حول تاريخ تركيبة شمال السودان
alshiglini@gmail.com
أرسل فاتح مصر، "عمرو بن العاص" أخاه لأمه "عقبة بن نافع القهري"، على رأس جيش إلى "النوبة" سنة 22هـ/ 642 م. وكانت "النوبة" وقتها مركزاً لمملكة مسيحية هي مملكة "دنقلة". واستبسل "النوبيون" في الدفاع عنها، وأجبروا الجيش الإسلامي على التراجع. ثم غزاها العرب مرة أخرى سنة 31 هـ / 651 م، على يد "عبدالله بن أبي السرح"، الذي وصل عاصمتها "دنقلة" وحاصرها. وتم الاتفاق بينه وبين ملك "النوبة" المسيحي " قيلدوروث " عام 32هـ / 652 م. وعقد اتفاقية "البقط" التي تم بموجبها تقديم 365 رأساً من الرقيق كل عام إلى بيت مال مصر، مقابل ألف أردب من الغلال وبعض البقول والأقمشة. كما تم الاتفاق على عدم محاربة المسلمين للنوبة والعكس، وأن يكون للمسلمين حرية دخول بلاد "النوبة "وتأمين أهل النوبة للمسجد الذي ابتناه المسلمون بدنقلة، وعدم منع المسلمين من الصلاة فيه.
(2)
قصة "عبدالله بن أبي السرح" الذي غزا أرض النوبة:
والرواية هي أنه عندما نزلت سورة المؤمنون، نادى النبي الكتبة من الصحابة وكان من جملتهم "عبد الله بن أبي السرح" ليكتبوها فرتّل النبي:
(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ...". فقاطع عبد الله ترتيل النبي من شدة إنبهاره وعجبه في تفصيل خلق الله للإنسان فقال إكمالاً لنص الآية: " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14). فرد عليه النبي: وهكذا اُنزلت عليّ - أي أن الآية نزلت عليه مثلما قال عبد الله - " فشكّ عبد الله حينئذ، وقال: لئن كان مُحمد صادقاً لقد أوحي إليّ، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال. فإرتد عن الإسلام وعاد للوثنية وهرب إلى مكة المكرمة.
*
في السنة الثامنة للهجرة، كان فتح" مكة"، وكان هُناك أحد عشر شخصاً (ثمانية رجال وثلاث سيدات)أمر النبي بقتلهِم ولو وجودوا مُتعلقين بأستار الكعبة. وكان "عبد الله" منهُم، ولم يُقتلوا جميعاً وإنما قُتل بعضهم وعُفي عن بعضهم. وكان "عبد الله بن أبي السرح" ممن عُفي عنهم، وكان شقيق "عثمان بن عفان" في الرضاعة، فأختبأ في منزله - أي منزل عُثمان - ولما وجده "عُثمان" قال له "عبد الله": يا أخي إني والله أخترتُك فأحتسبني هاهنا، واذهب إلى مُحمد وكلمه في أمري، فإن محمداً إن رآني ضرب الذي فيه عيناي. إن جُرمي أعظم الجُرم وقد جئت تائباً. فقال له "عُثمان" بل تذهب معي. فلم يرع النبي إلا بعثمان آخذ بيد "عبد الله بن سعد بن أبي السرح" واقفين بين يديه. فأقبل عُثمان على النبي فقال: يا رسول الله إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتقطعه. وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي، وأكبّ عُثمان على رسول الله يُقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله، تُبايعه، فداك أبي وأمي يا رسول الله. فصمت النبي محمد طويلاً، ثم قال: "نعم" فبايعه النبي محمد على الإسلام. وبعد رحيلهما التفت إلى أصحابه وقال ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا فيقتُله؟ فقال "عباد بن بشر": ألا أومأت إلي يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية، رجاء أن تشير إلى فأضرب عُنقه. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين".
هذا هو تاريخ الرجل الذي وقّع عن المسلمين في اتفاقية " البقط".
