الصَّادق المهدي.. تجلِّيات زعيم طائفي (6)
shurkiano@yahoo.co.uk
الصَّادق المهدي وحقوق الإنسان المفترى عليها
إنَّ حقوق الإنسان لهي مبادئ أخلاقيَّة، وهي التي تصف معايير محدَّدة في سلوك البشر، وتتم حمايتها كحقوق طبيعيَّة في القوانين المحليَّة والدوليِّة. وهي تُفهم على أنَّها حقوق أساسيَّة وغير قابلة لأن تُحوَّل ملكيتها إلى شخص آخر، بغض الطرف عن الأمَّة أو الموقع أو اللُّغة أو العقيدة أو الأثنيَّة أو أي وضع آخر. ويتم تطبيقها في كل مكان وزمان لأنَّها عالميَّة ومتكافئة، وكذلك على كل فرد دون تمييز. لذلك يتطلَّب على الفرد احترام حقوق الآخر، ولا ينبغي حرمان الشُّخص أي شخص منها دون التحكيم إلى القانون، إلا كنتيجة لظروف معيَّنة وفق القانون، وتشمل حقوق الإنسان – فيما تشمل – الحريَّة من الاعتقال التعسُّفي (غير القانوني)، والمحاكمة العادلة، والحماية ضد الاسترقاق، ومنع الإبادة، وحريَّة التَّعبير، وحريَّة التَّعليم. وبظهور تقنيات الأدمغة (Neurotechnologies)، تمَّت إضافة أربعة حقوق للقائمة إيَّاها وهي: حريَّة الفكر، وحريَّة الخصوصيَّة العقليَّة، وحريَّة التكامل العقلي، وحريَّة الامتداد النَّفسي. ولعلَّ كثراً من الأفكار التي قامت عليها حركة حقوق الإنسان قد تطوَّرت في عقابيل الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، وأحداث محرقة اليهود المعروفة بالهولوكوست (Holocaust) في ألمانيا الهتلريَّة، ومن ثمَّ انتهت بتبنِّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس بواسطة الجمعيَّة العامة للأمم المتَّحدة العام 1948م لهذه المبادئ العامة.
إزاء هذا التعريف الموجز، وبرغم من قدسيَّة حقوق الإنسان، نجد أنَّ حكومات السُّودان المتعاقبة قد أقدمت مراراً وتكراراً على إساءة هذه الحقوق والتجاوزات التي تدمي منها العيون وتنشطر بها القلوب، وبخاصة في مناطق النِّزاعات المسلَّحة. إذاً، ماذا جرى تجاه الأثنيَّات القوميَّة تحت دعاوي مكافحة التمرُّد؟ عليه، دعنا نوجز قبساً من هذه النماذج إبَّان حكومتي الصَّادق المهدي الأولى في الستينيَّات والثانية في الثمانينيَّات. فحين أصبح الصَّادق المهدي رئيساً للوزراء في حزيران (يونيو) 1966م ظنَّ أهل جنوب السُّودان – وإنَّ بعض الظن توهُّم – أنَّ في عهده سوف تكون هناك ثمة هدنة في تجاوزات حقوق الإنسان بعد أن أمسى ما كان يبدو تقدُّميَّاً على رأس الحكومة، ولكن خاب أملهم في أكثر ما تكون خيبة الأمل، ثمَّ أُصيبوا بشيء من الإحباط شديد. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1966م فتحت القوات المسلَّحة السُّودانيَّة النيران من بنادقها الآليَّة على الرَّاقصين في منطقة تالي وقتلت 340 شخصاً مدنيَّاً أعزل. وفي منطقة توريت في شرق الإستوائيَّة وقعت اشتباكات عنيفة بين الجيش السُّوداني وبين قوَّات الأنيانيا المتمرِّدة فقد فيها الجيش جنديين اثنين من عناصره. ففي الفترة ما بين 27-29 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1966م في أعقاب تلك الاشتباك، قتل الجيش السُّوداني 400 شخصاً مدنيَّاً عشوائيَّاً خارج نطاق القضاء انتقاماً عن قتيليه. وكذلك أغارت القوات المسلَّحة السُّودانيَّة على لورونيو في جنح الليل، وبعد رشق القرية بوابل من الرصاص، تمَّ إحراق القرية بما فيها بشراً كانوا أم حيوانات وممتلكات. وقد أنكر الصَّادق التقارير التي تحدَّثت عن هذه المذبحة.
