عن الخليفة أبو العبّاس السفّاح

 


 

 

 


alshiglini@gmail.com
 

مقدمة:

قد يعتقد القارئ أو القارئة أن الموضوع الذي نكتب عنه لا يهم حاضرنا في كثير أو قليل، وأن التُراث الذي نتحدث عنه لا يمت لعصرنا بصلة. ولكننا نكشف أن التُراث من هذا الشكل والمحتوى صاحَبنا اليوم، بل وصاحب العالم كله. ورأينا كم بحور دماء قد اُريقت وأصابت الإنسانية كلها صدمة، مما جرّه علينا هذا التُراث. وأن قادته الذين شبعوا موتاً، قد نهضوا من جديد من نومهم التاريخي، ودخلوا حياتنا من أوسع الأبواب. وغمرت مشاهدنا البطولات الدموية، التي كان لها تاريخها وعصرها ومبرراته. ولكنها تأتينا اليوم، ويدلف حياتنا من يصارعوننا ليعيدوا هذا التراث من جديد. وكم من قوانين وأحبار كُتبت، رغبة لدى البعض إقامة حياة قديمة بذات الشكل والمنهاج.
*
لم نتطلّع على صفحات التُراث لناخذ منها العبر فحسب، ولكن لأن موتورين هيمنوا على الحياة الراهنة، ويسعون ما وسعتهم الاستطاعة لإعادة هذه المسرحية التاريخية لعصرنا الراهن، عبر مسمى قديم هو " الخلافة الإسلامية". وتم تمزيق أسفار فقه القانون ،ليتم استبدلها بالمزارعة والمضاربة والمرابحة والسَلَم والنقاب واللحية المُرسلة وعقوبات الجلد والقطع والصلب!.
*
لمثل هذا يتعين علينا أخذ نظرة عجلى على التاريخ، ونعرف ما كان يجري في الزمن الماضي ، بعين تخلو من الأحلام الوردية بأن الماضي نبيل ومقدّس، وننجو من الخبل الأسطوري أن الأقدمين كانوا يسلكون مسلك القداسة، وأن حياتهم كانت مثلاً يُحتذى.

(1)
بطلنا اليوم هو أبو العباس السفّاح، الخليفة العباسي الأول132هـ - 136 هـ
: عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، وكُنيته أبو العباس ويطلقون عليه السفّاح. و كلمة السفّاح تحتمل معنى سفك الدماء، تحتمل أيضاً معنى الكريم المعطاء الذي يسفح الدنانير.
وُلد أبو العباس بالحميمة في الشام، ثم انتقل للكوفة. يقولون كان وسيماً، كريماً وقوراً، عاقلاً، كثير الحياء، حسن الأخلاق. كان يحب مسامرة الرجال ومُجالسة العلماء. شجّع الأدب وأجزل عطاء الشعراء والمغنين. ومن أقوله:
{ إن من أدنياء الناس ووضعائهم ،منْ عدّ البُخل حزماً والحلم ذلاً }.
توفى بمرض الجدري بعد أربع سنوات من خلافته. وأوصى بالخلافة لأخيه أبي جعفر المنصور.

*
واجهت الدولة العباسية حركات عنصرية مثل البابكية والخرّمية. ووضعوا أول أمرهم تنظيماً عقدياً سرياً، أضحى مثالاً يُحتذى. انتهجوه إثر الكوارث التي حلّت بآل البيت طيلة العصر الأموي. بدأ التنظيم بالنُقباء ثم يليهم مرتبة النُظراء ثم الدعاة، وتتبعهم سلسلة من طبقات تنظيمية أدنى كطبقة العمال الذين يديرون العمل السري.
*
كان من أهم القادة حينذاك أبومسلم الخرساني. كان نصيراً للعباسيين في قيادة حملاتهم العسكرية حتى الانتصار. فهو من سكان خراسان المحليين، أو أمل الموالي الذين تطلّعوا إليه لرد اعتبارهم وإحياء التراث الفارسي القديم. بدأت هويّات الأعاجم بالظهور مع نهاية الخلافة الأموية، بعد أن خفيت أمام انهزام مُجتمعاتهم. ويمكن أن تصبح مقدمة فيما بعد لظهور البرامكة والطاهريين والبويهيين، واضعين أسساً للدولة الخراسانية السريّة.

(2)
تحدث التاريخ عن قوة انتقام سلالة العباس بن عبد المطلب من الأمويين. وذاع صيت أبو العباس السفّاح، أنه قد ولغ في الدماء واقتّص من الذين سرقوا الخلافة وعمّدوها بالدم، وأمعنوا في سفك الدماء. وكانوا كلهم من أحفاد الصفوة المعاندة، التي وقفت في طريق الديّن الجديد منذ ميلاده في مكة. وحين انتصر، رأت في نفسها القبيل القرشي الذي حق له أن تُدين قريش، بل العرب كلها لسلطته بالولاء.
*
فرض الخراسانيون مرشحهم أبا العباس عبدالله السفّاح، الذي أوصى به الإمام إبراهيم قبل أن يغتاله الخليفة الأموي مروان. وبرزت الدولة العباسية الجديدة ، ونهضت عدد من العوامل ذات الأثر في الدولة الوليدة:
- انتقال العاصمة من دمشق إلى بغداد.
- التأثير الفارسي على التنظيم والحياة العباسية.
- انتعاش التجارة المشرقية.
- عدم اهتمام العباسيون بإنشاء أسطول بحري في المتوسط ، يضارع الأسطول الأموي.

(3)
تحدث صالح بن ميمون مولى عبد الصمد بن علي: لمّا استمرت الهزيمة بمروان، أقام عبدالله بن علي بالرقّة. وأنفذ أخاه عبدالصمد في طلبه. فصار إلى دمشق وأتبعه جيشاً عليهم أبو إسماعيل عامر الطويل، من قوّاد خراسان. فلحق الخليفة الأموي مروان وقد جاز مصر في قرية تدعى بوضير، فقتله. وذلك يوم الأحد لثلاث بقينّ من ذي الحجة، ووجه برأسه إلى عبدالله بن علي. فأنفذه عبدالله بن علي إلى أبي العباس. فما وُضع بين يديه خرّ ساجداً، ثم رفع رأسه وقال:
الحمد لله الذي أظهرني عليك، وأظفرني بك. ولم يبق من ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدّين، ثم تمثل قول ذي الإصبع العدواني:

لو يشربون دمي لم يروّ شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ تروينّي

(4)
قال الكرّاني في خبره واللفظ له: كان أبو العباس السفّاح جالساً في مجلسه ، على سريره. وبنو هاشم دونه على الكراسي ، وبنو أمية على الوسائد، وقد ثُنيت لهم. وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخلفاء. منهم على السرير ويجلس بنو هاشم على الكراسي. فدخل الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي أسود . راكب على نجيب ملثّم، يستأذن ولا يخبر باسمه ، ويحلف ألا يُحسر اللّثام عن وجهه، حتى يراك. قال: هذا مولاي سريف يدخل. فدخل . فلما نظر إلى أبي العباس، وبنو أمية حوله، حدر اللثام عن وجهه، وأنشأ يقول:

أصبح الملكُ ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العبّاس
بالصدور المُقدمين قديماً ... وللرؤوس القماقم الرّؤاس
يا أمير المطهّرين من الذّم ... ويا رأس منتهى كل رأس
أنت مهديُ هاشم وهداها ... كم أناس رجوك بعد إياس
لا تقيلنّ عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رَقلة وغِراس
أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس
خوفهم أظهر التودّد منهم .... وبهم منكم كحزّ المواسي
أقصهم أيها الخليفة واحسم ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس
واذكرنّ مصرع الحسين وزيد ... وقتيل بجانب المهراس
والإمام الذي بحران أمسى ... رهن قبر في غربةٍ وتناسي
فلقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
نعم كلبُ الهراش مولاك لولا ... أودٌ من حبائل الإفلاس

فتغيّر لون أبي العباس وأخذه زمع ورعدة. فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى رجلٍ منهم، وكان إلى جنبه، فقال: قتلنا والله العبد.
ثم أقبل أبو العباس عليهم، فقال: يابني الفواعل أرى قتلاكم من أهلي، قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا. خذوهم، فأخذهم الخراسانية. فاُهمّدوا إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فإنه استجار بداود بن علي وقال له: إن أبي لم يكن كآبائهم. وقد علمت صنيعته إليكم، فأجاره واستوهبه من السفّاح، وقال له: قد علمت يا أمير المؤمنين صنيع أبيه إلينا. فوهبه له وقال: لا تريني وجهه، وليكن بحيث تأمنه، وكتب إلى عمّاله في النواحي بقتل بني أمية.

(5)
تحدث الزبير بن بكّار عن عمه أن سبب قتل بني أمية، أن السفّاح أنشد قصيدة مُدحَ بها، فأقبل على بعضهم فقال:أين هذا مما مُدحتُم به؟، فقالوا هيهات، لا يقول والله أحدٌ فيكم مثل قول ابن قيس الرقيّات فينا:

ما نَقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وإنهم معدن الملوك ولا ... تصلُحُ إلاّ عليهم العربُ

فقال له : يا ماص كذا من أمه أو إن الخلافة لفي نفسك بعد، خذوهم .فاُخذوا فقتلوا.
*
أخبر المعيطي أن أبا العباس دعا بالغداء، حين قتلوا. وأمر ببساط عليهم ، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ ولا أطيب لنفسي منها. فلما فرغ قال: جرّوا بأرجلهم فألقوا في الطريق، يلعنهم الناس أمواتاً كما لعنوهم أحياء. قال: فرأيت الكلاب تجرّ بأرجلهم وعليهم سراويل الوشي حتى أنتنّوا، ثم حُفرت لهم بئر فاُلقوا فيها.
*
تحدث الهيثم بن بشر مولى محمد بن علي. قال: أنشد سديف أبا العباس وعنده رجال من بني أميّة قوله:
يا بن عمّ النبي أنت ضياء ... استبَنّا بك اليقين جلياً
فلما بلغ قوله:

جرِّد السيف وأرفع العفو حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
لا يغرنّك ما ترى من رجالٍ ... إن تحت الضلوع داء دويّا
بطن البُغض في القديم فأضحى ... ثاوياً في قلوبهم مطويّا

وهي قصيدة طويلة، فقال: يا سديف خلق الإنسان من عجل، ثم قال:

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا ... فلنْ تبيد وللآباء أبناءُ

ثم أمر بمنْ عنده منهم فقُتلوا.

المراجع:
- تاريخ الدولة العباسية،الدكتور محمد سهيل طقّوش.
- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني.

عبدالله الشقليني
22 يوليو 2018

 

آراء