تقديم توقفت عن الكتابة في الوضع الاقتصادي والقضايا الاقتصادية لفترة من الزمن متأملا فيما يجري وتفاديا تكرار الحديث ولكن بعض قرائي وبعض الصحفيين ظلوا يسألون رأيي فيما يجري، فقلت لا بد من العودة للكتابة مرة أخرى علي أجيب على أسئلة، أعرف أن بعضها قد أجبت عليه من قبل. لقد مرت على البلاد بعض الأزمات في هذه الفترة مثل أزمة الوقود وأزمة الخبز وأزمة السيولة وانخفاض سعر الجنيه لأدنى مستوى له في تاريخ العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم بما يزيد عن ثلاثة أضعاف ما تنبأت به ميزانية 2018 حيث أصبح يتراوح بين 60 و63% وفقا للأرقم الرسمية بينما أسعار السوق تقول غير ذلك فيما يوضح الجدول التالي:
وكنت قد توقعت هذا الارتفاع من قبل وربطته بالميزانية الامة لعام 2018 وشككت في تنبؤها بأن يكون التضخم 18% كما تنبأت بل اتهمت الحكومة حينها بأنها " تعاني من حالة نفسية مرضية تسمى بحالة الانكار الذاتي (self-denial)) عندما يرفض المريض الاعتراف بمرضه وأحيانا يتوهم أسباب خيالية لما يعانيه من أعراض مرضية وفي النهاية فالحالة تمثل رغبة ذاتية لا علاقة لها بالمعطيات الموضوعية." وكنت قد استندت في توقعاتي تلك أن الإجراءات التي صاحبت الميزانية قد زادت السعر الرسمي للدولار من 6.9 إلى 18 جنيها، زيادة تبلغ 230% وقد قلت أن ذلك سينعكس على أسعار السلع المستوردة أو التي بها مكون مستورد أو المنتجة محليا، ذلك أن المنتج المحلي سيرفع أسعاره لمقابلة الزيادة في أسعار السلع التي يشتريها، كما أشرت حينها لعجز الميزانية الذي قدرته ب 83 مليار جنيه وليس 28 مليار كما أعلنت الحكومة وقلت أن ذلك يجعل تنبؤ الحكومة بزيادة الكتلة النقدية بمعدل 19.5% غير واقعي هو الآخر وكم يحزنني أن أكرر "نصحتموه بمنعرج اللواء فلم يستبينوا النصح حتى ضحى الغد".
ارتفاع أسعار الدولار وكنا قد نصحنا الحكومة السابقة أيضا ضد الأخذ بمقترح الصندوق بزيادة سعر الدولار التأشيري والرسمي في محاولة للحاق بسعر السوق الموازي، وقلنا أن على الحكومة السابقة أن تلجم الطلب على الدولار وقد اتخذت الحكومة قرارين في ذلك الاتجاه أحدهما بإيقاف استيراد 19 سلعة والأخر بإيقاف الاستيراد بدون تحويل عملة، ولكن الحكومة لا تنفذ قراراتها فالقراران لم ينفذا بشكل حازم وبالتالي ما زال الطلب على الدولار في السوق الموازي بالخارج عاليا وسيظل عاليا حتى تنفذ الحكومة القرارين بصرامة ولا تستثني أحد، بل عليها أن تضيف مزيدا من السلع للقائمة المحظورة مثل الحلويات والبسكويت وكل المخبوزات والعسل وغيرها وقد قلنا أن الحكومة يمكنها تقليل الطلب على الدولار بما يقارب ال 2 مليار لو رتبت أولويات الاستيراد بشكل جاد. وسيساعد ذلك في استقرار أسعار الصرف، ولكن المشكلة الحقيقية لسعر الصرف لن تحل بدون التوازن الداخلي والذي أساسه زيادة الإنتاج والإنتاجية والتحكم في المنصرفات الحكومية الاتحادية والولائية والتحكم في زيادة الكتلة النقدية وفقا للزيادة الحقيقية في الإنتاج. وبدلا أن يتجه رئيس الوزراء ووزير المالية الجديد لتضييق الفجوة في ميزان المدفوعات بتقليص الطلب على الواردات ومنع الواردات غير الضرورية، أي زيادة التسعة عشر سلعة المحظورة والتأكد من تنفيذ الحظر وسد منافذ التهريب حتى عن طريق الركاب القادمين من الخارج والذين أصبحوا وسيلة لتهريب البضائع. بدلا عن ذلك اتجه رئيس الوزراء نحو تغطية الفجوة في الميزان التجاري