وفي شباط (فبراير) 1967م تمَّ اقتياد 23 سلطاناً من سلاطين قبيل الدينكا في منطقة بور بأعالي النيل، وتمَّ قتلهم كلهم أجمعين أكتعين بدم بارد. لقد جاء هذا القتل العشوائي بعد أن زار رئيس الوزراء الصَّادق المهدي مدينة بور، ووقف على ضريح ضابط جيش شمالي كان قد قُتِل حديثاً في إحدى المعارك ضد حركة الأنيانيا المتمرِّدة، وبعدئذٍ شرع رئيس الوزراء يبكي ويذرف الدموع مدراراً. وما أن غادر رئيس الوزراء الجنوب حتى تكهرب الجيش بدموع سيادته، ولم يكد يحتمل الموقف، ومن ثمَّ قام بفعلته إيَّاها في القتل غدراً بهؤلاء السلاطين الأبرياء. وشاءت الأقدار أن يتخرط بعض أبناء هؤلاء السلاطين، الذين غُدِر بهم، في الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان ليحارب حكومة الصَّادق المهدي الثانية في الثمانينيَّات من القرن الماضي.
لم يطق بعض السُّودانيين من أهل الشمال تلك الدِّماء البريئة التي ظلَّت تُراق مهراقاً في جنوب السُّودان، مما حدا ببعض منهم بإبداء الرأي والمجاهرة بالكلام والكتابة. ففي 8 أذار (مارس) 1967م، وفي خطوة جريئة ونادرة كتب الصحافي بشير محمد سعيد في صحيفة "الأيَّام" مقالاً افتتاحيَّاً يطالب فيه السلطات بتشكيل لجنة حكوميَّة عليا لتقصِّي الحقائق حول اغتيال السلاطين في بور، حيث ذكر وزير الداخليَّة يومئذٍ أنَّ 4 فقط من السلاطين قد قتلوا، فيما أوردت الصحف أنَّ تعدادهم كان 23 سلطاناً. على أيَّة حال، لِمَ يقتلون دون محاكمة عادلة، حتى ولو كان القتيل سلطاناً واحداً، أو أي شخص آخر. ثمَّ استطرد بشير محمد سعيد قائلاً: "إنَّ الحادثة تلقي بظلال سوداء على قوات الأمن في السُّودان (...) وكما هو معلوم تماماً فإنَّ الرُّعب الذي تسبِّبه قوات الأمن (في جنوب السُّودان) له تأثير خطير على العلاقات بين الجنوب والشمال." وقد أبدى رئيس مجلس الصحافة السُّودانيَّة ورئيس مجلس إدارة شركة "الأيَّام" للطباعة والنشر بشير محمد سعيد أسفه في أنَّ هذه الأحداث المقزِّزة في جوبا وتوريت وبور وغيرها من مناطق الجنوب المختلفة، بما فيها اغتيال رئيس حزب سانو وليام نيال دينق في يوم 5 أيار (مايو) 1968م بواسطة كمين نصبته له القوات المسلَّحة السُّودانيَّة في أحراش الجنوب حين كان في حملة انتخابيَّة وبعد أن استأمن بوعد من مكتب رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب لتأمين سلامته، وما أفرزته من آثار ماديَّة وأخلاقيَّة، لم تؤثِّر على الحكومة في شيء. وأضاف سعيد قائلاً: "إذا اعتقد السُّوانيُّون أنَّ عدم الاهتمام الشَّعبي (بما يجري في جنوب السُّودان) يمكن أن يساعد على توحيد القطر، فإنَّهم – في اعتقادي – "أمَّة الضأن"."(34)
