الحالة السودانية … بقلم: عبدالله الشقليني
إن أبغض شيء إلى المرء الكريم الذي يشعر بالعزّة والكرامة، ويحرص عليهما أن يرى نفسه مضطراً إلى أن يعترف بأنه لم يصبح بعد أهلاً لهما. فليحرص كل سوداني وكل سودانية، على تجنيب الأمة الخزي الذي نشهد الممسكين بالسلطان يغطسون فيه . و سبيل ذلك أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد منذ المُبتدأ، وأن نعرض عن الألفاظ التي لا تُغني، ونتجه إلى الأعمال التي تُغني. وأن نبدأ إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين. نحترم الوقت ونُدقق في كل شيء، حتى نصبح أهلاً للحياة والتقدم.
(2)
حكم الاستعمار الإنكليزي السودان، عندما كان رجال الاستعمار تُشرف عليهم وزارة الخارجية البريطانية، ولم يكونوا تابعين لإدارة المستعمرات كما كان الحال عند استعمار الهند. وقد ذاقت الشعوب الهندية ألواناً من الغلظة الاستعمارية. وذلك كله يختلف اختلافاً بيّناً عن الإستعمار الكارثي للدولة العثمانية التركية.
وشرّع الإنكليز القوانين المدنية منذ بدء الاستعمار نهاية القرن التاسع عشر. استقوا تلك القوانين من القوانين الأوربية لا من النظم الاسلامية. وهم قد وضعوا النُظم الإدارية و الاقتصادية. وذهبوا في ذلك مذهب الأوربيين، بل نقلوا ذلك نقلاً عن القوانين البريطانية مع تعديل طفيف. ولم يستمدونه مما كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى. لقد قام الإنكليز بإنشاء المحاكم الأهلية ومنحوها السلطة القضائية ، مكيدة ضد المتعلمين الذين شكّلوا مؤتمر الخريجين ورفعوا مذكرة عام 1942 سياسية للحاكم العام.
فمجلس النظار أو مجلس الاستشاري، ونظارات الحكومة أو إداراتها والمصالح المتصلة بهذه النظارات، كان ذلك بريطاني المصدر، بريطاني الجوهر و الشكل، ولم يعرف منه المسلمون شيئاً، في القرون الوسطى وقبل العصر الحديث. وقد استبقت أشياء من النظم الاسلامية القديمة، ولم يكن بد من استبقائها لأنها تتصل بالدّين من قريب أو بعيد. ولكن كثيراً من التبديل والتغيير قد مسّها حتى أصبحت شديدة التأثر بالنظم الأوربية في شكلها على أقل تقدير.
ويمكننا أن نقارن بين المحاكم الشرعية التي تم تشكيلها عام 1905، والتي استمرت مختصة بالتشريعات الإسلامية في الأحوال الشخصية، حتى تعديل القوانين الذي تم في سبتمبر 1983، وسادت قوانين مُستمدة من الشريعة، حيث قام النظام الحاكم حينذاك بوضع قوانين مستمدة من الدّين على كل القوانين السودانية. ورجعت القوانين لمثيلتها أيام حكم الخليفة عبدالله في أواخر القرن التاسع عشر.
تم حرق الكُتب والأسفار القانونية ذات المراجع البريطانية أو المصرية الأصل، وصرنا إلى التشويه الذي حدث عام 1983. حيث قام ثلاثي الإخوان المسلمين ( عوض الجيد ، النيّل ، بدرية ) الذين كانوا يعملون في بداية عملهم القانوني في مكاتب النائب العام. جاءوا بقوانين الاثبات والقوانين الجنائية، وقاموا باستبدال القوانين وتفريغ نصوصها، بأخرى مُستمدة
من أحد المذاهب السُنيّة، وأطلقوا عليها القوانين الشرعية الإسلامية . فكانت الكارثة وما تبعها من قوانين الطوارئ التي راح ضحيتها كثيرون.
(3)
قامت انتفاضة أبريل 1985، وسقط نظام الحكم، وأعلن أحد زعماء الطائفية الإسلاميين عن أن قوانين سبتمبر لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، ولكنه عند تسلمه حكم الديمقراطية السودانية الثالثة ، مؤتلفاً مع حزب طائفة الختمية الدينية، حتى رفض إلغاء القوانين، وعلل ذلك برفض حليفه في الحكم. فكانت الكارثة التي انتظرها أحد القادة السياسيين من جنوب السودان دكتور " وولتر كونيجوك " وزير العمل أيام الديمقراطية السودانية الثالثة، فاستقال الوزير عام عندما لم يتم إلغاء قوانين سبتمبر في عام 1987، وغادر السودان نهائياً إلى المملكة المتحدة. وقد استمر العمل بهذه القوانين الشوهاء خلال حكم الإخوان المسلمين بعد انقلابهم العسكري عام 1989، بل أضافوا عليها، خنقاً للحياة العامة، واسهاماً منهم في التأسيس لمرحلة الانحطاط التي لازمت السودان خلال حكمهم إلى الآن.
هنالك أمور يتعين الأخذ بها لاستعادة الدولة المنهوبة ، وإعادة حياتنا بين الأمم الناهضة :
1. تطوير شريعة الأحوال الشخصية، بما يساوي بين الرجال والنساء في كل شيء.
