجلاء، وحسة النظام الجيواستراتيجية. لقد فقد نظام الانقاذ، ومنذ مدةٍ طويلة، البوصلة الهادية، نهائيًا، حتى أصبح يفعل، في الآونة الأخيرة، الشيء وضده، في وقتٍ واحد. ومن ذلك، على سبيل المثال، ما جرى في زيارة الرئيس البشير لروسيا. ففي الوقت الذي كان فيه السودان ينتظر اكتمال رفع العقوبات الأمريكية، ورفع اسم السودان، نهائيًا، من الدول الراعية للإرهاب، قدم الرئيس البشير طلبًا، أمام كاميرات الإعلام، للرئيس بوتن، لكي يحمي نظامه من الاستهداف الأمريكي. بل، ودعاه لإنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر! وهكذا، أصبح التخبط الشديد، السمة الرئيسة لسياسات السودان الخارجية.
من الغفلةِ بمكانٍ، أن نظن أن القوى الإقليمية، التي أصبحت ترى الدولة السودانية، واقفةً على حافة الإفلاس والانهيار، سوف تقف على الحياد. ولن تفكر، من ثم، في نصيبها من هذه الدولة الغنية بالموارد الاقتصادية، والموبوءة، في ذات الوقت، بالصراعات الداخلية، وبالسياسيين الفاشلين. يقف السودان اليوم فوق نقطة أن يكون، أو لا يكون. فنظام الحكم الحالي، ومن ورائه أفكار الدكتور الترابي، وسياسات التمكين، التي أجهزت على المؤسسية، وفتحت للفساد الباب على مصراعيه، وقضت على كل ممسكات الدولة، من أجل أن يبقى النظام، وصلت الآن إلى نهايتها المنطقية. فهناك، الآن، فشلٌ وشللٌ كامل للدولة. وهناك تعذُّرٌ، شبه كاملٍ، أن تتحسن أوضاعها، في المدى المنظور.
في الجانب الآخر، من الصورة، يملك النظام أجهزةٌ أمنية، ومليشياتٍ مسلحةٍ، مستعدة أن تسفك أي قدرٍ من الدماء لتطيل من عمر هذه الحالة من الفشل، التي بلغت مرحلة الشلل الكامل. وهناك أيضًا سلاحٌ كثير في أيدي جماعات، مختلفة الأجندة والتوجهات، بعضها معروفٌ للجميع، وبعضها الآخر غير معروف. لم تعد المعادلة كما كانت في أكتوبر 1964، وأبريل 1985؛ صراعٌ بين شعبٍ غاضبٍ من جهة، وحكومةٍ فاشلة، من الجهة الأخرى. وإنما أصبحت المعادلة بالغة التعقيد، متضاربة الأجندة. وصلت البلاد، الآن، إلى نقطة الشلل الذي يسبق الانهيار الشامل. لكن، لهذا الشلل ميزة خفية. فهو دلالةٌ واضحةٌ، على أن توازن الضعف قد بلغ أقصى مدىً له، فحيَّد الجميع. وهكذا تهيأ الوضع، ولأول مرة، لكي تحدث مساومةٌ تاريخيةٌ تُبقي على تماسك الدولة، من جهة، وتفتح المنافذ المغلقة، لمخرجٍ آمن، من الجهة الأخرى، وكذلك، لرسم تصور جديد للدولة السودانية.
الحجر الذي أباه البناؤون لا يملك الكاتب والمحلل السياسي سوى أن ينصح. ولربما يُؤخذ بنصيحته، وربما تتبخر نصيحته، تلك، في الهواء. وكما جاء في القرآن الكريم: " إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ". فقبل حوالي الخمس سنوات، كتب الدكتور الواثق كمير، مقالةً اتسمت بالرصانة وبالحكمة، وبالشجاعة، والمسؤولية، ناصحًا الرئيس البشير بأن يقود بنفسه مساومةً تاريخية تفتح الطريق للتحول الديمقراطي، وتخرج السودان من أزمته المزمنة، قبل أـن تقوده إلى التفكك، والانهيار. غير أن تلك النصيحة المبكرة، المبصرة، تبخرت في الهواء. لم يسمعها الرئيس البشير، وفي نفس الوقت، تناوشها المتعجلون، المُبرمَجون، قصيرو النظر، بالتهريج المعهود. وسارت الأمور، لتصل الأزمة عبر هذه السنوات الخمس، إلى حالة الشلل الكامل الراهنة، ووقوف الدولة على حافة الانهيار. والآن، يصدق على رؤية الواثق كمير، ما ورد عن السيد المسيح، حيث قال: "الحجر الذي أباه البناؤون، أصبح حجر الزاوية". مرةً أخرى، يعود مقترح المساومة التاريخية إلى الحلبة من جديد، في صورةٍ جديدة، وظروفٍ جديدة، تجعل اجتراح هذه المساومة التاريخية مسألة حياةٍ أو موت.