(3)
وفق اتفاقية "البقط" ،كان يتم تسليم العبيد جنوب أسوان. ويتم توزيعه، فلأمير مصر أربعون رأساً في صورة هدية، ويأخذ نائبه في "أسوان"عشرين رأساً، والقاضي خمسة رؤوس، فهو يحضرالاستلام، ولكل شاهد من أهل أسوان وعددهم اثنا عشر، لكل فرد رأس. وكثيراً ما كان ملك "النوبة " ينتهز الظروف السياسية للخلافة فيمتنع عن أداء "البقط، كما حدث عند انتقال الخلافة من بني أمية إلى العباسيين. فقد امتنع ملك النوبة عن إرسال البقط، فأرسل والي مصر من قبل أبي جعفر المنصور عام 141هـ / 758 م، يستحثه على الالتزام بما تعهد به. وكذلك في عهد "المعتصم" 218هـ / 833 م، فقد امتنع ملك النوبة " زكريا بن يحنس " عن تقديم "البقط"، وحرض ابنه على محاربة المسلمين، فأرسل ابنه لمشاهدة بلاط الخلافة والإطلاع على قوة المسلمين. ولكنه انبهر بما رأي من حضارة وجيش قوي واستقبله الخليفة "المعتصم" بحفاوة وحمّله بالهدايا، ووافق على دفع البقط كل ثلاث سنوات، بدلاً من كل سنة.
(4)
اعتق "أحمد بن طولون" جنده جميعاً عند تجنيدهم. وقيل بلغ الرقيق من السودان 24 ألف. وبعد زوال الدولة "الطولونية" وقيام الدولة "الإخشيدية" على يد "محمد بن طفج بن جف" الإخشيدي سنة 323 هـ / 934 م، أكثر من استخدام "السودانيين" حتى بلغ عددهم بمصر والشام أربعمائة ألف فارس. استخدم الفاطميون السودانيين أو العنصر النوبي على ذات النهج الذي اتبعه الإخشيديون. فقد أدخلوا إلى جانب "المغاربة "العنصر السوداني. انتشر الرق، فقد كانوا يُجلبون من بلاد "النوبة" حيث يصطادهم أهل "أسوان"، ويبيعونهم في أسواق النخاسة بمصر والبلدان المجاورة لها. ولكثرة "النوبيين" ازدياد نفوذهم، وصارت في كل مدينة من مدن مصر حيٌ خاص بهم. فقد كانوا دائماً مصدر قلق واضطراب "للفاطميين".
ولما جاء "المعز لدين الله الفاطمي" إلى مصر عام 392 هـ / 973 م، وجه اهتماماً كبيراً للفرق النوبية. تمكن السودانيون وزاد نفوذهم بزواج الخليفة "الظاهر" بسودانية، هي أمة "أبي سعيد التستري"، وأنجبت منه الخليفة "المستنصر"، الذي مكث في الخلافة ستين عاماً 427- 487هـ / 1035 – 1094 م.
وفي عهد "صلاح الدين الأيوبي" أمر بقتل جميع السودانيين. وخرج العبيد من "النوبة" لحصار أسوان، وبها " كنز الدولة ". وأعطى السلطان أوامره "للشجاع البعلبكي" بالخروج لمقاتلتهم، فرحلوا لأسوان، فتبعهم ومعه "كنز الدولة"، وقتل منهم كثيرين، وعاد للقاهرة منتصراً.
(5)
تطور مؤسسة القبيلة ( 641- 1504 م ):
يتعين علينا التفريق بين القبيلة وبين المجموعة السلالية. فالقبيلة مفهوم اجتماعي أكثر من كونه مفهوماً بيولوجيا، عكس السلالة. يبدو أن عدداً من السلالات قد دخلت في تركيبة القبائل السودانية . ويمكن النظر إلى عروبة القبائل المستعربة في السودان، في إطار العناصر الثقافية واللغوية، مع قدر يقلّ أو يكثر من " الدماء العربية "، كما يقال في بعض التعبيرات غير العلمية. ونلاحظ أن المصادر تتحدث عن قبائل شبه الجزيرة العربية، وهي تتجوّل في السودان مثل " ربيعة " و " جهينة" و" قيس عيلان" ...الخ. وعندما تتقدم القرون، نجد المصادر تستخدم أسماء مجموعات غير معروفة خارج السودان مثل: " شايقية " و " جعليين " و" فونج". وهي إشارة لتحول المجموعات القبيلية، وأن تلك المجموعات مُنفتحة على بعضها، وعلى الوافدين من خارج البلاد ، مما ينفي أسطورة النقاء العرقي.
