قصر الشوق و غِناء العُمر الأسيل

 


 

 

 

 

alshiglini@gmail.com

قال أفلاطون: منْ حزنَ فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها. فإذا سمعت ما يطربها ويسرّها، اشتعل منها ما خمد.
*
قيل إن مُضَر خرج في طلب مال له فوجد غلاماً له، قد تفرقت إبله. فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي، وهو يصيح وايداه.فسمع الإبل صوته فعطفت عليه. فقال مُضَر: لو اشتُق من الكلام مثل هذا لكان كلاماً تجتمع عليه الإبل، فاشتُق الحداء.
*
وقيل إن داوود، صاحب المزامير، كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوماً في الأسبوع. وتجتمع عليه الخلق. فيقرأ الزبور بتلك القراءات الرخيمة. وكانت له جاريتان موصوفتان بالقوة و الشدة. فكانتا تضبطان جسده ضبطاً شديداً خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب. وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق فيصفو. و تشب وتنمو له النفس. وترتاح له القلوب.وتهتز له الجوارح. وتخف له الحركات. وزعمت الفلاسفة أن النغم بقي من النطق، لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع، لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحنّت إليه الروح.


(1)
هذا يوم ذكرى من أروع ما تكون الذكرى. تختلط و تمور بواطنها بعواصف فارقة، تُنافس بعضها، بين رتابة السكون وحراك الموج اللاهب. يحكي سلسبيل بحيرة عواطف صافية النقاء، تغدو فيها الأسماك الملونة تتجوّل، بلا خوف ولا رقيب. وقلوب لم تزل في زغب تكوينها الأول، جاءت الأغنية تعبيراً لتعلمها المسير في عالم وُجدت بين ظهرانيه ولا تعلم ما تُخبئه الأقدار.
*
ليس هو بالتأكيد " قصر شوق " الكاتب" نجيب محفوظ"، أو واحد من ثلاثيته الشهيرة. ولا هو فيلم " قصر الشوق " الذي انتجته السينما المصرية عام 1966. ولكنها أيام نبأت في سبعينات القرن العشرين في السودان. تلاقت شموس الإبداع ذات صدفة مثل شهاب في سماء الدهر. قلقة تنتفض بالبِشر في حي العباسية بأم درمان. قدم الشاعر" التجاني حاج موسى " قصيدته " قصر الشوق" ولحنها الموسيقار " عمر الشاعر " وغناها " زيدان إبراهيم ". اجتمعت كسلا وكوستي وأم درمان وماضٍ من غرب السودان. جاءت كلها لتجتمع في هذه الأغنية الرائعة. صدق منْ قال إن النفوس تكِل وتعمى لولا ساعة من الترويح.


(2)
مرحلة السبعينات من القرن العشرين، غير مرحلة اليوم. وشبابها غير شباب اليوم.تلك مرحلة عصيّة على النسيان لدى شباب الجيل الذي شهد تلك الطفرة الفنية، تتزاحم عندها نبض الإبداعات الطروبة، تبحث عن سكينة. وذاك القفز بين المروج الخضراء، لعواطف تكثفت رؤاها، عند ينبوع أسير إلى النفس.
*
رحل مغني شباب السبعينات " زيدان إبراهيم " في سبتمبر 2011 ، في قاهرة المعز، بإستراحة الدويش بحي " الجرادية ". في قمة أمواج التغيير وضبابية السياسة وانعدام الرؤى. توقف قلبه الفرِح، وكانت أكفاً تدعو له بالشفاء.
أغمض الجفن عن ترياق لسم العواطف الدافئة، حين تستبين طلاقتها. فالحبيب يتهدد قصر شوقه الهدم والخراب ، من حبيب غيّر رأيه. وهو تبق على الأمل لو هدّاه الحبيب، فسوف يبنيه بغلاء المحبة وثقلها. استعارة مكنيّة ،حذف المُشبه به، وبقي القصر مُشيداً ومُهدداً. هذا البناء الروحي ، وقف هيكله من أعمدة الشوق وهو ينمو رويدا ، ويفسح الوجدان في فضاءاته، فيصير البناء قصراً. هذا المبنى المُشيّد في عمران النفوس، رأى طرف من الشركاء هدم، وقد فعل أو يكاد. والمُحب يتأبي المصير:


(3)
قصر الشوق:
أقول أصبُر على الهجران
أقول أنساك لا بُدَّ
أشوف بس طرفك النعسان
تخوني القوّة والشدّة
تصبّر قلبي على الهجران
يثور ماضينا ويتحدى
يا قصر الشوق لوهدّاك
حبيبك ومرّ ليك صدا
بابنيك بغلاوة الريد
مُحال أنا قصري يتهدا
أهي الأيام بتتعدى
ونرجع تاني لا بُدّ
وحاتْ عمراً قضيتوا معاك
مُحال عن ريدك ارتدّ
وراجي العين تلاقي العين
وأحضن إيدّك البضّة
وأهي الأيام بتتعدى
ونرجع تاني لابُدّ
باب الريدة وإنسدّ
نقول يا ربي أيه جدّ؟
تمُر أيام وتتعدى
ونقعُد نحسب في المُدة
مهما أجرب النسيان
ألاقي الشوق يمتدّ
ما باب الريدة ولإنسدّ
**
عبدالله الشقليني
18سبتمبر 2018

 

آراء