البرادايم الجديد والخروج من الاستتباع تكمن واحدةٌ من أهم مشاكل السودان العويصة، لفترة ما بعد الاستقلال، في استلاب النخب بواسطة القوى الخارجية، وقابلية هذه النخب المستمرة للإلحاق، والاستتباع. وقد تقاسمت "العروبية"، و"الإسلاموية"، موقع المركز الخارجي الذي استتبع النخب السودانية. فالانجرار لهذين المركزين وللإيديولوجيتين اللتين تقفان وراءهما، هو ما عطل استقلالية القرار السوداني عبر كل عهود الحكم الوطني، وخرَّب وحدته الوطنية، وابتلاه بالأنظمة العسكرية، وفصل جنوبه، وعطَّل نهضته. هذه التبعية المزمنة، هي التي قادت السودان إلى حالة الانهيار الراهنة. لقد حوَّل الانجرار، السوداني، المزمن، وراء الجيواستراتيجيات العربية، المرتجلة، إلى طاقةٍ خاملةٍ، قابلةٍ للتجيير المستمر، لخدمة أجندة وأهداف دول الإقليم. والآن، بهذا الفشل، والسقوط المدوِّي لنظام الإسلاميين في السودان، نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا البرادايم العقيم، الذي كان الاستلاب للخارج، هو الماكينة المحركة له، على الدوام. فنحن نعيش، في اللحظة الراهنة، التجسيد الأعلى لحالة إدارة السودان من الخارج. بعبارةٍ أخرى، نظام الحكم القائم، الواقف الآن على حافة الانهيار، هو التجسيد الأكمل لفشل البرادايم القديم. فقد باع الإسلاميون الشعار الإسلامي للقوى التقليدية السودانية، فاشترته منهم. لكن، سرعان ما سلبوه منها، وواصلوا به، حتى أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه الآن.
لن تكون النقلة إلى البرادايم الجديد، في تقديري، ممكنةً، إلا عبر فترةٍ انتقاليةٍ، يبقى فيها نظام الرئيس البشير في مكانه. فإن هو لم يبق في مكانه، فإن ما سيخلفه، إما الفوضى الشاملة، أو عودة مجموعة الحرس القديم، الذين يحاولون إعادة انتاج تجربتهم، بدعمٍ من منظومة الإسلام السياسي الدولية. ولسوف لن يتمكن نظام الرئيس البشير من البقاء في مكانه، ما لم يتلقَّ عونًا إسعافيًا من واحدٍ من المعسكرين الخليجيين. بذلك فقط، يمكنه أن يبقى حيًّا، لبعض الوقت، في غرفة الانعاش، التي دخل فيها. وهو، إما أن يتلقى ذلك العون من المعسكر السعودي الإماراتي، أو المعسكر القطري التركي وللخيارين مخاطرهما. فترك نظام البشير يستمر، وفق خطة مدروسة، من قبل القوى المعارضة، التي ينبغي أن تتسع مظلتها، هو الفرصة الوحيدة لمنع الدولة السودانية من الانهيار. فالشارع السوداني، والمعارضة؛ الحزبية والمسلحة، بلا حيلةٍ الآن. فجميعهم يقفون على السياج، متفرجين، منتظرين ما يمكن أن يتمخض عنه صراع الإسلاميين مع بعضهم. فمصير السودان، ومستقبله، فيما يبدو، يجري تقريرهما، الآن، من الخارج. وفي تقديري الشخصي، أن أسوأ سيناريو يمكن أن يتحقق، هو أن تولد الحالة السودانية الجديدة، على يد واحدٍ من المعسكرين الخليجيين.
ينحصر التحدي الحاسم، الذي يواجهنا الآن، في امتلاكنا القدرة على إخراج السودان من حالة السيطرة الخارجية، على مقاديره، التي ظل يرزح فيها منذ استقلاله. لكن، لا يملك نظام الرئيس البشير، في حالته الراهنة، سوى الانبطاح الكامل لواحدٍ من المعسكرين. والراجح عندي، وقد أكون مخطئًا، أن الرئيس البشير سوف يختار المعسكر السعودي، الإماراتي، المصري. فلو حدث ذلك، فإن طيف المعارضة لنظامه سيتسع كثيرًا، إذ سيصبح قطاعٌ كبيرٌ من الاسلاميين جزءًا منها. هذا الوضع، إن حدث، سوف يوفر طاقةً ومواردَ كبيرةً لتفكيك نظامه، سلميًا، عن طريق منازلته انتخابيًا. وفي نفس الوقت سوف يمنح المعارضة وقتًا لتعيد تنظيم نفسها، ولتتحاور، أكثر، مع بعضها، ولتعمل على رفع وعي الشارع، وحشد طاقاته، وضبط إيقاع حركته، وتوجيهها نحو تغيير حقيقي، يطرد، ولا ينتكس. بقاء نظام الرئيس البشير، بكل علاته، سوف يحفظ جسد الدولة من التفكك الذي يتهدده الآن. كما يتيح لقوى المعارضة الموحدة، مد جسورٍ جديدة للمجتمع الدولي، وللعمل على تخليق البرادايمٍ الجديدٍ، الذي أن يكون أساسه الابتعاد عن المحاور العربية، مرةً، وإلى الأبد. ولنا في جارتنا؛ إثيوبيا، أسوةٌ حسنةٌ في استقلالية القرار، وفي الحفاظ على الكرامة الوطنية، وفي امتلاك القوة، والشوكة، والاعتماد في النمو والتقدم، على الموارد الذاتية.