*
ومع ما سبق من تحفظات، فيمكن القول بأنه إضافة لما كان موجوداً، وأستمر من قبائل أخرى ، تنتسب إما "لجهينة" أو لمجموعة "الكواهلة" و"الجعليين". ومجموعة جهينة "قحطانية"، تنقسم لثلاثة فروع رئيسة هي :
- رفاعة: ومنها "العركيون" و"القواسمة"، وهم أصل "العبدلاب" في بعض الروايات. وقد تركز وجودها في منطقة "الجزيرة" و"البطانة".
- فزارة: وتشمل "بني جرار"،الزيادية، المهرية،الشنابلة،والمعاليا. وهي تنتشر في الجزيرة وكردفان ودارفور، وقد تباعد أماكن انتشارها للطبيعة الرعوية لتلك القبائل.
- الدويحية: وتشمل المسلمية، البقارة، المحاميد، الكبابيش، وتتركز في غرب السودان.
أما "الكواهلة" في القسم الثاني، فينتسبون إلى كاهل بن أسد بن خزيمة. هاجروا عبر البحر الأحمر وانتشروا في ساحله واختلطوا مع البجة، ثم انتشروا إلى نواحي عطبرة والنيل الأزرق وألبيض وكردفان.
ويضم الجعليون قبيلة الجعليين المحددة والميرفاب والرباطاب والمناصير والشايقية والجوابرة والركابية والجمّع والبديرية.
*
بالنسبة لقبائل "النوبة" في الجبال وجنوب السودان القديم، فقد أثرت على التركيبة العرقية في الشمال، خاصة وأن القبائل النيلية، مثل الشلك والدينكا، في الفترات التالية في عهد سلطنة سنار ، كانت تنتشر شمالاً حتى منطقة الخرطوم الحالية في بعض الأحيان.
*
هذه التسميات القبلية أثرت على التكوين الثقافي والعلاقات الاجتماعية في وسط السودان. وأدت التحالفات إلى تحجيم العامل القبلي، ليفسح المجال لعوامل أخرى، لتلعب دوراً متكاملاً معه، مثل العامل الديني والمذهبي والإقليمي.
(6)
مصادر الحديث عن الأصل "العباسي" لبعض قبائل شمال السودان:
أورد الشاطر البصيلي عبد الجليل في كتابه "معالم تاريخ سودان وادي النيل" ص 73:
{جاء في مخطوطة " تاريخ سنار" " وأيضاً في مدة خلافة أمير المؤمنين "هارون الرشيد" ( 766م- 809م)، أن قدم إليه جماعة من بر "السودان"، وهو "ببغداد"، وطلبوا منه أن يرسل معهم علماء يعلمونهم أمور الدّين. فأرسل معهم سبعة علماء من "بني العباس". ووصلوا إلى "دنقلة"، وأقاموا بها. وتناسلت منهم ذرية كثيرة}.
والمرجع: النص من مخطوط "تاريخ ملوك السودان وأقاليمه" ص2 – دارالكتب المصرية { صورة شمسية نقلاً من الحفوظ بالكمية الأهلية بباريس تحت الرقم 5069 }
نترك المعلومات تُحدث عن نفسها بلا تعليق.
(7)
جاءت المرحلة التالية والهامة في تاريخ السودان وبلاد العرب والإسلام منذ مدى بعيد. اتخذ العرب للسودان ثلاثة طرق:
أولهما من شمال بلاد العرب عبرسيناء ثم مصر.
وثانيهما عبر باب المندب مروراً بأثيوبيا.
وثالثهما هو الطريق المباشر إلى السودان عبر البحر الأحمر.
