alshiglini@gmail.com
هند بنت عُتبة
المقدمة:
لم نقدم سيرتها على أنها قُدوة، ولكنها أم ملك، أوجدته الخلافة الإسلامية. ولن ينفي أحد عن الخليفة معاوية أنه صحابي كتب الوحي، ما شاءت له الكتابة. والذين هم بين أيدينا الآن يستصرخون عودة الخلافة، ولو على يد منْ لا يعرفون الآيات القرآنية، بل لا يعرفون حتى نُطق كلماتها. صمٌ بكمٌ عُميٌ، عن قيم الدين ومعاملاته.
لم يزل الإخوان المسلمين ينفخون على ذات التميمة، ويتقنون إخفاء المكر، بحديث إخفاء الحوائج بالكتمان. ولم يترفقوا مع المُختلفين معهم، فيعتبرونهم المنافقين الذين هم في أسفل سافلي النار. يرفعون شعار الشريعة ضد كل مُختلف. يكنزون الذهب وكل أتاوات " التُركية السابقة "، ليخرجوا من الفقر المُدقع إلى الغنى الفاحش، ولم يتعرفوا على نعمة السعادة، وهي تتغشى الناس أبداً. لا يجدون فيما يسرقون متعة من سعادة أو فرح .
*
إن كان صحابي آخر تشفع لهم سيرته، فهذه غُرة فرسه المُجاهد :
أورد الدكتور" طه حسين" في كتابه الثاني عن " الفتنة الكُبرى"
كتب الخليفة "علي بن أبي طالب" إلى عامله وابن عمه "عبد الله بن عباس " بعد أن كان عامله على البصرة، عندما أخذ من بيت مال المسلمين في البصرة ما يقارب الستة ملايين درهم لنفسه، وذهب إلى مكة ليعتكف بها، وقد كتب إلى الخليفة "علي بن أبي طالب" يستعفي نفسه:
{ أما بعد. فإني كنت أشركتُك في أمانتي، ولم يكُن في بيتي رجل أوثق في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيت الزمان على ابن عمِّك قد كَلب، والعدوَّ عليه قد حَرب ، وأمانة الناس قد خَرُبت، وهذه الأمّة قد فُتنّت، قلبتَ له ظهر المِجنّ!، ففارقته مع القوم المفارقين ، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنتّه مع الخائنين. فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديّت، كأنك لم تكُن لله تُريد بجهادك، أو كأنك لم تكُن على بيّنة من ربّك. وكأنك إنما كنت تكيد أمّة محمد عن دنياهم أو تطلب غرّتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الغرّة أسرعت العدوّة، وغلظت الوثبّة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، اختطاف الذئب الأزّل دامية المعزى الهزيلة، وظالعها الكبير. فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثِّم من أخذها، كأنك، لا أبا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك. سبحان الله ! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً ؟ أو مَا يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله وأدّ أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك، ثم أمكنني الله منك لأعذرنَّ إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده وأقمع الظالم وأنصف المظلوم. والسلام}
(1)
"هند" هي ابنة "عُتبة بن ربيعة". من بني أميّة ، من بطون قريش. وهي أم " معاوية بن أبي سفيان "، أول خلفاء بني أمية. الذي تبنى المكر والخديعة وسيلة، وهبة المال سبيلاً، لتحويل الخلافة إلى ملك عضود. بقي والياً في دمشق بالشام، منذ خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وإلى خلافته. كان " معاوية " من كتبة الوحي، ولكنه آمن بعد فتح " مكة " وصار من مسلمي الفتح. حمّل حرسه البغال لجلب الصحابة لبيعة ابنه " يزيد " في حياته. لم يُكتَب كتاب واحد طوال مائة عام من حُكم بني أمية. قُبر الرسول ولم تُحفظ له حاجاته أو آثاره ولا سيفه ولا ملابسه أو مقتنياته. وصار القرآن تلاوة تنوعت، ولكنها بغير القراءة المُتفكرة. أقام " معاوية "منْ يكتب بعض الأحاديث لخدمة سلطانه، ومنها حديث (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم). ولكنه كان رجل دولة دون شك، يمكر مكر السياسيين. وله مقولة مشهورة عن أن بينه وبين الناس شعرة، إن شدّوها أرخاها ، وإن أرخوها شدّها.
