السودان ومستقبل بحيرة تشاد: محك حقيقي ، وتساؤلات استراتيجية مشروعة
Khaldoon90@hotmail.com
وساء ساوةَ أن غاضتْ بحيرتُها
ورُدَّ واردُها بالغيظِ حينَ ظمِي
من قصيدة البُردة للإمام البوصيري
ظلت بحيرة تشاد ، منذ أوان الطلب ، وأول عهدنا بدراسة جغرافيا القارة الإفريقية ، حينما وُصفت لنا بأنها تتفرد بأنها بحيرة ذات تصريف داخلي ، بمعنى أنها يغذيها نهر ، هو نهر " شاري " ، ولا ينبع منها نهر متجهاً نحو جهة أخرى ، كحال معظم البحيرات ، ظلت تستثير خيالي وفضولي المعرفي معاً ، كما ظلت تشكل بالنسبة لي بهيئتها وموقعها شبه الأسطوري ، مصدراً مهولاً لتفجر جملة من التساؤلات التاريخية ، والطبيعية ، والبيئية ، والجغرافية ، والسكانية ، والثقافية ، والاقتصادية في ذهني. ربما ذلك لأنني أشبهها في لا وعيي ، ب " تُردة الرهد " ، تلك البحيرة الصغيرة العجيبة أيضا ، التي تطوق خصر مدينة الرهد أبو دكنة بكردفان ، والتي تنبأ الإمام المهدي بظهورها – كما يزعمون – ووصفها بأنها ستكون: " بحر بين قوزين " ، أي مسطحاً مائياً ضخما يقع بين كثيبين من الرمال ، فلا هو يغمرهما ، ولا هما يمتصان مياهه.
وقد ازداد ذلك الخيال قوةً ، وأمعنت تلك التساؤلات إلحاحاً ، وراهنية وموضوعية مهنية، عندما تهيئت لي فرصة العمل بالفعل ، دبلوماسياً ناشئاً في مدخل الخدمة بسفارة السودان بانجمينا ، بين أواخر ثمانينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته.
ثم ثاورني الاهتمام بأمر بحيرة تشاد بقوة مؤخراً وعلى نحوٍ أخص، مع انعقاد المؤتمر الدولي من أجل إنقاذ هذه البحيرة ، الذي انعقد بالعاصمة النيجيرية " أبوجا " في الفترة من 26 إلى 28 فبراير 2018م ، بمبادرة مشتركة بين الحكومة النيجيرية ولجنة حوض بحيرة تشاد ، تلك المنظمة الحكومية شبه الإقليمية المعنية بتطوير موارد البحيرة والمحافظة عليها ، والتي تتخذ من العاصمة التشادية " انجمينا " مقراً لها ، وتضم في عضويتها البلدان المطلة على تلك البحيرة وهي: تشاد ، والكميرون ، والنيجر ، ونيجيريا ، ومشاركة عدد من الشركاء المعنيين ، بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة.
وبحيرة تشاد ، قد كانت هي في الواقع من الناحية الجغرافيىة والطبيعية والتاريخية ، بحيرةً ضخمة جداً من المياه العذبة التي يغذيها نهر شاري ، الذي ينبع من مرتفعات شاري أوبانقي بوسط إفريقيا ، بالإضافة إلى غير ذلك من الأودية الصغيرة الأخرى الهابطة إليها من مرتفعات تبستي بشمال تشاد ، فضلاً عن مياه الأمطار التي كانت تتساقط عبر آلاف السنين خلال حقب متطاولة في العصور المناخية القديمة التي أعقبت عصر الجفاف الذي خيم أخيراً على منطقة الصحراء الإفريقية الكبرى ، منذ حوالي 7000 سنة قبل الميلاد.
لقد كانت بحيرة تشاد ، كما يقول العلماء المختصون ، بحراً هائلاً من المياه العذبة في قلب الصحراء الكبرى ، إذ بلغت المساحة التي كانت تغطيها مئات الآلاف من الكيلومترات المربعة ، ولكن حجمها ما زال يتقلص بفعل عوامل تغير المناخ ، والجفاف ، والتصحر ، وانعدام الأمطار أو شحها ، وتناقص كميات المياه التي تغذيها عبر نهر شاري الذي يصب فيها ، وغير ذلك من العوامل الطبيعية والبشرية الأخرى.