2. تعديل وزارة الأوقاف وقوانينها، وخروج الدولة من الإشراف الإداري المباشر و الصرف على الأديان، فكلها عمل أهلي خاص. تقوم الدولة بتنظيمه، كما تُنظم كل فعاليات و أنشطة العمل الخاص.
3. إلغاء ديوان الزكاة، وتحويل الديوان إلا مؤسسة ومنظمة طوعية غير ربحية. وللمسلم خيار في استخراج أموال الزكاة، وتنفق المؤسسة على مصارفها بمرجعية الدّين، وخروج الدولة عن الأمر كله.
4. إلغاء قوانين سبتمبر 1983 ، وكل القوانين التي تستند على مراجع العقيدة.
(4)
نحن مدفوعون إلى الحياة الحديثة التي تنقاد بنهج التنوير، وأساليب الحداثة. وتقودنا عقولنا وطبائع أمزجتنا، التي لا تختلف في جوهرها قليلاً أو كثيراً عن مواطني الدول التي سبقتنا في النهوض والتنمية والشفافية وديمقراطية الحكم . فاليابان التي تم إلقاء قنبلتين ذريتين أمريكيتين على مدينتن من مدنها ،هما " هوريشيما" و"نجازاكي" . وتم اغتيال أكثر من 180 ألف نسمة، خلافاً للأجيال من المعوقين. نهضت تلك الدولة المُدمرة، وسابقت دول العصر وصارت واحدة منها ، بل وتنافسها في الحداثة والتطور والتقدم والديمقراطية . على سبيل المثال، في عام 1978 قامت اليابان بتصدير 12 مليون سيارة، في حين أنها تستورد حديد التصنيع !. لن يمنع الخراب دولة أن تستقيم الطريق وتنمو من جديد بعد فترة الانحطاط التي تعيشها.
(5)
إن الواجب الوطني الصحيح، هو إقرارنا بالديمقراطية سبيلاً، بعد تعديل مسارها بما يناسب التنوع الثقافي في البلاد، وحمايتها من التغول عليها. وأن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد، ومن الوقت والمال لنُشعر السودانيين أفراداً وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلّة ، للقوة لا للضعف ، للسيادة لا للاستكانة، للنباهة لا للخمول. و أن نمحو من الأفراد والجماعات هذا الإثم الشنيع، من أن صعود الدول المتقدمة ورقي حقوق الإنسان لا تليق بشعوبنا أو بعقولنا.
إن الناس جميعاً قد خلقهم الله ليكونوا سواء في الحقوق والواجبات، واستقبال هذه الحياة وتطوير العيش فيها، بما أتيح لنا فيها من خير، وما كُتب علينا من مكروه. ولكن الناس يطغى بعضهم على بعض، ويتعين أن يُهدَم هذا الطغيان. وأن نكون نحن من يهدمه. لكن الناس يبغي بعضهم على بعض، ويجب أن يزول هذا البغي ، وأن نكون نحن مُزيليه. ويكفي أن ننظر إلى حياتنا الخاصة، فسنرى بيننا العالِم والجاهل، المثقف والذي لا حظ له من ثقافة ، وهنالك الغني والفقير ، والسعيد والشقي، إن اعتقدت أن الله خلق فريقاً منا نحن السودانيين ، ليكون عالماً فطناً وموفور السعادة، وقضى على فريق آخر منا أن يكون جاهلاً غافلاً ومحروماً شقياً. كلا ، إن الله قد خلقنا جميعاً لنستوفي حظنا من هذه الحياة، سعداء بها ما وجدنا إلى السعادة من سبيل، أشقياء بأثقالها ما عجزنا عن دفع هذا الشقاء.
و لكن بعضنا يبغي على البعض الآخر كما هو حادث اليوم، لكن النُظم التي تُدبر أمورنا في حاجة إلى إصلاح كثير من البداية لأن أصحاب الجهالة العمياء سادوا وغطت بلادنا سحابة شديدة السواد. ونحن في المستقبل ، حين نُعدّل القوانين وننشئ المدارس والكليات والجامعات بأسس جديدة، ونقيم التصنيع الذي عماده العقول المتعلمة الناضجة ، وننشر العلم المتطور والمُيسّر والمباح للجميع، وننظم الاقتصاد ونستعير النظم الديمقراطية مثل الدول التي سبقتنا، إنما نسعى إلى هدف نبيل، وهو تحقيق المساواة التي هي حق طبيعي لأبناء وبنات الوطن الواحد جميعاً.
يتعين أن نمحو من أنفسنا أن في الأرض شعوباً قد خُلقت لتسودنا. يجب ان نقر في أنفسنا أن نظام المساواة في الحقوق والواجبات، هو الذي نريد أن نقره في حياتنا الداخلية ، وهو بعينه النظام الذي يجب أن نقره في حياتنا الخارجية ، وفيما بيننا والدول المتقدمة من الصلات. و السبيل إلى ذلك ليس بالحديث وحده يرسل إرسالاً، بل أن نسير سيرة منْ سبقونا ونسلك طريقهم لنكن لهم أنداداً، ونكن لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، ما يُحمد منها وما يُعاب.
عبدالله الشقليني
27 يونيو 2018
alshiglini@gmail.com