وميزان المدفوعات بعائدات الذهب التي قدرها بخمسة مليار دولار ويكون بذلك "أبو زيد لا غزا ولا شاف الغزو" على المثل السوداني ونكرر ماساه عائدات البترول التي ضاعت بين الفساد والاستهلاك التفاخري، بينما السياسة الرشيدة أن نهدف لتقليص الفجوة وبعد أن نسدد ما تبقى منها نعمل على توفير فائض يسهم في التنمية وتسديد بعض الدين الخارجي وخلق رصيد يدعم الجنيه السوداني. يجب أن نفكر كدولة تنظر أبعد من الاستهلاك اليومي ونضع في الاعتبار متطلبات الإصلاح الاقتصادي والتنمية معا. لنأخذ مثالا افتراضيا، بأن إجراءات زيادة الصادرات وتخفيض الاستيراد قد أدت إلى نقص الفجوة في الميزان التجاري إلى 3 مليون وبتصدير 5 مليون دولار من الذهب فسيكون لنا 2 مليار فائض يمكننا أن نضع منها مليار دولار كاحتياطي و500 مليون لتسديد ديون عاجلة كالصندوق وشركات البترول وندفع 500 مليون لإعادة التعمير وسيؤدي ذلك لإصلاح أكثر في المستقبل القريب خاصة في مجال قيمة العملة السودانية وتخفيض العطالة وزيادة الإنتاج والإنتاجية وجذب الاستثمارات والعون الأجنبي.
حول مسألة الذهب مرة أخرى يضع رئيس الوزراء ووزير المالية آمالا كبيرا على انتاج الذهب الذي قدره ب 125 طنا، وقد يكون لديه يقين في ذلك الرقم والذي لا يمكن أن يعتبر حقيقيا إلا عبر نظام للإحصاء والرقابة على الإنتاج الصغير والمتوسط والكبير. ولكننا سنفترض مع رئيس الوزراء أن أرقامه صحيحة فهل سياسته في هذا الاتجاه واقعية وصحيحة؟ وأنا أزعم هنا أنها غير واقعية وغير صحيحة؛ وواقعية أي مشروع تقوم على الإجابة بنعم على سؤال: هل يمكن تنفيذه؟ وبالطبع المحفظة التي دعا لها رئيس الوزراء لا يمكن تنفيذها لعدة أسباب: أن البنوك لا تملك سيولة، حتى بعد معالجة مشكلتها بالطريقة المقترحة من قبل حمدي والحكومة وبعض الاقتصاديين المستعجلين كما سنوضح فيما بعد، فالبنوك الآن تعيش في أسوأ أحوالها لإدارتها الخاطئة لشئونها باختلال التناسب بين حفظها للنقود (بعض السيولة) وبين الأصول شبه السائلة وبين الأصول الثابتة وبين عمليات التسليف قصير الأجل، متوسط الأجل وطويل الأجل التي قامت بها وبدون تصحيح هذا المسار الخاطئ لا أمل في أن تساهم في أي محفظة قادمة ولا محفظة الحصاد والموسم الشتوي. ثانيا أن الجمهور والبنوك والعاملين بالخارج لا يثقون في أي صكوك تصدرها الحكومة أو البنوك التجارية نسبة لتجارب الصكوك الحكومية وتجربة السيولة مع المصارف. إذن نظام المحفظة غير واقعي. أما أنه سياسة غير صائبة فإنه يخلق محفظة لتتقاسم مع البنك المركزي عائدات الذهب من النقد الأجنبي وهذا يهزم هدفه في سد فجوة الميزان التجاري وميزان المدفوعات ويجبره على اتخاذ إجراءات إدارية لإعادة النقد الأجنبي للبنك. يصبح الحل الوحيد هو شراء وبيع الذهب وتصديره عبر بنك السودان، وفقا للسعر العالمي المعلن في بورصات الذهب، والقول إن الشراء يتم عبر خلق نقود جديدة، ليس نقدا في حد ذاته، فالنقود الجديدة تصدر لمقابلة إضافة قيمة جديدة والذهب الذي يشتريه بنك السودان هو قيمة مضاف وبالتالي لاب أن تقابلها زيادة في كمية النقود. الإشكالية ليست في اصدار نقود جديدة بل فيما يستعمل عائد الذهب بالنقد الأجنبي، فإذا استعمل في توسع عرض البضائع من خلال الإنتاج أو رفع قيمة العملة، فأهدر كما أهدرت أموال البترول، فستظل القيمة الفعلية للجنيه في تهور والإنتاج المحلي في حالة ركود إن لم يكن تدهور، والتضخم في ارتفاع دائم.
قضية السيولة: سوء أدارة البنوك وتفريض بنك السودان هل يمكن حل مشكلة السيولة بمعناها الضيق عدم توفر النقود في بعض المصارف بدون أن يعرف سبب المشكلة؟ إن أي حلول مستعجلة قصيرة المدى عبر طباعة العملة قد تؤدي زيادة كتلة النقود وزيادة التضخم ولن تمنع انتقال ما سيضخ في البنوك للمسكين بالنقود خارجها. إن معرفة الأسباب الحقيقية تحتاج لدراسة وتحقيق وأنا أدعو بنك السودان أو رئاسة الجمهورية بتكوين لجنة تحقيق لتقصي الأسباب الحقيقية لما سمي بأزمة السيولة. ودوان استباق تحقيق مثل هذا فهناك عدة احتمالات لأسباب الأزمة: السبب الأول والذي تردده الجماهير عن قناعة وتحاول بعض المصارف اقناع العملاء به هو توجيه أو قرار من بنك السودان بتحديد سقوف للصرف النقدي (في بعض البنوك لا تتعدى الألف جنيه). وأنا مقتنع من خلال افادة عاملين بالنظام المصرفي ومدراء بنوك أنه لم يصدر مثل هذا التوجيه لا كتابة ولا شفاهية.
وإذا صحت روايتي فلماذا تطلق البنوك تلك الاشاعة؟ السبب الثاني أن بنك السودان رفض مد البنوك بالنقود لأنه غير قادر على الطباعة، ولا أدري لم يطلب من بنك السودان أن يمد البنوك بالنقود، فإذا كان ذلك خصما على احتياطيات البنوك على البنك فهذه الاحتياطيات لا ينبغي أن تتصرف فيها البنوك وكون البنو تريد السحب عليها فذلك يعني أن البنوك لديها مشكلة سيولة، والطبيعي ألا تكون لديها هذه المشكلة إذا كانت تدير حساباتها الجارية وحسابات الودائع بشك كفؤ وفقا للمعايير المصرفية في التناسب بين هذه الودائع والتسليف أو الإقراض، وإذا حدث عدم التناسب فهو إما دليل على سوء الإدارة أو أن الطلب على النقود في تزايد مما يدل على أزمة ثقة في النظام المصرفي، ويبقى السؤال لماذا تولدت هذه أزمة الثقة أساسا. ولنفترض أم الخلل حدث ووجهت البنوك بزيادة الطلب على النقود فالقرار المصرفي الصحيح ليس سحب احتياطاتها من بنك السودان فهذه الاحتياطات هي ضمان للجمهور لودائعه وحساباته الجارية في حالة انهيار البنوك، والقرار الصحيح هو تسييل بعض أصولها الثابتة أو شبه السائلة (أسهم وأوراق مالية) وللأسف أن الأوراق المالية التي هي في معظمها صكوك حكومية من الصعب تسييلها لأن هناك عدم ثقة من الجمهور في هذه الصكوك. فلا يبقى أمام البنوك إلا تسييل الأصول الثابتة أو الأسهم، وكان على بنك السودان أن يجبرها على فعل ذلك إن لم تفعله اختيارا، بل من الممكن لبنك السودان شراء أسهم في البنوك نفسها لتوفير السيولة وهذا ما حدث من بعض الحكومات في العالم أثناء فترة الأزمة المالية الأخيرة، حيث تدخلت مثلا الحكومة البريطانية لشراء أسهم في مصرفين على الأقل (بنك أسكوتلندا الملكي، وبنك لويدز) لإنقاذ تلك البنوك من الإفلاس في مواجهة طلب الجمهور للنقود من حساباتهم الجارية وحسابات التوفير والودائع. إن اصلاح النظام المصرفي هو البند الأول في حل مسألة السيولة حتى يتم استعادة ثقة الجمهور في هذه البنوك. ولا أريد أن أعقد المسألة على القارئ بالحديث عن حسابات المؤسسات الحكومية في المصارف التجارية وهو اجراء خاطئ تم القرار بتصحيحه، لأن من بين عملاء البنوك الذين لم يكن بقدرهم سحب نقودهم أو إعادة توجيهها للصرف على المنصرفات الجارية ومن بينها الأجور، هي المصالح والمؤسسات الحكومية، بينما وجود هذه الحسابات في بنك السودان سيكون أحد العوامل في تدوير النقد بين الحكومة والبنوك.