هذا ، وما تزال وتيرة انكماش هذه البحيرة ، وتقلص مساحتها ، وانحسار مياهها ، تتسارع باطراد ، مما ينذر بشدة باحتمال زوال هذه البحيرة عن الوجود بالكلية ، ربما في غضون مدة قد لا تكون طويلة بحساب أعمار الدول والشعوب ، " يقدرها العلماء ما بين ستين إلى مائة عام فقط من الآن " ، إذا لم تُتخذ التدابير اللازمة و بأعجل ما تيسر ، من أجل إنقاذها من هذا المصير المخيف والمحزن حقا.
ومما يدل على الوتيرة المخيفة لانكماش بحيرة تشاد ، وتقلص مساحتها ، على مدى تاريخ قريب ومنظور ، وبياناته موثقة بدقة ، ناهيك عن ذلك التاريخ الموغل في القدم ، أن هذه البحيرة التي كانت تبلغ مساحتها 25,000 كيلومتراً مربعاً في عام 1963م ، لم تعد مساحتها تغطي أكثر من 2,500 كيلومتراً مربعاً فقط في الوقت الراهن. علماً بأن ضفاف البحيرة المطلة على أربع دول متجاورة كما أسلفنا ، يقطن فيها نحوٌ من ثلاثين مليون نسمة ، يعتمدون على مواردها الآخذة في النضوب ،في معاشهم وسبل كسبهم من زراعة ، ورعي ، وصيد أسماك ، وصناعات تقليدية ، وخدمات نقل بالقوارب وغيرها.
لقد منحت هذه البحيرة في الواقع ، اسمها لذلك البلد الجار العزيز " تشاد " ، إذ يُرجح بعض اللغويين والمؤرخين ، أن بعض المجموعات العربية التي نزحت إلى نواحي تلك البحيرة خصوصا بعد انبلاج فجر الدعوة الاسلامية ، قادمةً إما من شمال إفريقيا ، أو من الجزيرة العربية والشام عبر مصر وسودان وادي النيل ، قد أطلقوا اسم " الشَّط " ابتداءً على ذلك المسطح المائي الضخم الذي شاهدوه أمامهم ، خصوصاً وأنه اسم مألوف لديهم ، إذ أنه على غرار شط العرب في العراق ، وشط الجريد بتونس وغيره من الشطوط الأخرى على سبيل المثال. ثم تحرف ذلك الاسم من بعد بسبب تأثر عربية القوم بما احتكت بها من لغات محلية ، حتى انتهى إلى الصيغة التي تبناها الفرنسيون ونقلوها لاحقا ، وهي " تشاد " Tchad .
ويدلل الآثاريون بصفة خاصة على ضخامة المساحة التي كانت تغمرها مياه بحيرة تشاد في العصور السحيقة ، بأنهم ما يزالون يعثرون إلى هذا اليوم في الحفريات التي يجرونها في قلب صحراء شمال تشاد ، على بقايا كائنات مائية مثل: القواقع ، وعظام التماسيح ، والأسماك ، وأفراس النهر ، والسلاحف ، وهلم جرا.
ومرةً شاهدتُ فيلماً وثائقياً بقناة " ناشونال جيوغرافيك " التليفزيزنية العالمية الشهيرة ، زعم مُعدُّوه أن بحيرة تشاد قد كانت في عهد طفولة كوكب الأرض ، وقبل أن تُفتق القارات وتتباعد عن بعضها البعض بعد أن كانت رتقاً ، هي أصل نهر الأمازون الحالي الكائن بقارة أمريكا الجنوبية ومنبعه ، والله أعلم بمدى صحة هذه الفرضية.
أما علاقة حوض بحيرة تشاد ، وما يتصل بها من محيط جغرافي وطبيعي وبشري بالسودان ، فيتمثل في كون أن البحيرة نفسها قد كانت تصل في اتساعها إلى قريب من حدود السودان شرقا ، وربما كان جزء منها واقعاً بالفعل داخل حدوده الحالية ، شاملاً أجزاء من صحراء بيوضة وصحراء شمال دار فور على الأقل. على أن مما لا شك فيه أن مياه السودان الجوفية ، خصوصاً الكائنة داخل ما يعرف بالحوض النوبي ، الذي تشاركه فيها كل من مصر وليبيا وتشاد ، ينبغي أن تكون متكونة جزئياً من النتح المتسرب إلى ذلك الحوض من مياه تلك البحيرة التاريخية الضخمة عبر ملايين السنين.
