عن الخليفة المأمون العباسي (2/2)
alshiglini@gmail.com
(170هـ - 218هـ)
مقدمة:
قد تسبق مرجعية كتاب الأغاني لأبو الفرج الأصفهاني، الكثير من دعاوى التشكيك وعدم الموثوقية، بما ورد في متنه من حوادث وأخبار، رغم أن صاحبه قد قضى نيّف وخمسين سنة موصولة ليُكمل مجلدات الكتاب ويرصد مراجعه. لكنّا نعلم أن الكثير من تاريخ الخلافة الإسلامية، بجميع حلقاتها، قد شابه الكثير من التحوير والتعديل والتبديل. وكان تدّخل السياسة قد أسفر عن وجهه الكالح، وبرز مُنتحلي الحديث النبوي ومُثبتي هيمنة ولاة الأمر وتوابعهم من رجال السلطان. ونفد كتاب الأغاني من البتر، باعتبار أنه محض كتاب أشعار وأغاني، ومرّت طائفة من الحوادث، ما كانت لتصلنا لولا أن أصحاب بتر التاريخ، قد ظنوا أن الكتاب محض كتاب شعر وغناء ولهو.
(1)
ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني:
حدثنا المُعلّى بن أيوب: دخلت على المأمون يوماً وهو مقبلٌ على شيخ حسن اللحية، خضيب شديد بياض الثياب، على رأسه لاطئة. فسألت الحسن بن أبي سعيد. قال: هو ابن خالة المعلىّ بن أيوب. وكان الحسن كاتب المأمون على العامّة. قال: منْ هذا؟ فقال: أبو العتاهية. فسمعت المأمون يقول له: أنشدني أحسن ما قلت في الموت. فأنشده:
أنسالكَ مَحْياكَ المماتا ... فطلبتَ في الدُنيا الثباتا
أوَثِقْتَ بالدُنيا وأنتَ ... ترى جماعتها شِتاتا
وعَزمت منك الحياة ... وطّلها عزماً بتاتا
يا منْ رأى أبوَيه فيمنْ ... قد رأى كان فماتا
هل فيهما عِبرةٌ ... أم خِلتَ أن لك انفلاتا
ومن الذي طلب التفلّت ... من منيّته ففاتا
كلٌ تصبّحه المنيّة ... أو تبيّته بياتا
قال: لما نهض تبعته فقبضتُ عليه في الصحن أو في الدهليز، فكتبتها عنه.
(2)
حدثني الجاحظ عن ثمامة قال: دخل أبو العتاهية على المأمون فأنشده:
ما أحسن الدُنيا وإقبالها ... إذا أطاع الله مَنْ نالها
مَنْ لم يواس الناس من فضلها ... عَرّض للإدبار وإقبالها
قال له المأمون: ما أجود البيت الأول، فأما الثاني فما صنعت فيه شيئاً. الدُنيا تُدبر عمن واسى أو ضنّ بها. وإنما يوجب السماحة بها الأجر والضنّ بها أوزر. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل، وأهل النقص أولى بالنقص. فقال المأمون: ادفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق.
(3)
قال أحمد بن معاوية: لما عقد هارون الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة الأمين والمأمون والمؤتمن. قال أبو العتاهية:
رحلتُ عن الرّبع المُحيل فعُودي ... إلى ذي زحوفٍ جمّة وجنودِ
وراعٍ يُراعي اللّيل في حفظ أمّةٍ ... يدافع عنها الشرّ غير رقودِ
بألوية جبريلُ يقْدمُ أهلها ... ورايات نصرٍ حوله وبنودِ
تُجافي عن الدنيا وأيقن أهلها ... ورايات النصر حَوله وبُنودِ
وشدّ عُرا الإسلام منه بفتيةٍ ... ثلاثة أملاك وُلاة عُهودِ
هُمْ خيرُ أولادٍ لهم خيرُ والدِ ... له خير آباء مَضتْ وجدودِ
بنو المصطفى هارون حول سريره ... فخير قيام حوله وقُعودِ
تُقلّب ألحاظ المهابة بينهم ... عيون ظباءٍ في قلوب أسودِ
جُدودهم شمس المهابة أتت في أهلةٍ ... تندّت لراء في نُجوم سُعُودِ
قال: فوصله الرشيد بصلة ما وصل بمثلها شاعر قط.
