لست معنياً بالقضية الجنائية وتداعياتها القانونية فهي بين يدي السلطة القضائية تتحرّى في أمرها قيمة العدل وفق مقتضى القانون. وإنما يعنيني هنا المنهج الذي يتبعه بعض النشطاء من مناصرى هذه الشابة التعيسة في الداخل، وأضعاف أضعافهم من حُشُود الخارج. أقول أضعاف أضعافهم وأنا أطالع أمامي مذكرة التماس جماعي صاغته مجموعة أوروبية تُطالب بإسقاط حكم الإعدام عن المتهمة قام بالتوقيع عليه ما يربو على ثلاثمائة ألف من فرنجة أوروبا وأمريكا يتبعهم بعض العربان والسوادنة.
وأنا أبدأ يومي صباحاً بتصفح النسخة الورقية من الغارديان البريطانية، عملاً بقاعدة: إذا كنت في روما فافعل كما يفعل أهلها. ولكنني ما انفك أشرع في مسيرة التصفح، هذه الأيام، حتى تدهمني كل صباح مادة تنشرها الصحيفة العريقة عن قضية ابنتنا نورة. ولا شك عندي في أن كرة الثلج قد بدأت في التدحرج!
وأنا بطبيعة الحال أشعر بتعاطف شديد مع هذه الشابة، وهو تعاطف لا صلة له بموقفها القانوني، إدانةً أو براءة، وإنما لاعتقاد عندي بأنّ كل من يتلقى حكماً بالإعدام يستحق التعاطف صرف النظر عن أي اعتبار آخر. ومن منطلق هذا التعاطف فقد وددت أن أتقدم بنصحٍ مخلص لحشود الأحباب المتزاحمين حول زنزانة نورة مُطالبين بتبرئتها وإطلاقها، سوادنةً وعجماناً وعرباناً وفرنجة، مع دعائي لهم بالتوفيق وسؤالي للمولى عز وجل أن يبارك منهم المسعى ويسدد بين أيديهم المقصد.
في طليعة ما هو لازم لزوماً حتمياً لا محيص عنه لكل من ينشط في مثل هذه المُهمّة النبيلة التحلي بالأمانة والتزام الصدق وتحري الدقة في جمع المعلومات والبناء من فوقها، حتى لا نبني الاهرامات على قواعد من الرمال المتحركة، ولا نشيد الآمال على تلال الأوهام.
لن يفيد قضية نورة في شئ المزاعم المكذوبة التي انطلق في بثها الإعلام الغربي تأسيساً على ما يرفدها به نشطاء الداخل وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.
الوقائع الثابتة لدى سلطات الضبط القضائي من شرطة ونيابة، ولدى القضاء الذي حاكم وحكم، تقول إن المجني عليه كان نائماً ومُستغرقاً في النوم عندما انهالت عليه الابنة نورة بخنجرها فطعنته طعنة نجلاء، أردفتها بثلاث عشرة أخرى، فبلغت جملة الطعنات أربع عشرة. ولذا فلن تفيد قضية المندفعين وراء الحركة الاحتجاجية في شئٍ كل هذه المزاعم التي شرع في نشرها وترويجها الإعلام الغربي من أن الزوج كان يحاول اغتصاب عروسه عندما عاجلته أثناء المُحاولة بطعنة قاتلة دفاعاً عن نفسها. والقضاء الذي تقبع نورة اليوم بين يديه لا يعرف سوى ما هو ثابت أمامه من وقائع، ولا يلقي بالاً للمعلومات المصنوعة التي ينهض عليها ويبثها الناشطون في الداخل والخارج.
كما لن تفيد في شئٍ المَزاعم الأُخرى المُتناثرة التي تهدف إلى شيطنة أسرة نورة وتقبيح صورة والديها من شاكلة أن الوالدين أعلنا براءتهما منها ونبذاها، وقد رأيت عبارة (disowned her) تزحم تقارير الصحف والقنوات عند مستعمرينا القدامى. وليس في ذلك ما يصف الحقيقة أو يمتُّ لها بسبب، فكون أن والدها هو الذي أبلغ الشرطة وسلم ابنته، لا يعني التبرؤ منها وإنكارها، وإنما ذلك هو التصرف الصحيح الذي يفرضه العقل الناضج المسؤول قبل أن يكون هو حكم القانون ومقتضاه.
ولن يفيد قضيتها في شئٍ كل ما يدعيه هؤلاء من تزيّدات وخزعبلات ما فتئت تنشرها الصحافة الغربية مثل القول بأن الفتاة كانت قد اختفت بعد أن هربت من منزل والديها وعاشت بعيدة عنهم تعبيراً عن رغبتها في رفض الزواج، وهو ما لم يحدث.
ولكن أكبر الكوارث التي يمكن أن تقع على رأس هذه المسكينة هي المُحاولات المحمومة التي تُجرى الآن على قدم وساق لاستغلال قضيتها لأغراض الهجوم على الإسلام والتنكيل به، أو اتخاذ الحدث سلماً ومطية لممارسة (النضال) السياسي ضد حكومة السودان على ظن من الوهم أن مثل هذا الحادثة ربما كانت منحة من السماء لتصعيد النشاط المعارض عن طريق تهييج الرأي العام الغربي وتعبئته وتوجيهه باتجاه الحصار والخنق.
وكالمعتاد شرع هؤلاء وسدروا، تحت مظلة الدفاع عن نورة، في مسعى استغلال قضيتها لإعلاء الأجندة المُعادية للإسلام وتصويره في صورة العائق الأكبر أمام حرية المرأة وكرامتها وأنه الدين الذي يشرّع ويسوغ ممارسة العنف ضد المرأة، إلى آخر المعزوفة، ثم انطلقوا يقدمون هذه البائسة مثالاً ونموذجاً.
لن يمنعنا كل ذلك من الإشادة بالبيان الصادر أمس الأول عن بعثة الاتحاد الأوروبي، وهو بيان مُحكم لم يتورّط في دلق المعلومات المغلوطة، بل أنه إمعاناً في الابتعاد عن روح المزايدات، وصف واقعة الاغتصاب بأنّها زعم، إذ جاء في البيان (زُعم أنها اُغتصبت). ثم عبر القوم بعد ذلك عن معارضتهم لحكم الإعدام من حيث المبدأ باعتبارها (تشكل انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان وكرامته) كما أورد نص البيان. وللمشرع السوداني رؤية أخرى بطبيعة الحال ليس هذا مكانها ولا زمانها.
وفي النهاية فإن العبرة ستبقى في مكانها، وهي أنّ القضايا العليا لن تخدمها المناهج السفلى والأساليب العائبة والتبذل إلى فرنجة الغرب وتمكينهم من رقبة الإسلام والسودان.
دافعوا عن نورة ونافحوا عن قضيتها مُسلّحين بالصدق ومكارم الأخلاق، في أيديكم مصباح الحقيقة ونصب أعينكم ميزان العدل. وإيّاكم والتزيّد والمبالغات والتلفيق فإنّه لن يزيد هذه الشابة إلا خبالا.