كذلك كانت مرتفعات تبستي بشمال تشاد ، المرتبطة جغرافياً وطبوغرافياً بتلك البحيرة ، منبعاً لأكبر الروافد القديمة لنهر النيل من الجهة الغربية ، ألا وهو " وادي هَوَرْ " الذي كان نهراً دائم الجريان في العصور السحيقة ، وكان يعرف باسم النهر الأصفر أو " النيل الأصفر ". وقد كف ذلك النيل الأصفر عن الجريان وجفت مياهه من ضمن ما جف من روافد النيل الغربية الأخرى مثل أودية المُقَدم ، والمِلْك ، وأبو زعيمة التي التي صارت أودية موسمية ، بعد أن حاق بها ما حاق بسائر أجزاء ومكونات الصحراء الإفريقية الكبرى بسبب الجفاف والتصحر. وقد نشأت على ضفاف وادي هور حضارة سودانية عتيقة تعود إلى العصر الحجري ، ولله در شاعرنا الضخم الأستاذ محمد سعيد العباسي ، إذ يصف ذلك الوادي بأنه:
وادي الجحاجحة الأولَى
عمروهُ في خالي العُصُرْ
ثم التحية من بعد ، لأستاذنا المؤرخ الكبير الدكتور أحمد الياس حسين ، الذي عرض لهذا الموضوع باستفاضة وعمق ، خصوصاً من خلال سلسلة مقالاته الباذخة مؤخراً بعنوان: " مقدمة لدراسة تاريخ غرب السودان القديم ".
أما على مستوى تحركات السكان وهجراتهم عبر التاريخ ، فإن من المؤكد أن التغيرات البيئية والمناخية ، قد كانت أهم البواعث على تلك الهجرات والتحركات بين السودان ومحيطه الإقليمي بصفة عامة ، وخصوصاً منطقة الصحراء الكبرى غربا. وهنالك بالفعل من العلماء من يعزو – على سبيل المثال - نزوح النوبيين ، الذين يُرجح أنهم كانوا يعيشون في صحراء غرب النيل وواحاتها ، وذهابهم إلى وادي النيل من أجل العيش والاستقرار في ضفافه ، إلى موجات الجفاف المتلاحقة التي ضربت مناطقهم الأصلية بصحراء غرب النيل.
وهذا الوضع من شأنه أن يذكرنا بما حدث في التاريخ المنظور في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، عندما تعرض السودان لموجات هجرة ولجوء ونزوح كبيرة مصدرها عدد من بلدان الساحل الإفريقي ، التي تعرضت لموجة عاتية من موجات الجفاف والتصحر ، وما تسببا فيه من فقر ومجاعة ماحقة آنئذٍ.
والحال كذلك ، فإن أيما تحول أو تغيير جذري لوجود بحيرة تشاد ومصيرها ، من شأنه أن ينعكس بصورة مباشرة على السودان طبيعياً ،و بيئياً ، وبشرياً ، واقتصادياً ، وبالتالي فأنه ينبغي عليه أن يكون معنياً به ، ومتحسباً لمآلاته من جميع النواحي من وجهة النظر الاستراتيجية البحتة ، والتي لا تجدي معها تلك الروح التسويفية المتسيبة ، التي تجسدها بعض أمثالنا المثبطة في مثل هذا السياق من قبيل: ليها مية فرج ، ويحلها ألف حلال ، وأصلها الدنيا طايرة !! الخ.
ولعل المصلحة تقتضي على السودان بكل تأكيد أيضاً ، أن يتابع ويدعم عن كثب ، بل ويشارك بفعالية في كافة الجهود والتدابير والمبادرات الإقليمية والدولية الرامية إلى إنقاذ بحيرة تشاد من النضوب والجفاف الكامل ، بما في ذلك دعم الجهود الرامية إلى إقناع كافة الأطراف المعنية بالموافقة على مقترح مشروع تغذية بحيرة تشاد من فوائض مياه نهر الكونغو ، أو إحياء وتفعيل المبادرة التي كانت قد طرحها طيب الذكر: تجمع دول الساحل والصحراء أو تجمع س.ص سابقاً ، والداعية إلى تحويل فوائض مياه أعالي نهري شاري وأوبانقي ، من أجل زيادة حصيلة نهر شاري من المياه ، بما يؤمِّن تغذية بحيرة تشاد بالكميات الكافية من المياه اللازمة ، بهدف المحافظة على جميع خصائصها ومقوماتها الهيدروليكية والطبيعية والأيكولوجية والاقتصادية والبيئية الخ ، وبما يضمن حياتها المستقبلية بصورة مستدامة ، وإلا فليستعد السودان لاستقبال أولئك الثلاثين مليونا من البشر في أراضيه ، ولو بعد حين.