ما وراء الأفق لا بد هنا، من لفت النظر إلى حقيقة جيواستراتيجية مهمة، لا يمكن التخطيط السليم للمستقبل السوداني، دون أخذها في الاعتبار، وهي أن المحاور العربية الخليجية هذه، قد عبرت سن الفتوة، وأصبحت تنزلق على صفحة المنحدر المفضي إلى الشيخوخة. فحقبة فقاعة النفط أخذت تقذ السير، نحو غروب وشيك. ولسوف تستنزف الصراعات، وسباق التسلح من أجل استرضاء أمريكا، موارد دول هذين المحورين، فترتد كل واحدةٍ منها لتنشغل بنفسها، لا أكثر. يضاف إلى ما تقدم، فإن دول الخليج العربية، دولٌ هشةٌ، بطبيعتها، ومصيرها، إلى حدٍّ كبير، في أيدي غيرها. ومع ذلك، انتدبت نفسها لأدوارٍ أكبر منها، بكثير. ولذلك، سوف تنفد طاقة دفعها قريبًا، وتعود إلى حجمها الطبيعي في الإقليم. هذا، إن أسعدتها الظروف وبقيت متماسكة.
جبهة للخلاص الوطني المخرج الآمن، والمتاح الآن، هو خلق جبهةٍ وطنيةٍ عريضة، لا تستثني أحدًا. فكل من أدرك أبعاد المأزق الراهن، وخطورته، وأبدى الرغبة في الانضمام إلى قوى الخلاص الوطني المرتقبة هذه، ينبغي أن تكون له مكانة في هذه الجبهة العريضة. فالبلاد أمام تحدٍّ للبقاء، لا يمكن مواجهته سوى بما يشبه الاجماع. ودور هذه الجبهة هو أن تعمل في مسارٍ يهدف إلى التفكيك السلمي التدريجي، لنظام الإنقاذ، عبر صناديق الاقتراع. والتواصل مع المجتمع الدولي، للضغط عليه، وكذلك الضغط عليه من الداخل، لإجباره على إطلاق الحريات العامة، والقبول بالنزال الانتخابي النزيه. مهمة هذه الجبهة العريضة هي تخليص البلاد سالمةً من قبضة ما تبقى من نظام الانقاذ. فالنظام إما أن يرضى بالإشراف النزيه، على مسار التحول الديمقراطي، فيغير من طبيعته، ويصبح جزءًا من البرادايم الجديد، فيذوب تدريجيًا في التيارات الصاعدة، وإما أن يواجه المحو ديمقراطيًا، وتتبخر كل تجربته الماضية في الهواء. ولسوف يكون موقف الحرس القديم، من الإسلاميين، واعلائهم الأجندة الوطنية على تلك العابرة للأقطار، عاملاً حاسمًا في أن تكون ولادة السودان من جديد، يسيرةً، أو عسيرةً جدا. ختامًا، ما من شك، أن تكوين هذه الجبهة الوطنية العريضة للخلاص، يقتضي أن يخرج الجميع من التخندق في تواريخهم الحزبية، وأن ينعتقوا من أسر خطاباتهم التي دبجوها عبر عقودٍ طويلة، فأضحت أصنامًا تُعبد. كما تستلزم أن تبرأ صدورهم من مراراتهم القديمة. ويستلزم كل ذلك، إدراكًا حقيقيًا للمأزق الراهن وخطورته. كما يستلزم، ذلك، حسًّا وطنيًا عميقًا، وتقديمًا لخلاص البلاد، والحؤول بينها وبين الانهيار، على أي حساباتٍ، وأي اعتباراتٍ أخرى. فالذي على المحك الآن، ليس نظامًا سياسيًا فاشلاً، ينبغي تغييره، وحسب، وإنما الذي أصبح على المحك هو الدولة نفسها: تكون أو لا تكون.