(4)
حدثني عمر بن شبّة قال: مات إبراهيم الموصلي سنة ثمان وثمانين ومائة ،ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف الشاعر وهشيمة الخمارة. فرُفع ذلك إلى الرشيد، فأمر ابنه المأمون أن يصلي عليهم. فخرج فصُفّوا بين يديه. فقال منْ هذا الأول؟. قيل إبراهيم. فقال أخروه. وقدموا العباس بن الأحنف. فقُدم فصلى عليهم. فلما فرغ وانصرف. دنا منه هاشم بن عبدالله بن مالك الخزاعي. قال: يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدّمة على منْ حضر. قال لقوله:
وسعى بين الناس فقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنّهم ... إني ليُعجبني المحب الجاحد
ثم قال: أتحفظها. قلت: نعم. فقال: أنشدني باقيها. فأنشدته:
لما رأيتُ الليلَ سدّ طريقه ... عني وعذبني الظلام الرّاكد
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد
ناديتُ منْ طرد الرُقاد بصدةٍ ... عمّا أعالج وهو خلوٌ هاجد
يا ذا الذي صدعَ الفؤاد بهجره ... أنت البلاءُ طريفه والتالد
ألقيت بين جفون عينيّ حُرقةً ... فإلى متى أنا ساهرٌ يا راقد
فقال المأمون: أليس منْ قال هذا الشعر حقيقاً بالتّقدمة. فقلت: بلى والله يا سيدي.
(5)
قال صالح بن الرشيد: كُنا عند أمير المؤمنين وعنده جماعة من المُغنين فيهم إسحاق وعلوبه ومخارق وعمر بن بانة. فغنى مارق في الثقيل الأول:
أعاذلٌ لا آلوكّ إلاّ خليقتي ... فلا تجعلني فوقي لسانَك مِبرَدَا
ذَريني أكنْ مالي لعِرضي وقايةً ... يقي المال عِرضي قبل أن يتبدّدا
ألم تعلمي أني إذا الضيفُ نابني ... وعزّ القِرى السديف المُسْرهَدا
فقال له المأمون: لمْن هذا اللحن؟. قال: لهذا الهزبر، يعني إسحاق. فقال المأمون لمخارق: قمْ فأقعد بين يدي وأعد الصوت. فقام وجلس بين يديه وأعاده فأجاده. وشرب المأمون عليه رطلاً. ثم التفت إلى إسحاق فقال له: غن هذا الصوت. فغناه، فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق. ثم دار الدور إلى علوبه. فقال له: غن. فغنى في الثقيل الأول أيضاً صوت:
اُريتُ اليومَ ناركَ لم اُغمضّ ... بواقصةٍ ومَشرَبُنا بَرود
فلم أر مثلَ موقدها ولكن ... لأيّة نظرة زهرَ الوَقُود
فيتّ بليلةٍ لا نوم فيها ... اُكابدها وأصحابي رقود
كأن نجومها ربطتْ بصخرْ ... وأمراسٍ تدور و تستذيد
فقال له المأمون: لمنْ هذا الصوت؟. فقال: لهذا الجالس. وأشار إلى إسحاق. فقال لعلوبه: أعده. فأعاده. فشرب عليه رطلاً ثم قال لإسحاق. غنه. فغناه. فلم يطرب له طربه لعلوبه. فالتفت إلىّ إسحاق ثم قال: أيها الأمير، لو لا أنه مجلس سرور وليس مجلس لجاج وجدال، لأعلمته أنه طرب على خطأ وأن الصوت ما غنيته، لا ما زادا. ثم أقبل عليهما فقال: يا مخنثان، قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي ولا رفعتي، وأنا على مكافأتكما قادر. فضحك المأمون وقال له: ما كان ما رأيته من طربي لهما إلا استحساناً لأصواتهما، لا تقديماً لهما ولا جهلاً بفضلك.
(6)
قال ابن أبي الأزهر، قال: كنتُ بين يدي المأمون واقفاً، فأدخل إليه ابن البواب رُقعة فيها أبيات. وقال إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشادها. فظنها له. فقال: هات فأنشده.