مما ذكرناه أعلاه بشيء من الإيجاز شديد حدث كله إبَّان حكومة الصَّادق المهدي الأولى في الفترة ما بين حزيران (يونيو) 1966م – أيار (مايو) 1967م، لكن يا تُرى ماذا كان رد رئيس الوزراء السيِّد الصَّادق المهدي أثناء اقتراف هذه الجرائم ضد الإنسانيَّة وجرائم الحرب والإبادة التي أمست القوَّات الأمنيَّة المتمثِّلة في الجيش والشرطة تُقدم عليها في جنوب السُّودان؟ كان الصَّادق المهدي إما أنكر تقارير الأحداث، وكأنَّ شيئاً لم يكن قد حدث أصلاً، أو قلَّل من هول الحدث، أو انصرف عنها تماماً وشرع في أشياء انصرافيَّة، حتى أخذ النَّاس يتساءلون ويتجادلون فيما بينهم بناءً على المثل الشَّعبي السُّوداني "النَّاس فس شنو والحسَّانيَّة في شنو". وحين يقفز الشَّخص إلى ما ليس له علاقة من قريب أو بعيد بالموضوع قيد البحث فيُدعى هذا الانحراف الانصرافي في السِّياسة ب"إستراتيجيَّة القطة الميِّتة" (Dead cat strategy). إذاً، هذا ما أدركناه عن تأريخ الرَّجل في السُّودان بتأريخ البلد المعاصر (We learn about history by living history)، وقد تبدو الكلمات ساخرات، أو تحمل بين ثناياها سخريَّة القدر المخيفة، إلا أنَّها الحق! كانت هذه التجاوزات المروِّعة في جنوب السُّودان ضد المدنيين العزَّل منذ نشوء العدائيَّات العام 1955م حتى توقيع اتِّفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، وهي التي دفعت أليكسيس مبالي يانغو أن ينشر كتاباً بعنوان "النيل يجري دماً" (The Nile Turns Red)، والذي فيه تحدَّث عن الأفارقة في جنوب السُّودان الذين يحاربون في سبيل البقاء، وعن القصَّة الصادمة وغير المعروفة عن المعاناة والموت الصَّامتين.(35)
إذا كان ما ذكرناه آنفاً هو ما كان من أمر الصَّادق قبل أكثر من أربع حقب، فماذا عنه في عصرنا هذا؟ في لقاء صحافي في صحيفة "الصحافة" الخرطوميَّة، والذي أجرته الصحافيَّة أسماء الحسيني في القاهرة مع الصَّادق المهدي بات الأخير مراوغاً في أشدَّ ما تكون المراوغة. فحين سألته الصحافيَّة عن أنَّ "البعض يرى أنَّ الأزمة في دارفور تفاقمت في زمن حكمك وليست في حكم الإنقاذ؟"، كان ردَّ الصَّادق كما يلي: "كانت هناك مشاكل، ولكن حرب أهليَّة كما الآن لم تكن موجودة، صحيح هناك ناس حملت السِّلاح كنهب مسلَّح، لكن لأوَّل مرة قوَّة سياسيَّة مسلَّحة تحمل السِّلاح ضد الدولة فهذا يحدث لأوَّل مرة."(36) إذ كل من عاصر حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م) يعلم علم اليقين الحرب الأهليَّة التي استمرَّت في دارفور حين تحالفت 27 قبيلة عربيَّة ضد أثنيَّة الفور، وقد وثَّق الدكتور شريف حرير هذه المذابح الدمويَّة بشيء من التوثيق دقيق، ونشره مركز الدِّراسات السُّودانيَّة في القاهرة.(37) وإن كان من شيء في حديث الصَّادق المهدي فإنَّ هذه القوات العربيَّة المتحالفة مع بعضها بعضاً لم تحمل السِّلاح ضد الدولة وكان أجدر لها أن تفعل ذلك، ولكنها حملته وأشهرته ضد المدنيين العزل من إثنيَّة الفور وبعض الإثنيات غير العربيَّة الأخرى، أو ما أسمَّوه الزرقة في دارفور، وسُفِكت دماءٌ كثيرة ودُمِّرت المزارع والبساتين، ونُهِبت الحيوانات من الإبل والماشية والماعز، وأُحرِقت البيوت والقرى بأكملها.
