ترامب والانسحاب من الاتفاق النووي
كان حدثاً جليلاً، رغم أنه لم يكن مفاجئاً قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، بما له من تداعيات جسيمة في الشرق الأوسط، وبما سببه من استياء في أوروبا وأبعد. الخطوة كانت خرقاء وبدون تروِّ؛ لأن الاتفاق ليس فقط ميثاق بين الدول التي تعاهدت عليه، بل تم تضمينه في قرار مجلس الأمن رقم 2231. وباتخاذه لهذا الإجراء، أهمل ترامب آراء أقرب حلفاء أمريكا، حين سعوا للحفاظ علي الاتفاقية: المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي ورئيسة وزراء بريطانيا، أطراف شريكة في /وموقعة علي الاتفاق، وآثر الانحياز لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان (الأخير لدفع فاتورة الحرب في حال نشوبها). بل أنه لم يحتكم حتي لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، التي نفت خرق إيران للميثاق النووي، واتبع نهج بطانة تقول له ما يودّ سماعه لا الواقع (سياسة ما بعد الحقيقة): مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو، من كبار الصقور الرجعيين الذين ما برحوا يؤيدون تغيير الأنظمة.
اعتقاد كل من ترامب ومستشار الأمن القومي ووزير الخارجية، أن إعادة فرض العقوبات الاقتصادية من شأنها تفاقم الوضع الاقتصادي بما يؤدي لتزمر اجتماعي، وبالتالي الاطاحة بالنظام. غير أن العكس يبدو أقرب للصواب؛ فالخطوة سينتج عنها بسط نفوذ التيار المحافظ والحرس الثوري، اللذان عارضا إبرام الاتفاق في الأساس. وبالفعل، قال المرشد الأعلى للثورة آيات الله علي خامنئي، مخاطباً الإصلاحيين الذين علموا علي انجاز الاتفاق النووي "قلت من اليوم الأول لا تثقوا بأمريكا". وبخصوص المستوي الشعبي، يبدو أن هنالك رضي نسبي وسط الإيرانيين عن النظام، حين قدّم تنازلات بشأن المشروع النووي، وما أعقبه من رفع العقوبات الاقتصادية، التي حسنت وضعهم الاقتصادي ومعايشهم، وأن اللائمة هذه المرة تقع علي عاتق أمريكا بانسحابها من الميثاق من طرف واحد. كذلك، فإن الإيرانيين ساخطون علي الرئيس الأمريكي، حين أدرجهم في قائمة الدول ذات الأغلبية المسلمة المحرّم دخول مواطنيها إلي الولايات الأمريكية، مع أنه لم يحدث قطّ أن ارتكب إيراني عملاً إرهابياً في الغرب.
والمرء إذ يستحضر تاريخ أمريكا في إيران؛ ليجده مفعماً بتراكمات تاريخية سيئة مع الجمهورية الإسلامية، تسبق اندلاع الثورة عام 1979، اتسمت بالعداء السافر، والتدخل ونقض المواثيق. فقد نصّت اتفاقية الجزائر عام 1981، التي تم بموجبها إطلاق سراح الرهائن الامريكان في طهران، بعدم تدخل الأولي المباشر وغير المباشر في شؤون الثانية، وإلغاء العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عقب الثورة، الاثنان لم تلتزم بهما. فمنذ عام 1982 بدأت وكالة المخابرات المركزية (سي آي ايه) في رصد ميزانية لحركات معارضة تورطت في عمليات إرهابية في إيران: "جبهة تحرير إيران" (جبهة أزادي إيران)، و"مجاهدي خلق" و"الجمعية الملكية الإيرانية" وحركة "جند الله". وبشأن العداوة؛ فقد أسقطت البحرية الأمريكية طائرة ركاب مدنية في 1988، في حيّز المياه الإقليمية الإيرانية، ولقي جميع ركابها وطاقمها حتفهم (290). وبعودة لحقبة ما قبل الثورة، فقد أسقطت سي آي ايه، بالتعاون مع رصيفتها البريطانية (إم آي 6)، نظام محمد مصدق المنتخب ديمقراطياً في 1953، وأقامتا نظام شمولي علي أنقاضه. وبهذه الخلفية التاريخية يبدو حديث المرشد الأعلى صائباً ومصيبا.
كانت استراتيجية باراك أوباما التي أنجبت الاتفاق النووي تضع في الحسبان أهداف بعيدة المدي، ولم يك الميثاق النووي غاية في ذاته، إذ كان يأمل أن يكون الاتفاق بمثابة خطوة أولي لبناء الثقة بين إيران والولايات المتحدة بعد التدخل والعداوة اللذان استمرا لتلك العقود. وكان يهدف أن تنخرط الجمهورية الإسلامية، انطلاقاً منه في شبكة علائق ومصالح متعددة، أي احتواء بدلاً عن إقصاء، والدول تحصل علي مكاسب أو تنازلات حين يكون لديها علائق مع بعضها، أكثر مما يكون الحال عند وجود عداء وقطيعة. الآن، وبارتكاس ترامب فإن كل هذا الجهد ذهب أدراج الرياح، وبدون طرح استراتيجية بديلة، وبدون أسباب موضوعية، فبات الشرق الأوسط منطقة شديدة التوتر والالتهاب، وشبح الحرب ليس ببعيد. العامل الشخصي، كما ذكرت في موضع آخر، يفعل فعلته، فالرئيس الأمريكي لديه ثأر شخصي مع إرث أوباما -مبعثه العنصرية - ويعمل بإخلاص وتفان علي تفكيكه، من اتفاق باريس للمناخ لاتفاق الشراكة عبر الباسفيكي.
- - - - - - -
- علي وجه العموم، السبب الرئيسي الذي يثير امتعاض الإمبراطورية الأمريكية، ودفع برئيسها للتنصّل من الاتفاقية النووية، هو أن الجمهورية الإسلامية دولة مستقلة منفلتة من فلك مركزه واشنطن، وتدور حوله بقية الدول التي تقع في الساحل الغربي للخليج، وتتوق للحقبة التي كانت فيها إيران ذيل الإمبريالية، وموطيء قدم لمخلبها في الشرق الأوسط: إسرائيل.
babiker200@yahoo.ca