*
وزادت أهمية الطرق بعد ظهور الإسلام، فقد سلك المسلمون تلك الطرق التي سبق أن اتبعها المهاجرون والتجار منذ قرون. وكذلك التزاوج بين العرب المتواطنين والأهالي الأصليين. وكان ذلك يقوم به عرب البادية النازحين، الذين أغرتهم المراعي وراء الساحل، وأؤلئك الباحثين عن المعادن في الصحراء الشرقية والمتطلعين لمزاولة التجارة في الذهب أو الرقيق. وقبل أن يستسلم السودان نهائياً للمؤثرات العربية والإسلامية بعد اتفاقية "البقط"، التي استخدمت كأداة سلمية، ودخل بواسطتها الإسلام السودان. وتزاوج العرب المتوطنون مع العائلات "النوبية" المالكة، وورثوا العرش النوبي. وهذا التسرب البطيء ازدادت سرعته في أواخر القرن الثالث عشر، واستمر الحال خلال مائتي سنة.
*
سلكت بعض الفرق صوب الجنوب، ومن ثم لم يعد لمملكة "النوبة" المسيحية وجود فعلي يذكر بنهاية القرن الرابع عشر. وفتح سقوط مملكة النوبة في أيدي العرب، الطريق أمامه للتغلغل في المقرّة وعلوة. ونظراً لتزايد أعداد العرب وتكوينهم للأحلاف، قد أغرى ضعف المملكة وتفوق العرب العددي للعرب، لاختبار قوتهم في مواجهة العاصمة الضعيفة " سوبا"، فسقطت آخر الممالك المسيحية في أيدي المهاجرين الجدد المسلمين، وأنشئت مملكة الفونج وأقيمت عاصمتها في سنار. وأدى توحيد إدارة الأقاليم تحت حكم الفونج له عظيم الأثر في انتشار الإسلام.
*
تفاوت تأثير العرب على الأهالي من اقليم لآخر، وبالرغم من النفوذ القوي الهائل الذي وجدته اللغة العربية، بإعتبارها لغة الإسلام. وفرص التجارة التي فُتحت، إلا أن اتخاذها بواسطة الأغلبية لغة حضارة استغرق عدة أجيال. ومن المحتمل أن تكون مجموعات العلماء دخلت السودان برفقة التجار، وبقيام الدولة الإسلامية وتوطيد سلطتها وتغلغل زعماء الدين الإسلاميين، ثم غدا السودان في القرن السادس عشر الميلادي جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي الإسلامي. ولم تقتصر على العلاقات بينه وبين مصر، بل امتدت للأقطار العربية والشمال أفريقية والشرق الأوسط وبقية الإمبراطورية العثمانية.
(8)
وخلال فترة حكم الفونج، امتد انتشار الدعوة الإسلامية، وكان للعلماء والعائلات الدينية دوراً في نشر الدعوة الإسلامية وبسط سلطانهم على المجتمع. وأثناء حكم الفونج، دخلت الصوفيّة عن طريق الحجاز، ونما إجلال الأئمة وأهل الصلاح من أصحاب الطرق الصوفية الدينية. كان المتصوفون الأوائل يجوبون أرجاء العالم الإسلامي لتنظيم أتباعهم ومريديهم في أنظمة أطلق عليها ( الطُرق). لم تكن تحل محل النظم الدينية التقليدية أو الرسمية، ولكنها مراكز بث وصفاء وتطور روحي .
لم يجد التكوين الإداري والسياسي لدولة الفونج قدره من الدراسة الوافية. لقد امتدت رقعة مملكة الفونج من دنقلة شمالاً حتى فازوغلي جنوباً. ومن البحر الأحمر شرقاً حتى النيل الأبيض غرباً . وكانت أقوى الممالك التي ظهرت في السودان منذ أيام نبتة ومروي.
المراجع:
- حسب الله محمد: قصة الحضارة، ص161
- المسعودي: مروج الذهب ص 21
- سوزي أباظة: السودانيون في جيش مصر، ص 16
- عبد العزيز عبدالدائم: الرق في مصر في العصور الوسطى، القاهرة 1983م، ص 16
- حسن .ي . ف: العرب والسودان، أدنبرة 1967، ص 16
- ابن ميسر: المنتقى من أخبار مصر، ص3
- سعيد عاشور: مصر في العصور الوسطى ، ص 251
- حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام ، جـ 4 ، ص 589
- الشاطر بصيلي عبد الجليل: معالم تاريخ سودان وادي النيل – من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي
عبدالله الشقليني
16 سبتمبر 2018