ألم تروا أنَّ القاعدة السِّياسيَّة والأيديولوجيا الفكريَّة للأدبيات القرشيَّة التي انتشرت في إقليم دارفور وفاضت في كردفان كانت منشأتها في عهد الصَّادق حين لم يتعامل بمسؤوليَّة مع خطاب التجمع العربي في دارفور، ونداءت أبناء دارقور حتى داخل حزبه طالبين من سيادته أن يفعل شيئاً تجاه الاقتتال والمذابح في الإقليم! ألم تروا أنَّ العقيد اللِّيبي معمَّر القذَّافي كان قد استباح أرض دارفور مسرحاً لحربه بالوكالة ضد تشاد، وأرسل ما بات يُسمَّى ب"الفيلق الإسلامي"، وهو كان عبارة عن قبائل مرتزقة عربيَّة من تشاد والنَّيجر ومالي وجنوب ليبيا، إلى إقليم دارفور، وأمست تعيث في الأرض فساداً، وترويعاً للمواطنين، وقتلاً للمدنيين، ونهباً لممتلكاتهم! هذا، فقد ذهب جزء كبير من الأسلحة التي أرسلها القذَّافي مع بعض مواد الإغاثة لإغاثة أهل دارفور من المجاعة، التي ضربت البلاد العام 1984-1985م، إلى القبائل العربيَّة في دارفور وجنوب كردفان. وكان السماح للقذَّافي بهذا التدخُّل السافر بمثابه العرفان بالجميل من الصَّادق له حينما دعمهم القذَّافي أثناء تواجدهم في الجبهة الوطنيَّة المعارضة لنظام الرئيس السُّوداني الأسبق جعفر محمد نميري. فما هذا إذاً؟ أليس هذا بتدويل، ليس للمشكل السُّوداني فحسب، بل تدويلاً للقضيَّة التشاديَّة في إقليم دارفور، حتى باتت المنطقة تعج بالمخابرات الفرنسيَّة واللِّيبيَّة والتشاديَّة والمصريَّة وعملاء وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأميريكيَّة المعروفة اختصاراً ب"السي آي إيه". وقد حدث ذلك كله دون أن يحرِّك هذا التدهور الأمني حساً من أحاسيس الصَّادق، حتى عمَّت الفوضي العارمة الحاضرة والبادية على حدٍّ سواء، وأمسى المثل الشعبي السائر حينئذٍ "العندو كلاش يأكل بلاش"، كناية عن شدة انفراط عقد الأمن في الإقليم.
هذا ما كان من أمر دارفور في عهد الصَّادق المهدي. ومن ثمَّ استطردت الصحافيَّة سائلة الصَّادق: "ولكن ماذا بشأن تكوين الميليشيات العربيَّة والمراحيل؟" ومن هنا ارتبك الصَّادق ورمي باللائمة على غيره بالقول: "هذا موضوع واضح، هذا لم يكن في دارفور، كان في جنوب كردفان؛ ففي جنوب كردفان في أثناء الحكومة الانتقاليَّة (1985-1986م)، وليس حكومتي (...) حين قرَّرت حكومة الفريق (عبد الرحمن محمد الحسن) سوار الدهب أن تمكِّن القرى من الدِّفاع عن نفسها، لذا سلَّحوها. أما تكوين ميليشيات للقيام بعمل مساند للقوات المسلَّحة في حرب الجنوب أو غيرها فهذا إجراء لحكومة الإنقاذ، التي تعد مسؤولة عن تكوين الدِّفاع الشَّعبي والميليشيات القبليَّة التي كانت تساعد القوات المسلَّحة، والعلاقة بين الجنجويد والحكومة، وكلها أشياء لم يسبق أن قامت بها حكومة قبلها."(38)
