إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيحٍ أو نصيحة حازم
وادنِ على القربى المقرّب نفسه ... ولا تشهد الشورى امرءاٌ غير كاتم فإنك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم من شعره بشّار بن بُرد في الحكمة (1) لعله مثقف ذلك الزمان يقف في وجه السلطة. فقد كان لمكة وما حولها سطوة الشعر والبلاغة ، في عصور ما قبل الإسلام فنبأوا بالشعر، وعلقوا أجمل الشعر على أستار الكعبة. وجاء الإسلام وخفّض مكانة الشعر، فلم يكن الرسول بشاعر ولا ينبغي له، كما صرّح الذكر الحكيم. كان الشاعر حسان بن ثابت، هو الذي يزود عن الدعوة بلسانه، ولكنه اشتهر كصحابي ولم يُشهره شعره. وقد كان أنصعهم شعراً "كعب بن زهير بن أبي سُلمى " حين التمس رأفة رسول الله بعد أن أهدر دمه. قال قصيدته العصماء المتلألئة في المديح النبوي، التي برز صدرها: بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ والتي تسمى بقصيدة " البُردة"، التي أنشد الجنيد قصيدة على منوالها، كما أشعر أحمد شوقي قصيدة أيضاً على منوالها.
(2) لم يزدهر الشِعر ولم تضيء شعلته إلا بعد ظهور الخلافة الأموية. ورجع الناس لربوة حضارتهم الشعرية، فكان جرير والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة، وجاء الشاعر بشار بن بُرد، وهو من الشعراء المُحدثين. ففي العصر الجاهلي كان أحسن الشعراء " امرؤ القيس" حين قال: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ... بسقط اللوى بين الدَخول فحومل وفي الإسلام نهض" القطّامي" حيث قال: إنا مُحبوكَ فاسلم أيها الطلّلُ ... وإن بليتَ وإن طالت بكَ الطيّلُ ومن الشعراء المحدثين برز " بشّار بن برد" حين قال: أبي طللٌ بالجزع أن يتكلما ... وماذا عليه لو أجاب متيّما وبالفرع آثارٌ بقينّ وباللوى ... ملاعب لا يُعرفنّ إلا توهمّا
(3) ذكر ابن جرير أن لبشّار في داره مجلسان، مجلس يجلس فيه بالغداة ويسمى " البردان"، ومجلس يجلس فيه بالعشي اسمه " الرقيق". فأصبح ذات يوم ما احتجم، وقال لغلامه: أمسك علي بابي واطبخ لي من طيب طعامي وصفّ نبيذي. قال: فإنه لكذلك إذ قُرع الباب قرعاً عنيفاً. فقال: ويحك يا غلام انظر منْ يدقّ الباب دق الشرط. قال: فنظر الغلام. فقال له: نسوة خمس بالباب يسألنّ أن تقول لهنّ شعراً ينُحنّ به. فقال: أدخلهنّ. فلما دخلنّ نظرنّ إلى النبيذ مصفّى في قنانيه في جانب بيته. قالت واحدة منهنّ هو خمر. وقالت الأخرى هو زبيب وعسل. وقالت الثالثة نقيع زبيب. فقال: لستُ بقائل لكم حرفاً أو تطعمنّ من طعامي وتشربنّ من شرابي . فتماسكنّ ساعة، ثم قالت واحدة منهنّ: ما عليكم هو أعمى فكُلنّ من طعامه واشربنّ من شرابه وخذنّ شِعره. فبلغ ذلك " الحسن البصري" ،فعابه وهتف ببشّاربن برد ، فبلغه ذلك وكان هو يسمي " الحسن البصري" القَس فقال: لما طلعنّ من الرقيق ... عليّ بالبردان خمسا وكأنهنّ أهلّة ... تحت الثياب زففنّ شمسا باكرن عِطر لطيمةٍ ... وغمنّ في الجاديّ غمّا
(4) خير شعره الذي جرى مثلاً كقوله: يا قوم أذني لبعض الحيِّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا بمنْ لا ترى تهذي فقلت لها ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا هل من دواء لمشغوف بجارية ... يلقى بلقيانها روحاً وريحانا
