جمال محمد أحمد يكتب عن إقبال

 


 

 

 


alshiglini@gmail.com

مقدمة :
جمال محمد أحمد ( 1915- 1986):
الكاتب والدبلوماسي رفيع الشأن ، الذي وُلد في " سرة شرق" في شمال السودان. لم يكُن يُعرف الناس كثيراً ذلك الرجل النوبي، الذي كان لسانه أعجمي. تطورت معارفه حتى صار عضواً في مُجمّع اللغة العربية بالقاهرة، وأيضاً مُجمع اللغة العربية ببيروت. نهضت سيرته متماثلة بسيرة وطن. كان من سكرتيريمؤتمر الخريجين أيام تكوينه الأول. كان مسئولا عن شؤون الطلاب بجامعة الخرطوم عام 1949. كان أستاذا بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، و كان أستاذاً في معهد بخت الرِضا. وكان من مُحرري دار النشر. ابتُعث لإنكلترا مرتين للنهل من فقه الأدب والثقافة.
*
لن نتحدث عن صياغته ميثاق الوحدة الأفريقية في ستينات القرن العشرين، ولا نأتي على تدريسه بمعهد الدراسات الأفريقية والأسيوية بجامعة الخرطوم، أو صعوده لمنصة وزارة الخارجية باقتدار، في الزمن البئيس. ولكنها خُطى كتبها التاريخ، ومشاها " جمال محمد أحمد" مرفوع الرأس " زاهي المراس. له من الكتب: مطالعات في الشؤون الإفريقية ، الدبلوماسية السودانية ، وجدان إفريقيا، عرب وأفارقة ، المسرحية الإفريقية ، سالي فو حمر، حكايات من سرة شرق، أساطير سرة شرق، الأصول الثقافية للقومية المصرية ، ومقالات ودراسات أخرى.
*
كتب عن الهوية الإفريقية التي أغشت السودان كله منذ زمان. فطن لها الأديب العملاق ، فكتب عن آداب إفريقيا وترجم قصصها منذ ستينات القرن العشرين. جاور معابدها التي تصنعها الغابات، وليست الحجارة. كان سابقاً منْ يتحدثون عن الهويّات السودانية، كتميمة سياسية، وليس أدباً صبوراً وترجمات، وعمل مُبصرٍ تلك الجنان الخضراء، التي غطتها سُلطة البداوة، وكادت أن تمحها.
هذا بعض من كتاباته، في سبعينات القرن العشرين، عندما استدرجه مراسل " مجلة الدوحة القطرية ": بروفيسور " علي المك" أن يكتُب. كتب " ذكريات من هارفارد " وكتب " في ذكرى بولس السادس " وكتب هذه المقالة التي بين يدي القارئ، و التي كان يعتبرها صاحبها كتابة عجول، لأن " علي المك" كان يستعجله، وهو سلطان التأنّي وبسطة الذاكرة ومداد الأقلام، قبل أن يأتينا طائر العولَّمة بأجنحة ضخام ،يبتني أعشاش الإعلام .
لم تكن كتابته للعربية نقلا لتقنيات اللغة الإنكليزية، بل جزاء أصيلاً في تطويره أساليب اللغة ودروبها، في الدقّة وفي الإيجاز، وفي كبسولات المعاني المُتفجرة.
*
تحدث عنه الروائي" الطيب صالح ":
{كان "جمال محمد أحمد "رحمه الله نسيج وحده بأدق معاني الكلمة، في حياته وفي فكره. وكان أسلوبه في الكتابة من الأساليب المميّزة في الأدب العربي المعاصر. يمكن أن يوضع ، دون أدنى مبالغة، جنبا إلى جنب مع الأساليب العظيمة كأسلوب طه حسين وأحمد زكى ومصطفى صادق الرافعي والمازني والمسعدي. كان إذا رثى الشاعر الإنجليزي لوى ماكنيس ، أو إذا وصف لقاءه للبابا، أو إذا حدثك عن أيامه في جامعة هارفارد، خلق لك عالما طريفا مدهشا، تتماوج فيه الأضواء والظلال، والابتسام والسخرية، والفكرة والأحاسيس، شأن كل أدب عظيم، فإذا أنت تسمع وترى وكأنما لأول مرة، وإذا روحك تنتعش كأنك سبحت في بركة صافية ذات صباح جميل، هكذا كان: ضوء كأنه مجموعة أضواء. كان أخاً وأباً ومعلماً لرهط كثيرين. وسوف يكتسي حزننا لفقده ألواناً شتى فيما بقى لنا من أيام.}
*
ندلف بصدق لتلك الكلمات التي صاغها كاتبها في سبعينات القرن العشرين، وهو جالس في حديقة بيته في الخرطوم. طاولة صغيرة ودفاتر وقلم وضوء شمعدان وصفاء، ومُثقف حداثي نابه . بعثرهو سيرة "محمد إقبال" بمحبة وشغف. قلّب باطنه وظاهره، وانتضى لقلمه سدادة الرأي مع حُسن الترفق .هذه سيرة " محمد إقبال " كما صاغها صاحبها:

(2)
كان واحداً من هؤلاء:
كل حضارة عرف الإنسان، وضعت الشعر مكاناً عليا، والشعراء في نن العيون. نسب الإغريق الشِعر للآلهة، ونسبه العرب لعبقر، وما انفصم الشعر عن الوحي والإلهام، أي زمان، أي مكان. يتجه الإنسان صوب كلماته وألحانه، يلوذ بها كلما هفت نفسه لدنياوات، يبدعها الذين أوتوا سحر البيان، سحر الكلمة، يستوي في هذا الذين يعلمون والذين لا يعلمون، تستوي المرأة والرجل، يستوي الصغار والكبار، الشِعر أسخى من أن يكون لواحد، لطائفة، لجماعة، على أن الكلمة أنفَس من أن تكون طوع الناس، كل الناس، لا يلقّاها غير ذي حظ عظيم، قلّة من كل أمّة.
*
كان إقبال واحداً من هؤلاء. ما بلغ قمم الأولمب، و لاعرف الحنايا كلها في وادي عبقر، لكنه أوتي من سرّ الكلمة ما أوتي شعراء الرسالات، حسان، دانتي، دنّ شوقي. مشت إليه طائعة كلما دعاها يحث بها المسلمين، يريد ليوقظهم من خدرٍ طال، فاستباح غيرهم، حب أرضهم، وثمر شجرهم، وعرق بدنهم.
خذّلوا بنومهم هذا الطويل ديّناً أرادهم أمة وسطاً بين الناس، وأرادوا أيامهم هذه الأخر، الذيل والقاع في موكب الأمم. أمسك إقبال بسر الكلمة، فقصي العمر يشدو بأمجاد المسلمين، وفي نغم أسيان حزين. بعض الأحايين، يأسره الأسى، فتحسبه يقترب بإيمانه من الجرف الهاري، وتخشى عليه الفتنة، ثم تذكر. تذكّر مصادر إلهامه، فيطمئن قلبك عن الرجل الطيب الخيّر. في قصيدته ذات الصيت " شكوى " مثلاً، يسائل ما بال هؤلاء الذين أبوا ديّنه الحق، منْ أبوه يظهرون على المسلمين، وهم الذين افتدوا اسم الله بالصدور؟ يزهق حق المسلمين، ويعز باطلهم؟

(3)
لا تقول لنا المراجع كثيراً عن هذه القصيدة العاتبة، ولا أختها " جواب شكوى" وإن كان بيِّنا أنه كتب الأخيرة هذه ليقول للعامة، لا تجزعوا، أنا ذاك المؤمن الذي تعرفون، ذاك التقي، فما تعرف العامة تلكم القربى التي تكون بين العبد وبارئه، يوم يصل العبد ذروة في الصفاء، لا يصلها غير المصطفين من عباده، وإقبال اقترب اقتراباً من هذه الذروة. عكف على كُتب الصوفيّة، في منابعها الأولى، بعد أن عرف ما ينبغي له أن يعرف من طرائق غيرهم، ممن تصدّوا للدين وعلومه. تذكر بعد الذي كان من أمر الغزالي، تذكر فترة التيه التي اضطرب فيها العقل منه والوجدان، فاعتزل الخلق عشر سنين، يُعالج تأرجحه بين اليقين و الشك. درس وأعمل عقله وكيانه كله بعيداً عن الناس، ليفهم كل علوم عصره .. وانتهى إلى " إن الصوفيّة هم السالكون لطريق الله خاصةً" ووثق من أن " طريقهم أصوب الطريق" وأفاض في الحديث عن النبوة، وكانت واحدة من مواطن تأرجحه وتساؤله وظنونه، قبل أن يعتكف، فقال عن جوهرها في " المنقذ من الضلال" من لم يرزق عنها شيئاً بالذوق، فلا يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم.

تقرأ شكوى، فيجيء في خاطرك هذا الذي أنقل لك من منقذ من الضلال. ما كان إقبال خائفاً مذعوراً من الله. شيء في داخله كان يوحي إليه، بأن بينهما ما يبيح له أن يسأل، شأن المحبين في النجوى. الحبُ اقتراب. الخوف ابتعاد. لا أجزم أن إقبال قد رُزق ذاك " الذوق" الذي أشار إليه الإمام، لكني لا أبعد عن الحق إن زعمت أن شاعرنا، الكاتب، الفيلسوف، سلك مع الله سلوك العاشق الواجد، كما ترى في ديوان شعره، ونجزم بأنه سار طريقاً من إحدى طريقين قال الإمام ، إنهما تؤديان للذوق الذي قال إنه نافذة الإطلالة على النبوة، والتعرف على آلائها، طريق الذين يسهرون للوصول " بالتجربة والتسامُح، إن أكثروا معهم الصحبة ". يعني الصوفيّة. إنها الطريق المتاحة لأولئك الذين " يجالسونهم" إذ كل منْ يفعل " يستفيد منهم هذا الإيمان، فهم القوم لا يشقى جليسهم". هذه طريق نجزم أن إقبال سلكها ،فنحن نعرف عنه أنه أطال الجلوس لآثار القوم، ويدل ما ترك من آثار مكتوبة أنه " استفاد " فهو لا يكتب بعقله وحده. يكتب بعقله وقلبه معاً. ربما أفاد أن نقف قليلاً عند صباه الأول، إذن نقدر رفقته القوم " لا يشقى جليسهم". كانت أياماً مشيرة بمستقبل جديد على الناس، ما ألفوه:

(4)
اختلف إقبال على مدارس القرن في صباه الباكر، وحفظ قدراً غير يسير منه أعانه قابل أيامه على أن يقرأ ويكتب العربية في يسر مقبول، وكانت مع الأردية والفارسية، نافذة أخرى على دنياه. عزوز هذه اللغات الثلاث من بعد الإنكليزية ، وكانت هذه نافذة أخرى، تلكم على حضارات وثقافات وروح الشرق، وهذه على حضارات وثقافات وعلوم وفنون ومناهج الغرب، وجدير بنا ونحن نعرض عليك مزاجه الفرنجي أن نقول تواً، أن أقرب سادته إلى نفسه، كان جلال الدين الرومي، ولعل للعذوبة التي تراها في شعر هذا الصوفي الجليل، دخلا في الذي تراه من رقّة في شعر صاحبنا إقبال، وذاك رغم ما تحول بيننا وبينهما الترجمات. كانت كتابات جلال الدين مدخل إقبال لضوء ربه، وقاده الضوء للعشق الذي اشتكى معه على النحو الذي اشتكى في قصيدته الشهيرة، وكانت الحياة عنده من أجل ضحى ينعش القلب والروح.
*
كان ضرورياً أن نقول هذا. أن نقول إن الحياة كانت ضحى عنده، ما كانت رسالة إقبال جهمة الوجه، صارمة. كانت آسية نعم، حزينة نعم، جهمة لا. حلاوة نفس إقبال صانته عن التجهّم والصرامة. عذوبة مصادر إلهامه، أعطتها قدرات على اليسر، أيسر الألفاظ تأتيه طوعاً، يملك منها ما لا يملك إلا من نذر نفسه للحرف. شِعره الذي حمل الرسالة، يطوف بالبساتين ،فيها الخضرة والزهر والريحان والدّن. لا نعرف إن كان إقبال قد عرف من مُتع الحياة، غير متعة الذهن، فكُتّاب السير عندنا والإخباريون والمؤرخون كلهم، يحسب للمُتع الأخرى رجساً، أو هكذا يحب لنا أن نحسب، فلا يمسها، وتجدنا لا نعرف عن رجالات ونساء الإسلام والعرب، إلا الأبعاد التي تُزيّن الكاتب وتزيّن من يكتب عنه أو عنها، تبعد بالكاتب وأصحابه عن الرجس والنجس، كما يرى الرجس والنجس. ما ضرّ هذا إقبال كثيراً، ففي شِعره وضوح وإبانة. كان يحيا رؤى التجاني " وعبدناك يا جمال ...". كان يحيا مذاق المازني " هل حباك الإله بالحسن..." حمل إقبال الرسالة في مراكب الحُسن، فكانت أرفق المراكب، أحلاها، حتى الذي تبقى من شِعره بعد أن عدا عدوة الترجمة تسابيح. أسارع أقول، لإن أريج الزهور في بساتينها الورقاء، لا تفتنك، كما تفعل بعض الأحايين، عن دعوة إقبال للمسلمين، أفيقوا، حي على الفلاح. تتخذ الدعوة بين أنامله بُعداً ما كان لها أن تتخذه، لولا هذه الأنغام في كلماتها، أشبه ما تكون بأنغام موسيقى بلاده القديمة، تلك التي تجيء إليك أنّات من الناي حزينة، وإن حملت إليك أشهى الكلام، على أشهى الشفاه.

(5)
ولإقبال جانب يضنيك، يرهقك. يفعل هذا حين يتصدى للفكر الإسلامي، يتحدث عن بعثه، وطرائق ذلك البعث، يريد ليجعل من المسلمين الآخرين، قوماً جديرون بالأولين. يريد لهم أن يملأوا صدورهم من دخان المداخن في المصانع والمزارع، كما ملأوا صدورهم من أنسام البادية، عهدهم الأول، يصحون اليوم كما صحوا أمس. تلك حال وهذه حال. لكل حال فكر ودروع، على المسلمين أن يقرأوا دينهم القديم على ضوء حاجاتهم الجديدة. كتب وعينه على أوروبا التي طوّف والعود أخضر. راح لها سنة 1905 ، ما كان قد بلغ الثلاثين من عمره. كان قد ذاق حلاوة العلم، وعرف ما يقتضيك طلبه من عناء ووحشة. ساقه سعده لأئمة الفلسفة في كمبردج إنكلترا، وكانت على ذلك العهد، موطن الإبداع والمدراس الفلسفية التي نعيش اليوم، مدارس مور وفقنستاين ورسل. عدّلها قليلاً حواريوهم الآن ترحل من بعد لميونخ، يلقى أئمة الشرقيات، وكانت ألمانيا بيت الدراسات هناك وفي هايدلبيرق، لا تقول لنا المراجع شيئاً عن أشياخه هناك في الجامعتين، لكنا نعرف المناخ الفكري، الذي خلقته دراسات وكتابات المؤرخين والفقهاء الألمان على ذلك العهد، يوليوس فالهوسن، إقناس قولد زهير وماتن هارتمان ، ولنا أن نخلص إلى أن علمه الغزير في هذا الصدد، وحنانه على قضايا العرب من بعد، ووقفاته جنبها ، تعود لذاك المناخ الذي استنشقه. عاد من بعد لأنكلترا ثانية، يدرس القانون في لندن هذه المرة.

(6)
كان حتماً أن تدخل هذه التجاريب والدراسات دمه الدافق حيوية، تقر هناك، وكان حتماً أن يفتن بالذي يرى ويسمع، وأن يصطخب في صدره وأعماقه الفكر، وما كان عجباً هذا. العجب أنه ما عاد بلاده رجلاً لا يتبين ذاته، كالذي فعل نهرو مثلاً، وهو كإقبال، ابن حضارة وثقافة، ذاتا يد على العالمين. عاد نهرو يسائل نفسه، منْ أنا ؟ أين مكاني؟ في الشرق أم في الغرب؟ عاد كذاك إقبال. عاد أكثر إلتصاقاً بذاته الأولى. قرآنه في صدره يهديه، جلال الدين في دمه يدفعه، إسلامه مصدر إلهامه الأول. ما الذي يضنيك منه إذن، حين يتحدث إليك عن تجديد الإسلام أو بعثه؟
كتاباته في هذه السبيل أكثرها، أهمها باللغة الإنكليزية، وكانت لغة الفلسفة على زمانه في كمبردج ، فلسفته القت في مراقيها العليا بالعلوم لرياضية والطبيعية، وأضحت من أجل ذلك عسرة، تسعى لتعبر عن هذا الاتجاه الجديد، الذي كان قد انفصل عن القديم في الفلسفة، انفصالاً تأثرت معه اللغة واللغويات، تأثراً اختفت معه تلك السهولة التي ورثها عن سويفت وديفو وبوب. تلك هي الفلسفة التي عرفها إقبال، وتلك هي اللغة التي بها التقى، فبان أثرها في كتاباته الفلسفية. تطول العبارة عنده، كما كانت تفعل ذلك الزمان، تلهث في الطريق لنهايتها، وتصل نقطة النهاية، لتجد السبل متشابهة عليك. ثم تقرأ ثانية وبين يديك معجمك، فكلمات إقبال من دارس الكلمات، ولا ترى غير قليل مما أراد أن يحمله إليك. ما كان عجزاً منه، ولا تخبطاً، إنها في طبيعة اللغة، أية لغة ذات مقام، لكل أخيلتها، رموزها، شخصيتها إن شئت.

(7)
يشق علينا أن نفهم عنه . فرط حرصه على يقظة المؤمنين ، وإيمانه بأن اليقظة نهوض من القاع على جناحين، أحدهما روح الإسلام وثانيهما فلسفات الغرب، يظل الإسلام كما هو، ترفده هذه الفلسفات التي أخذت عليه أقطاره، جلس إلى أوراقه وكتب، وهو في قبضة الحرص، واسار تلكم الفلسفات، ما كان سهلاً أن يذكر صاحبنا الأمين على دعوته، قراءاته الأولى، وتجاريب شبابه الأول إذن لبان له أن الإسلام طريقاً، ولفلسفات الغرب طريقاً غيرها، لبان له " إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليُسر وكره لها العُسر" وأن آلهة الغرب شتى، حتى لكأن منْ يقول على أيام إقبال هناك، إن الغرب، يتعثر نحو هاوية جهنم، وكانت على قلتها أصواتاً مرموقة، أفزعها صغر الإنسان أمام مبتدعاته، وأخافها عدوان القادرين على العاجزين. قليلة نقط اللقاء بين فلسفات الغرب وفلسفات الإسلام. تلتقي عند الأوليات من حاجة الإنسان ، كالطهر، والصدق، والأمانة، وتفترق من بعد. عاشت قيم الإسلام نحواً وقيم المسيحية نحواً آخر، وحين سعى إقبال، ليرفد الإسلام، بفلسفات تلونت بمذاهب المسيحية ، وإن بدت، أو قال مبدعوها أنها كذلك ، بعيدة عن المسيحية، لصيقة بالعقل والأرض. ما أفلح في أن يحملنا مع اتجاهه الجديد. لا لوم عليه، لا عتب . ما كان ممكناً ما أخذه على عاتقه، وظالم له منْ يحسب أن أشياء خفيت عليه ، فكان الغوض. غير صحيح هذا. كان صاحبنا سعيداً في دراساته الإسلامية، وسعيداً في دراساته الغربية. طبائع الأشياء كانت في الطريق. اختلطت عليه السبل، حين رأى الخلاص في أن يرفد الإسلام بفلسفات العرب، وكان كثيرون على هذا لرأي في زمانه، قر في وجدانهم، قر في أعماقهم، أن الخلاص في البدء، كان في الإسلام ، ولن يكون في الختام إلا كذلك ، بعد أن تنتعش روحه بنسائم النهضة الأوربية. إفتراض غير واع، أضاع معه المصلحون وقتاً، وأنفقوا جهداً، ما أثمر، وكان الخطل في الإفتراض ذاته. ما أقعد المسلمين عن حضارة الآلة وعلوم هذا الزمان دين، خدرت أوصاله ، يحتاج للهواء النقي يأتيه من بعيد. قليلاً إلى الوراء، ومن بعد كثيراً، يوم خسروا الحروب الصليبية، وما كانت حرب هلال وصليب، على أية حال.

(8)
لنعد لإقبال ، فقد وقفنا عند بعض الحق من أمره، وبقي آخر، ذاك أنه ما كان رجل فكر خالص ، كأئمة صدر شبابه، وأساتذته في أوروبا. كان الفكر عنده وازع عمل. ما أن عاد لبلاده، حتى عاد مكانه بين إخوته في مؤتمر للمسلمين، وسريعاً رأوا فكره المحيط، فأفسحوا له مكاناً في القيادة ، وكانت أياماً خصيبة في عمره. على ذلك العهد، بأن له، ولجناح ألا جامعة بين المسلمين وغيرهم في الهند، إلا تاج بريطانيا، عرف كلاهما أن الفجوة الاقتصادية بينهم وبين غيرهم ، لن تضيق يوم يروح ذلك التاج، والأقرب أن تتسع، فهم أقل عدداً وعدّة من الهندوس. عرف كلاهما أن للمسلمين أسلوباً في العيش ومنحى في الحياة، ما زادته القرون من نفوذ بريطانيا الثقافي والسياسي والاقتصادي، إلا ابتعاداً عن منحي وأسلوب غيرهم في الهند، على أن الذين لم يكن وحده عنصر الخلاف والجدال حول وحدة الهند، واقتسام الهند. كان الدين عنصراً واحداً في أمرٍ ذي عقد، ولكنه العنصر العلم. استظل به الرجلان. كان أداة التعبير التي يتقنان، وكانت الأداة التي تصل بينهما وبين الجموع، فقد كانت جموعاً طيبة لا تدرك كثيراً من أمرها، كانا أهل علم وفكر وسياسة وخبرات، بينهما وبين الجموع، ما بين صبي ما عرف الكثير من تعاريج الحياة بعد، وراشد يعرف الكثير، وعليه أن يخلق الصلة، أن يخترع اللغة بينه وبين الصبي، إن رام إرشاده، وقد فعلا.

(9)
حياة إقبال السياسية ما اتضحت معالمها بعد. تشير المراجع المتاحة إلى عمله في التشريع وعمله في التنفيذ وجمع الجموع، لكنها لا تقول كثيراً عن عبارات تداولها الناس عنه، ويلفت نظر الواحد أن هذه العبارات لا تدل على الرضا، كل الرضا، وهي في الوقت عينه، لا ضيقة بأحد أو بشيء ولا كارهة لأحد أو لشيء. مثلاً. تتحدث أكثر المراجع عن قولة له في ساعة من ساعات – ساعات ماذا؟ كابتة؟ وكأنها تقول، خذوا أمجادكم هذه. خذوا دنياكم عنا. إن الكثير عن إقبال في هذا الصدد خافٍ علينا، كثير مما يثير السؤال. ما مشى إقبال مراتب السياسة التي أهلته لها خدماته وخبراته وإيمانه لفكرة الدولة الإسلامية في الهند، لكنك لا ترى إشارة أسى في الذي ترك من آثار نعرف، وغير بعيد أن يكون ذلك العالم المؤمن، الذي أشاد به التراث المقدس، " إن احتيج إليه نفع ، وإن استُغني عنه، أغنى نفسه "، ففي سيرته طهارة ما ألفها الناس.

(10)
إقبال فصلٌ في التاريخ الإسلامي، من حقه على العرب أن يحفلوا به، إن افتقادنا سيرة له كاملة ، أدعى لهذا الاحتفال، فاليقين عندي. إنه كان قوي الصلة، بآثار أئمة الفكر الإسلامي في البلاد العربية، إن لم يكن بأشخاصهم وحوارييهم. كانت بينه وبينهم بحار وصحارى ولغات وانشغال بال، بلعنت الذي يلقونه من عواصمهم العدة ومن عاصمة الخلافة في الأستانة. القليل الذي نعرف ، يوحي بأن دراسة ذكية للرجل وفكره وعصره، لا شك ترضي النفوس المتطلعة. عام ميلاده مفتاح سيرة فكره. ولد سنة 1877 ، ستة وستون عاماً بعد محمد بن عبد الوهاب ( توفى 1791) ، أمست فيها تعاليمه، دماً دافقاً في قلب الأمة الإسلامية، وكان هو ومن تبعه من القادة بعده ، ذكرى في الكتب وأفواه المسلمين، وفكره فصلاً في التراث الإسلامي .كان إقبال في طفولته الأولى، والعالم الإسلامي تترامى إليه عذابات الأفغاني ( توفى سنة 1879) يترحل من عاصمة لأخرى، جمرة لا يطيق سلطان أو ملك، أن يمسك بها خشية أن يحترق، وكانوا سلاطين خشب . لا أملك شاهداً، لكني أكاد أجزم أنه عرف عن الإمام المهدي ووقفاته المعجزات. كان في السادسة عشر من عمره سنة 1891 ، يوم رحيل الأمانة عن دنياه.
منْ يدري ربما تعذر على علماء العرب أن يعرفون عبر ترجمات نكلسن وأربري، في فترة من التاريخ ما عادت معنا الآن، في فترة ما كانت الأردية لغة يتقنها الكثيرون من العرب ولا الفارسية . ما هكذا الحال أيامنا هذه. جاء أوان أن يلقي هذا الفصل من تاريخ الفكر الإسلامي مكانه في كتب وبحوث العرب، فقد كان وفياً للعرب، حتى على أيام سهره على الشخصية الإسلاية في الهند.
الخرطوم : جمال محمد أحمد .
*

عبدالله الشقليني
4 سبتمبر2018

 

آراء