ما لهذا الرَّجل يستغفل النَّاس! فدعنا نبدأ بحيث انتهى الصَّادق بالجنوب، حيث اختتم إجابته. لا مريَّة في أنَّ الحكومات الوطنيَّة منذ بزوغ التمرُّد الأوَّل في توريت في 18 آب (أغسطس) 1955م قد استخدمت ميليشيات وسلَّحت قبائل مناوئة في حربها ضد المتمرِّدين الجنوبيين. أفلم يقر رئيس الوزراء الأسبق عن حزب الأمة محمد أحمد محجوب في كتابه "الديِّمقراطيَّة في الميزان: تأمُّلات في السِّياسات العربيَّة والإفريقيَّة" أنَّ حكومته سلَّحت بعض القبائل في جنوب السُّودان ضد المتمرِّدين الأنيانيا!(39) أولم تنشأ حكومته ما أسمَّاه الحرس الوطني من قبائل بعينها وسلَّحتها وأطلقت يدها، وأخذت تعوث في أرض الجنوب فساداً واغتصاباً للحرائر، وانتهاباً للمواشي، وسفكاً لدماء الأهالي الأبرياء! أفلم تُقدم حكومة المشير جعفر محمد نميري في بواكير نشوء الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بتسليح ميليشيات النوير بقيادة عبد الله شول وأخذت تسميها "القوات الصديقة" (Friendly Forces)، مما يعني إطلاقاً أنَّ المواطنين في السُّودان ينقسمون إلى قبائل صديقة وأخرى غير صديقة! هذا، فقد استمرَّت القوات المسلَّحة السُّودانيَّة والاستخبارات العسكريَّة تغدق على هذه "القوات الصديقة" السِّلاح والعتاد، حتى بعد سقوط نظام نميري، وفي عهد الحكومة الانتقاليَّة وعهد الصَّادق المهدي نفسه، حتى تسلَّم منه العصا نظام "الإنقاذ"، واستعظم تمليش الشَّعب السُّوداني وقبائل جنوبيَّة مناوئة للحركة الشعبيَّة، ثمَّ عمل على أسلمتها، ونفخ فيها روحاً جهاديَّة عاتية سخَّرها عليهم الدكتور حسن الترابي.
فيما مضي أمسينا في شك مريب من أقوال وردود الصَّادق، مما شرعنا نتساءل في أنفسنا ونسأل غيرنا هل الصَّادق المهدي يتحرَّى الصِّدق! لذلك إنَّا لترانا نعجب بردِّ الدكتور منصور خالد حين سُئل عن رأيه في الصَّادق المهدي، وكان ردَّه: "ليته كان صادقاً، وليته كان مهديَّاً". إذاً، ما الذي يدفع الشَّخص إلى اللجوء إلى الكذب؟ إنَّ الإنسان ليقدم على الكذب أو ينتوي الكذب حين يلتفت يمنة ويسرة ولا يجد حقيقة تسعفه على الصِّدق، ومن أخذ الكذب عادة له يعتاد عليها، أو صنعة له يلجأ إليها دوماً، قيل عنه مِكذاب على وزن مِفعال.
وفي أواخر تموز (يوليو) 1986م عُقِد اجتماع بين الدكتور جون قرنق والسيد الصَّادق المهدي في العاصمة الإثيوبيَّة، أديس أبابا، حيث استمر الاجتماع أكثر من تسع ساعات متصلة دون تحقيق أيَّة نتائج ملموسة (Without a break or a breakthrough). ففي نهاية الاجتماع قال قرنق للمهدي: "إذا ذهبت إلى الخرطوم واتخذت خطوة جريئة بصدد القوانين "السبتمبريَّة" – أي قوانين الشريعة الإسلاميَّة – فلسوف تجدنا قد اتخذنا خطوة جريئة أيضاً." أما السيد الصَّادق المهدي فقد قال لقرنق ووفده: "إذا تحدثتم للإعلام عن هذا اللقاء الذي تمَّ بيننا وبينكم فقولوا إنَّ الاجتماع قد استغرق ثلاث ساعات!" فرد عليه قرنق: "أهكذا بدأنا بالكذب من الآن؟!" نحن نعلم حق العلم أنَّ الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب، ولكن حين يأتي "الشروع في الكذب" من شخص يُدعى الصَّادق فإنَّ في هذا لأمراً عُجاب. هذا، وقد تركَّز حوار الساعات التسع بين السيِّد الصَّادق المهدي – الذي اُستقبِل بصفته رئيساً لحزب الأمة وليس رئيساً للوزراء – والدكتور جون قرنق في الأساس على كيفيَّة تمتين الوحدة الوطنيَّة.
وللمداد بقايا،،،