ماذا فعل المتأسلمون بإرثنا الحضاري
محمد المكي إبراهيم
11 September, 2018
11 September, 2018
الغابة والصحراء نموذجا
بعد استيلائهم على الدولة السودانية عن طريق الانقلاب استولى المتأسلمون ليس فقط على ذهب البلاد ونفطها وما يدخل خزائنها من ضرائب ومكوس بل كان بين غنائمهم تراثها الفكري والفني الذي شاده مفكروها ومبدعوها في مرحلة ما بعد الاستقلال وهو تراث شديد الغنى والتنوع شمل كل جوانب الحياة العصرية الجديدة من صحف وإذاعة وتلفزة وفنون في المعمار وتخطيط المدن وتوسيعها ونظم الادارة كما شمل الجوانب الفكرية حيث بحثت الاجيال الجديدة في تاريخها فنقحته قدر المستطاع ونشرت مأثرها الوطنية وسير رجالاتها ونظر ساستها واقتصادييها في وسائل تنمية مقدراتها والافادة منها في تقدم الشعب و" ترفيه عيشه" كما يقول العطبراوي. ومع ذلك وبعد أكثر من ربع قرن من حكمهم الغليظ لم يتغير الاطار العام للحياة على النحو الذي خططوا لفرضه على البلاد لاعادة صياغتها باسم المشروع الحضاري ورغم التعديلات القاسية التي نجحوا في فرضها فان السودان ظل في مجمله شديد الشبه بالسودان القديم.
صحيح انهم مثل بقية رفاقهم في العالم المسلم شنوا حربا بشعة على النساء اطاحت بالكثير من آمالهن في الحرية والمساواة , وصحيح انهم أغلقلوا ابواب الاجتهاد في المسائل الدينية وعلقوا على المشنقة إمام التجديد والاجتهاد في السودان الشيخ محمود محمد طه وقلصوا مساحة السودان من اكبر دول القارة الى واحد من أقلها شأنا في موازين القوى وأكثرها هوانا على الناس وعلى بشاعة تلك الخطايا وهولها لم يكتفوا بها ومدوا ايديهم الى تراثنا الفكري بالتشويه والتحريف خاصة وقد آلت اليهم كل منابر النشر الثقافي في البلاد بما في ذلك نتاجات التطور الرقمي التي مكنت متموليهم من امتلاك محطات التلفزة ومحطات الاذاعة وغزو شبكة الانترنت العالمية بما ينتجون من برامج وحوارات كما آلت اليهم كودائع كل سجلات تاريخنا فتعرضت للاهمال الشنيع كما هو حادث في دار الوثائق المركزية التي اخذ مقرها بالانهيار وغير معروف ما حدث لمجموعات الاشرطة والتسجيلات الاذاعية والتلفزيونية المحفوظة لدى مكتبات الاذاعة والتلفزيون وما تداولته الاقلام والانباء مؤخرا عن مصير وحدة افلام السودان التي يقوم على خدمتها موظفان شيخان في منزل قديم خرب بامدرمان ويستغيثان باسمها في كل الاتجاهات ولا مغيث ثم هنالك تراثنا القانوني الذي تضافرت خيرة العقول الحقوقية على رصده وتسجيله وصقله وإفراغه في القوالب الحديثة وسهرت مجلتنا القانونية ومكتبها الفني على تدوينه وجمع سوابقه القضائية ثم جاء حكم المتأسلمين ليشطبه ويلغيه من الوجود بجرة قلم ويستبدله بأقوال فقهاء القرون الوسطى وقضاتها دون تحديد لنظام وقواعد ذلك الابدال والاحلال وفي تلك الفوضى الجائحة ضاعت تلك الجهود التي قامت بها محاكمنا وباحثونا في استنطاق تجربة الشعب وحكمته فجمعوا وحللوا اعرافنا التي حكمت قوانين الاراضي الزراعية في بلادنا وعرفتنا على مفاهيم المرن والقصاد والشكل القانوني السوداني لحقوق الارتفاق والشفعة وما ينظم الوصول الى الماء في اعراف شعبنا المتوارثة. والواقع ان الاغتراب القانوني اوغربة الفكر عن الواقع هو ما اوصلنا اليه المتأسلمون حين افترضوا ان ابو يوسف وابو ثور اقرب الى وجداننا القانوني مما ابدعه أو قضى به ابو رنات ورصفاؤه من اهل النظر.
كل ذلك قضايا غاية في الاهمية وذكرها على وجه الاجمال لايعني تقديم مسائل الهوية عليها وكل ما هنالك انها تحتاج البحث المتخصص العميق بينما قضايا الهوية مشاعة ومبذولة للجميع ومن الصعب العثور على قلم سوداني لم يخض فيها على نحو من الانحاء وقد اخترناها مثالا افتتاحيا لذلك الاعتبار دون سواه واختصصنا الغابة والصحراء لكونها أولى واقدم جهود الباحثين السودانيين في قضايا الهوية واحببنا ان نوضح بمثالها بعض ما اصاب تلك الجهود من التحريف والاستغلال .
حركة الغابة والصحراء في أصلها محاولة لاستكشاف شجرة نسب الحضارة السودانية اثباتا للاسهام الافريقي في صنعها دون ان يعني ذلك تأليها لها او افتتانا بتفاصيلها ولكنها كانت محاولة للعودة الى الجذور الافريقية ومظاهرها الاقرب الى روح العصر من شريكتها العربية التي رأيناها-فيما بعد- تدخل في صراع يائس مع الغرب لتخسر كل الجولات وتتعرض للتشهير والاستهزاء الذي يبرع فيه الغرب بصورة منفرة .
كانت الحركة الافروعروبية الاسبق الى الظهور وابتدار البحث عن الجذور بطريقة تركت كثيرا من ساسة السودان فاغري الافواه امام ذلك "الكفر" الجديد الذي يشكك في عروبة السودان وانتماؤه المباشر الى طييء وعبس وتميم وحتى لو كانت الحركة خالية من اي فضيلة اونفع فلا مجال لانكار فضيلتها الكبرى في فتح ابواب المناقشة حول جذور السودان الحديث ومسارات انتمائه الحضاري وكان ذلك بنية سليمة للافراج عن المشتركات بين الجزء الشمالي بمجموعه والجزء الجنوبي للوطن ولكن بعض الجهات استكثرت علينا تلك المبادرات فهوجمنا من اكثر من ناحية ولكن لاضير فالذي حدث بعد ذلك كان افدح وابعد خطرا إذ ان مروجي الأسلمة واعتذارييها اتخذوا من اكتشافنا لسنار تكأة لصبغها بالصبغة الاسلامية بوصفها الرد السوداني على سقوط الاندلس وهو ضلال لاشك فيه فقراءاتنا في الثقافة السنارية لم يرد فيها دليل واحد او شبه دليل على ان السناريين سمعوا بالاندلس او تأثروا لسقوطها ناهيك عن قيامهم باسقاط الدويلات النوبية ردا على الفرنجة في الاندلس وهو نوع من التهافت الرخيص الذي يؤكد استسهال المتأسلمين للكذب كما يبدي قلة احتفال الفكر العربي بهم وبمزاعمهم بعدم تصديه لهم بالتفنيد او مطلق التصحيح وقد نبغ في تلك الامور واحد منهم اتخذ افريقيا مسرحا لمزاعمه الباطلة فقد اطلق على تيبو- تيب-ا كبر النخاسين في افريقيا -اطلق عليه صفة "المجاهد" وهو نخاس ينحدر من اب عماني وام افريقية وكان الى ذلك من اوائل من ادخلوا الاستعمار الى قلب القارة فقد عمل مرشدا لاستانلي في رحلته الشهيرة بحثا عن الرحالة والمبشر لفنغستون ولم يجد "المجاهد" الكبير اي غضاضة في التقدم بشكوى ضد ستانلي لان الاخير قد "ملحه" كما نعبر بلهجتنا السودانية ولم يدفع له المبالغ المستحقة له نظير ارشاده الى الطريق الى لفنجستون وكان ذلك المجاهد يقتنص ضحاياه من قلب القارة من الكونغو ومنطقة البحيرات الكبرى ويحملهم باسنان الفيلة ويجعلهم يمشون راجلين الى الشاطيء الشرقي لافريقيا في زنزبار حيث لا تزال موجودة المغارات التي كان يخزن فيها ضحاياه وهي معروضة لكل زوار الجزيرة للتفرج عليها في موقع يعرف بما يمكن ترجمته من السواحيلية الى "العرب جوكم".
وواقع الحال ان الغابة والصحراء او الآفرو عروبية كانت محاولة لموازنة معتدلة بين العنصر والثقافة- بين عنصرنا الافريقي الذي وسمنا بميسمه الابدي والثقافة العربية التي اعطتنا لغة لم نجد منها فكاكا وعقيدة لم نرفع ضدها اي شكل من اشكال النبذ متمسكين بان تجاوزاتها مكتفين بقول انها ليست من الاسلام "الصحيح" في شيء الا انها تحت نظام عربسلامي كهذا الذي يحكمنا اليوم تتخلى عن حدود الاعتدال وتتحول الى عمل معادي لتطلعاتنا في الوحدة والاندغام في الجسم الافريقي الواحد الذي مضى يحرز انجازاته ونجاحاته ورويدا رويدا راح يضعنا في ذيل قائمة التخلف ويجردنا من دعاوى القيادة التي كنا ندعيها لانفسنا ويفضح المقولة الباكية التي تعللنا بها وهي زعمنا انه كان بوسعنا ان نكون افضل الافارقة فاخترنا ان نكون أسوأ العرب فالواقع اننا قد صرنا اسوأ الافارقة وأسوأ العرب معا the worst of the lot ونحن البيضة الخايسة التي تطفو الى سطح ماء الاختبار وتظل تطفو سواء اذا أجريت التجربة في شمال خط الاستواء أو في جنوبه.
وبسبب التحريف الذي ادخله المتأسلمون على وضعيتنا الثقافية انصرف معطم القراء والكتاب الى الموقف المناهض لتلك التحريفات وقد لحظنا في هذه الايام انكارا متواترا وكاملا للدور العربي في ثقافتنا وعداءا واضحا لكل ما يمت الى العروبة بصلة على عكس ما قوبلت به المدرسة الافروعروبية من ترحاب اول ظهورها في السودان وقبل ان يجري كل ذلك التخليط. ومن ايامه المشهودة برنامج قدمه أحد الاسلاميين المعروفين مع الفنان الراحل سيد خليفة فأجبره على تحريف اغنيته الشهيرة"يا سقاة الكأس من عهد الرشيد"ليحرفها الى "رواة الشعر" وهو تحريف لا يقدم ولايؤخر ويخلو من الذوق كما يخلو من المعنى ولكنه يندرج في سياق عام هوسياق التحريف والاعتداء على مقتنياتنا الثقافية وقد غدا امرا متواترا منذ ان صاح صائحهم "الطاغية الامريكان ليكم تسلحنا" سلخا عن قولة المتصوفة السودانيين :"ساداتنا الاوليا بيكم توسلنا" بلحنها وإيقاعها الصوفي المعروف.
و لا يقتصر الامر على شجرة نسبنا الحضاري وحدها بل يتجا[E1] وزها الى مختلف نواحي حياتنا الفكرية كالغناء والموسيقى التشكيل ونحتاج فيها الى آراء متخصصين ولكي لا يتكرر هذا السخف نأمل ان يستعرض كل مختص في مجاله ما تعرضت له الحقيقة من تزوير وتصحيف وليس هنالك ما هو افضل من سردها من قبل أهلها والواطئين على جمرها والصابرين على بلاويها.