قال الأصمعي: كان بشّار مطبوعاً لا يكلّف طبعه، متعذر لا كمنْ يقول البيت ويحكّكه أياماً. وقال الجاحظ: هو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المفتنِّين في الشعر، القائلين في أكثر أجناسه. وقال ابن رشيق: بشّار أبو المُحدثين، إذا تنشد أقصر شعره عروضاً وألينه كلاماً، فإنك تجد له في نفسُك هزّة و جلبة من قوة الطبع. شائع شعره بين الناس لبساطة تعبيره وبُعده عن التكلّف والإغراق، ويبعد عن غريب الألفاظ والمعاني. واضحة معانيه، سهل التركيب، تصاحبه الموسيقى التي تعتمد الأوزان القصيرة، ونخص شعر الغزل. بشّار بن برد عقلية جادة، وله نظرة عميقة وقريحة فنية وإحساس مُرهف وعاطفة قوية وخيال خصب. كان مُجدداً لا مقلّد أعمى. كان خاتمة شعراء العصر الأموي وبطلهم في الحلبة ودخل العصر العباسي من باب شعره. قال أبو عمرو بن العلاء: كان أمدح الناس حين قال: لَمستُ بكفّي كفّه أبتغي الغنى ... ولم أدرِ أن الجود من كفّه يُعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدتُ وأعداني فأتلفتُ ما عندي
(5) كان بشّار بن بُرد وأبوه من قنّ خيرة القشيرية، امرأة المهلّب بن أبي صُفرة. وكان مقيماً لها في ضيْعتها بالبصرة المعرفة " بخيرتان" مع عبيد لها وإماء، فوهبت بُرداً بعد أن زوجته لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها. فولدت بشّاراً، فأعتقته العقيلية. وقيل أن أمه باعته لأم ظباء بدينارين، ولكن أم ظباء أعتقته. ولد هو حسب ما ذهب إليه البعض في 91 هـ / 710 م. كان بشّار عظيم الخلق والوجه، مجدوراً طويلاً ، جاحظ المقلتين وقد تغشاهما لحمٌ أحمر. كان أقبح الناس، وهو أعمى، وليس أكمهاً وُلد بصيراً ثم عمي بعد الولادة كأبي العلاء المعرّي. * في عهد بشار اختلط العرب بالعجم، ولا فضل لجنس على آخر إلا بالتقوى، انسجاماً مع رؤى الدين الإسلامي. قسمٌ يفضّل العرب على العجم، وقسمٌ آخر يفضّل العجم على العرب وهم الشعوبيون. كان بشّار كثير التلوّن في ولائه، شديد التعصب للعجم. وقد قال: آمنتُ مضرّة الفحشاء إني ... أرى قيساً تضُرُ ولا تُضار كأن الناس حين تغيب عنهم ... نباتُ الأرض أخطأه القِطار ويفتخر بولائه لبني عقيل: إنني من بني عقيل بن كعب ... مُوضع السّيف من طُلى الأعناق
(6) تأتي الحيرة من حرمانه من نعمة الإبصار، في حين يأتي بما لا يقدر عليه البُصراء، رغم أنه عاش شظف العيش والفقر المُدقع الذي أحدث أثراً في شخصيته. قال الشِعر ولم يبلغ عشر سنين. كان يقول: هجوت جريراً فأعرض مني واستصغرني ، ولو أجابني لكنتُ أشعر الناس. وقفزت به المهارة بعد أن اتجه إلى المساجد وإلى مربد البصرة، ينهل من حلقات العلم والشِعر وأعانته نشأته في بني عقيل أن يتمثل السليقة العربية، ومنها اتجه إلى البادية رغبة في إتقان العربية، فمكّنته الإقامة فيها إطلاق عربية لسانه وإلمامه الدقيق بفقه اللغة وشؤون البادية. قال بشّار عن نفسه: من أين يأتيني الخطأ؟. ولدّتُ ونشأت في حجور ثمانين شيخاً من فصحاء بني عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة خطأ. قال من نفائس شِعره: إذ كان ذوّاقاً أخوك من الهوى ... موجهةً في كُل أوبٍ ركائبه فخلّ له وجه الفراق ولا تكُن ... مطيّة رحّالٍ كثير مذاهبه