*
لا عجب أن تزيّنت والدته " هند" بزينة السيرّة المُتميزة، فتقول عنها القصص أن المُنجمين تنبأوا لها بأن تلد ملكاً، وأن اسمه معاوية. وتلك من أقاصيص الملوك، التي يكتبها لهم من ينفحونهم بالمال. وقد نبأت سيرة " هند بنت عُتبة "، بأنها قوية الشكيمة مع جلد العزم. وعلو قدرها وهي تُبايع النبي بعد فتح مكة، ترُد على مُساءلته رد أصحاب الأنفة والكبرياء.
*
غطّت سيرة الخلفاء، على ما كان يجري بين القبائل من بحور الغدر والمكر والدماء أيام الجاهلية وما بعدها. وهو ما استبان من مكر بني أمية، في قهرهم بني هاشم، في عدائهم التاريخي القديم. وهو صراع قبلي خفي، حملته سيرة خلفاء بني العباس إلى العلن وانتقامهم من بني أمية لاحقاً.
(2)
فأما خبر هند وطلاق الفاكه بن المغيرة إياها. تحدث عنه حميد بن حارثة. قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة. وكان الفاكه من فتيان قريش. وكان له بيت يسير للضيافة بارز من البيوت، يغشاه الناس من غير إذن. فخلا البيت ذات يوم، فاضجع هو وهند فيه. ثم نهض لبعض حاجته. وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت. فولجه، فما رآها رجع هارباً. وأصبره الفاكه، فأقبل إليها فضربها برجله. وقال: منْ هذا الذي خرج من عندك؟. قالت: ما رأيت أحداً ولا انتبهت حتى نبّهتني. فقال لها: ارجعي إلى أمك. وتكلم الناس فيها. وقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيكِ فأنبئني نبأكِ، فإن يكن الرجل عليك صادقاً دسست عليه منْ يقتله. فتنقطع. فقالت لا والله ما هو عليّ بصادق. فقال له: يا فاكه، إنك رميت ابنتي بأمرٍ عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن . فخرج من عبد مناف ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد، وقالوا غداً برد على الرجل. تنكرت حال هند. فقال لها عُتبة: إني أرى ما حلَّ بك من تنكر الحال. وما ذاك إلا بمكروه عندكِ. قالت: لا والله يا أبتاه، ما ذاك لمكروه، ولكني أعرف أنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يسُمني ميسماً، يكون عليّ سبة.
*
فقال لها أبوها: إني سوف أختبره لكِ. فصفّر بفرسه حتى أدلى. ثم أدخل في إحليله حبة بر وأوكأ عليها يسير. فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم. ونحر لهم. فلما قعدوا قال له عتبة: جئناك في أمرٍ وقد خبأت لك خبئاً أختبرك به، فانظر ما هو؟. قال ثمرة في كمرة. قال إني أريد أن أبين من هذا. قال: حبة بر في إحليل مهر. قال صدقت. أنظر في أمر هؤلاء النسوة. فجعل يدنو من إحداهُنّ، فيضرب بيده على كتفها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند، فقال لها: انهضي، غير رسحاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكاً يقال له معاوية. فنهض إلينا الفاكه، فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده. وقالت: إليك عني فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك. فتزوجها أبو سفيان. وقد قيل إن بيتي مسافر بن عمر أعني:
إلا إن هند أصبحت منك محرماً ... وأصبحت من أدنى حُموتها حمّا
فأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلّب بالكفّين قوساً وأسهُما
(3)
تحدث عبد الرحمن ابن أبي الزناد قال: لما كانت واقعة " بدر " التي قُتل فيها " عتبة بن ربيعة" وشيبة بن ربيعة" و"الوليد بن عتبة "، فأقبلت " هند بنت عتبة" ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم. و معاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية. وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم وقد سوّمت هودجها براية. وأنها تقول: أن أعظم العرب مصيبة، وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك. فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك، قالت أنا أعظم من الخنساء مصيبة. وأمرت بهودجها فسوِّم براية، وشهدت الموسم بعكاظ. وكانت سوقاً يجتمع فيها العرب. فقالت :اقرنوا جملي بجمل الخنساء، ففعلوا.
*
ولما أن دنت منها، قالت لها الخنساء: من أنت يا اُخيّة. قالت: أنا هند بنت عتبة، أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنكِ تُعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم؟ فقالت الخنساء: بعمرو بن الشريد وصخر ومعاوية، ابني عمرو. وبم تعاظمينهم أنتِ؟ قالت: بأبي عتبة بن ربيعة وعمي شيبة بن ربيعة وأخي وليد. قالت الخنساء، أو سواهم عندكِ، ثم أنشدت تقول:
أبكيِّ أبي عمراً بعين غزيرةٍ ... قليلٌ إذا نام الخَليُّ هُجودُها
وصَنوي لا أنسى معاوية الذي ... له من سراة الحرَّتين وُفودها
وصخراً ومنْ ذا مثل صخرٍ إذا غدا ... ساهمة الآطلال قُبَّا يقُودُها
فقالت هند تُجيبها:
أبكيِّ عميد الأبطحين كليهما ... وحاميها من كل باغٍ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي ... وشيبة والحامي الذمِّا وليدها
أولئك آل المجد من آل غالبٍ ... وفي العزِّ منها حين ينمي عَديدها
(4)
ومما قيل في " بدر" من الشِعر وغُني به، قول هند بنت عُتبة ترثي أباها:
منْ حسَّ لي الأخوين كالغضن ... أو منْ رآهما
قَرمان لا يتظالمان ... ولا يُرام حماهما
وبلي على أبويّ والقبر ... الذي واراهما
لا كهلي في الكُهول ... ولا فتى كفتاهما
*
في غزوة أحد:
تحدث صالح بن كيسان، والنسوة اللاتي معها يمثلّن بالقتلى من أصحاب رسول الله، يجدعنّ الآذان والأنوف حتى اتخذت " هند" من آذان، حتى اتخذت " هند " من آذان الرجال، وآنافهم خدماً، وقلائد. وأعطت خدمها وقلائدها، وقرطتها وَحشياً، غلام جبير بن مطعم. وبقرت عن كبد " حمزة بن عبد المطلب" فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها. ثم علت على صخرة مُشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، بما قالت من شِعر، حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله.
فهجا " حسان بن ثابت " هند ، بأبياتٍ قال في بعضها:
أشرت لكاع وكان عادتها ... لؤماً إذا أشرت مع الكفر
أخرجت مرقصةً إلى اُحد ... في القوم مقتبةً على بَكر
بكرٍ قفال لا حراك به ... لا عنْ معاتبة ولا زخر
ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند ويحك سُبة الدهر
فرجعت صاغرةً بلا ترة ... منا ظفرت بها ولا نصر
(5)
بعد فتح مكة:
ولما فرغ رسول الله من بيعة الرجال، بايع النساء. واجتمع إليه نساء من قريش، منهنّ " هند بنت عُتبة "، متنقبة مُتنكرة لحدثها. وما كان من صنيعها بحمزة بن عبد المطلب"، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بحدثها ذلك. فلما دنونّ منه ليبايعنه، قال رسول الله: فيما بلغني، تُبايعنّ على ألا تُشركنّ بالله شيئاً. فقالت " هند ": والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما تأخذه على الرجال، وسنؤتيكه. قال: ولا تسرقنّ. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان حلا لي أم لا؟ فقال أبو سفيان وكان شاهداً لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنتِ منه في حل. فقال رسول الله: وإنكِ لهند بنت عتبة؟. فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف . عفا الله عنك. قال: ولا تزنينّ، قالت: يا رسول الله هل تزني الحُرة!. قال: ولا تقتلنّ أولادكن . قالت: قد ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، فأنت أعلم ! فضحك " عمر بن الخطاب " من قولها واستغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكنّ وأرجلكنّ؛ قالت: والله إن إتيان البُهتان لقبح. ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينّ في معروف؛ قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف. فقال رسول الله: بايعهنّ يا عمر، واستغفر لهن رسول الله. فبايعهنّ عمر. وكان رسول الله لا يصافح النساء، ولا يمس امرأة إلا امرأة أحلها الله له، أو ذات محرم منه.
*
وعن إبّان بن صالح أن بيعة النساء قد كانت على نحوين، فيما أخبره بعض أهل العلم، كان يُوضع بين يدي رسول الله إناء فيه ماء. فإذا أخذ عليهنّ وأعطينه، غمس يده في الإناء، ثم أخرجها. فغمس النساء أيديهنّ فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهنّ، فإذا أعطينه ما شرط عليهنّ، قال: اذهبنّ فقد بايعتكُنّ، لا يزيد على ذلك.
المراجع :
- تاريخ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني.
- الفتنة الكبرى –الجزء 2 ، علي وبنوه، الدكتور طه حسين.
عبدالله الشقليني
11سبتمبر2018