اُجريني فإني قد ظَمئتُ إلى موعد ... متى تُنجز الوعد المؤكّد بالعهد
اُعيذُك من خُلف الملوك وقد بدا ... تقطُّع أنفاسي عليك من الوَجد
أيبخلُ فرد الحُسن عني بنائلٍ ... قليل وقد أفردتُه بهوىً فرد
إلى أن قوله:
رأى اللهُ عبدالله خير عباده ... فملّكه والله أعلمُ بالعبد
إلا إنما المأمون للناس عصمةٌ ... مُميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال المأمون: أحسنت يا عبدالله. فقال يا أمير المؤمنين أحسن قائلها. قال: منْ هو؟. قال: عبدك حسين بن لضحّاك. فغضب ثم قال: لا حيا الله منْ ذكرت ولا بيّاه ولا قرّبه ولا أنعُم به عيناً، أليس القائل:
أعينيّ جُودا وابكيا لي محمداً ... ولا تّدّخرا دمعا عليه وأسْعدا
فلا تمت الأشياء بعد محمدٍ ... ولا زال شملُ الملك فيه مبدّدا
ولا فرح المأمون بالمُلك بعده ... ولا زال في الدُنيا طريداً مشردا
قال: هذا بذاك، ولا شيء له عندنا، فقال له ابن البواب: فأين فضل إحسان أمير المؤمنين وحلمه وعادته في العفو. فأمر بإحضاره. فلما حضر سلّم. فرد السلام رداً جافياً، ثم أقبل عليه فقال: أخبرني عنك هل عرفت يوم قُتل أخي محمد هاشمية. قتلتَ أو هتكتَ؟. قال: لا. قال: فما معنى قولك:
وسِرب ظباءٍ من ذُوابة هاشم ... هَتفنَّ بدعوى خير حيٍّ وميتِ
أرد يداً مني إذا ما ذكرته ... على كبد حَرّى وقلب مفتّت
فلا بات ليلُ الشامتين بغبطةٍ ... ولا بلغت آمالهم ما تمنت
فقال: يا أمير المؤمنين لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أن غمرتي، وإحسان شكرته فأنطقني وسيّد فقدته فاقلقني. فإن عاقبت فبحقك. وإن عفوت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون وقال: عفوت عنك وأمرت بإدرار أرزاقك وإعطاءك ما فات منها.
(7)
كانت " متيّم " صفراء مولّدة من مولّدات البصرة. نشأت وتأدّبت وغنّت وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله وعن طبقتها من المغنين. وكانت من تخريج " بذل" و تعليمها. وعلى ما أخذت عنها كانت تعتمد، فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك، فازدادت أخذاً ممن كان يغشاه من أكابر المغنين. وكانت من أحسن الناس وجهاً وغناءً وأدباً. وكانت تقول ليس مما يُستجاد ولكنه يُستحسن من مثلها. وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت على جمع الجواري عنده.
قال ابن المعتزّ أخبرني الهاشمي قال: كانت " متيّم " ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر. فغنت " متيّم" في الثقيل الأول:
لزينب طيفٌ تعتريني طوارقه ... هدوء إذا النجم لاحتْ لواحقه
فأشار إليها إبراهيم أن تعيده، فقالت للمعتصم يا سيدي، إبراهيم يستعيدني الصوت وكأنه يريد أن يأخذه!، فقال لها: لا تُعيديه. فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضراً مجلس المعتصم و "متيّم" غائبة، فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله، و " متيّم" في منزلها بالميدان وطريقه عليها. وهي في منظرة لها مشرفة على الطريق وهي تغني هذا الصوت وتطرحه على جواري علي بن هشام، فتقدم إلى المنظرة وهو على دابّته فتطاول حتى أخذ الصوت، ثم ضرب باب المنظرة بمقْرعته، وقال: قد أخذناه بلا حمدك.
وقال ابن المعتزّ: حدث أن المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له. وكان بغنائها مُعجباً. فدفعه بذلك ولم يكن له منها ولد. فلما ألحّ المأمون في طلبها، حرص علي على أن تعلق منه حتى حبلت. ويئس المأمون منها. ويقال إن ذلك كان سبباً لغضبه عليه حتى قتله.
المراجع :
- الخليفة المأمون ، المهندس خالد العاني رئيس لجنة إحياء التراث الفلكي العربي في جمعية هواة الفلك السورية.
- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
عبدالله الشقليني
5 يوليو 2018