(7) كان المثقف، وهو المُصطلح الذي يُجيد المرء فيه العلوم واللغة في ذاك الزمان وينبو فيهما، حسب زمننا اللاحق. وقد كان من قبل من ثقّف العود بمعنى شذّبه وحدّ قناته. كان المثقف وفق اصطلاحنا الجديد هو الشاعر أو النحوي المُتبحّر في اللغة والمُتفرّد في قول الشعر والخطابة، وهو مجال يرغب أصحاب السلطان في التاريخ القديم، استبقاء منْ يتصفون به بالتقريب إليهم وإغرائهم بالمال ليمدحوهم. وتلك العلاقة المتوترة بين الشعراء والخلفاء وأمرائهم، تدوم بدوام المديح وتنتهي بانقطاعه. وتلك برزت إلى الظهور بعد مرحلة الخلافة الأولى، وقد تحوّلت إلى ميراث لأولياء العهود. و بعدما بلغ الغنى بالناس مبلغه ، من أثر الفتوحات وغنائمها. وعادت العرب إلى شعرها بعد أن هجرته أيام العقيدة الأولى والخلفاء من صحابة الرسول عليه السلام الأوائل. الشعر إذن سلاح القول وإذاعته عبر إعلام ذلك الزمان يُعتبر سلطة موازية لأصحاب السلطان، و يرغب الخلفاء في اجتذاب المديح، والبُعد عن الهجاء، لأنه يسعى لهدم سلطانهم بين الناس، ويجعل منهم قتلة لا يرحمون من يناصبهم العداء.
(8) هجا الشاعر بشار بن برد الخليفة المهدي: خليفةٌ يزني بعمّته ... يلعب بالدّبوق والصولجان أبدلنا الله به غيره ... ودسّ موسى في حر الحيزُران
وأنشد ذلك في حلقة يونس النّحوي، فسعى إلى يعقوب بن داود وكان بشّار قد هجاه سابقاً فقال: بني أميّة هبّوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزِّق والعود
فدخل يعقوب على المهدي فقال له: يا أمير المؤمنين. إن هذا الأعمى الملّحد الزنديق قد هجاك. فقال بأي شيء. قال بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري: قال له: بحياتي إلا أنشدني. فقال والله لو خيرتني بين إنشادي إياها وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي. فحلف عليه المهدي بالإيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره. فقال: أما لفظاً فلا ولكنني أكتب ذلك. فكتب الهجاء ودفعه إليه. فكاد المهدي أن ينشقّ غيظاً. وعمد الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها. وما وكّده غير بشار. فانحدر. فلما بلغ إلى البطيحة سمع أذاناً في وقت الضحى. فقال: ما هذا الأذان؟. فإذا بشّار يؤذن سكران. فقال له يا زنديق. عجبت أن يكون هذا غيرك. أتلهو بالأذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران. ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسوط. فضربه على يديه على صدر الحراقة سبعين سوطاً، أتلفه فيها، فكان إذا أوجعه السوط يقول " حس". وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع. فقال له بعضهم: أنظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين. يقول " حس" ولا يقول " بسم الله". فردّ: ويلك أطعام هو فأسمي الله عليه. فقال له الآخر: أفلا قلت الحمد لله. فقال هو: أو نعمة هي حتى أحمد الله عليها. فلما ضربه سبعين بان الموت فيه. فاُلقي في سفينة حتى مات، ثم رُميّ به في البطيحة. فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة فدُفن بها. * أخبر الحسن بن علي، لما ضرب المهدي بشّار، بعث إلى منزله منْ يفتشه وكان يُتهم بالزندقة، فوجد في منزله طومار فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إني أردتُ هِجاء آل سليمان بن علي لبُخلهم، فذكرت قرابتهم من رسول الله فأمسكت عنهم إجلالاً له فيهم: دينارُ آل سليمان ودرهمهُم ... كالبابليّين حُفّ بالعفاريتِ لا يُبصَرون ولا يُرجى لقاؤهما ... كما سمعت بهاروتٍ وماروت
فلما قرأه الخليفة المهدي، بكى وندم على قتله وقال: لا جزى الله يعقوب بن داود خيراً. المراجع: - بشّار بن بُرد، دكتور هاشم منّاع - الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني