من وحي زيارة السيسي للسودان (1) … بقلم: الرفيع بشير الشفيع
انا لا آمن اي تقارب من ناحية مصر تجاه السودان خصوصا في وقت وصل السودان فيه لأضعف حالاته الاقتصادية والسياسية وفي اضعف حالات علاقاته ، جراء معادلات سياسية واقتصادية وعلائقية لعبت فيها مصر نفسها دورا لا تخطئه عين ، وتأتي الان لتساوم السودان ، "كما نعتقد" بالاخاء والبيع بلا شراء والاخذ بلا عطاء ، وهي تعرف انها يمكن ان تستغل بذلك خيرات السودان وتتاجر فيها اقليميا وعالميا بالوكالة ، واعتقد ان قرارات الموافقة على كل الاتفاقيات التي نعتبرها لصالح مصر هي قرارات سياسية من الدرجة الاولى امالتها حالة الضعف والاستضعاف المصري وان هذا هو افضل الاوقات لتنال مصر من السودان ما تريد ، واعتقد ان محور اغراض مصر في السودان هو محور اقتصادي بحت عملت مصر ومنذ وقت على محاربة السودان نفسيا وتجاريا واستنزافا وبلبلة وعدم استقرار داخليا وعملت على دهورت علاقاته خاصة مع بعض الدول الشقيقية والافريقية الصديقة وعالميا ، كما يشعر اي فرد سوداني من انها تحرك العالم في خنق السودان والتحكم في مقاطعته وطرق التعامل معه ، هذا ما نعتقده وما نشعر به وما يشعر به اي سوداني له ذرة من وطنية ، والبقية تمتنع.
اولا مصر منذ زمن بعيد تتعامل معنا تعامل استنزاف اخلاقي ومواردي واستغلال جغرافي وتتعامل معنا دوما باسلوبين ، اسلوب ظاهر ، تتبادل فيه الابتسامات والسماحة واسلوب خفي يشعر السودان بخبثه بعد حين.
ثانيا القارة الافريقية مقدمة الان وفي السنوات القليلة القادمة على إفتتاح ، منطقة التجارة الحرة الأفريقية ، continental Free Zone Area وقد قطعت المجموعات التجارية ، الكوميسا COMESA "التي تضم السودان ومصر ايضا" ودول شرق افريقيا EAC، ودول الجنوب الافريقي السادك SADC (انا اشترك احيانا في اللجان الفنية في الترجمة)، قطعت هذه الدول شوطا فنيا كبيرا وقد تمت المصادقة عليها من قبل رؤساء الدول في كمبالا قبل عام ونيف كما اعتقد.
عملت عدة لجان فنية من ضمنها لجان المعالجات الأمنية ولجان المعالجات التجارية وغيرها ، على دمج كثير من الامور الامنية و التجارية ومن ضمنها توحيد التعرفة الجمركية لمنتجات كثيرة وتسهيل حركة تنقل رجال الاعمال ، وضبط عملية اغراق السوق Anti dumping وعملية تفضيل المنتجات الافريقية كاولويات تجارية بين الدول الافريقية ، بما في ذلك "الاعتماد على المنتجات المصنعة افريقيا وعدم منافستها بأي نوع من المنتجات ومن المعروف ان الميزان التجاري والميزان الصناعي بين مصر والسودان لصالح مصر والتي تنافس دولا افريقية كبيرة من جنوب افريقيا والجزائر ونيجيريا وغيرها " وهذا هو بيت القصيد الذي يجعل مصر تسارع بضمان السوق السودانية حتى تسبق تلك الدول بتغطية السودان ومنطقة القرن الافريقي ، وهذا واحد من الاسرار التي تجعل مصر تتسمح مع السودان وتوافق على لعب دوره في سلام الجنوب حتى تستفيد من البنية التحتية السودانية لاستخدامها في سلب امكانيات الجنوب والشمال ايضا وهذا هو جزء من السر الذي يجعل بعض دول الخليج تدفع مليارات الدولارات لتخلق سلام مستعجل بين اثيوبيا واريتريا وهو نفس السر الذي يجعل منطقة البحر الاحمر تنورا فائرا سياسيا.
ومن الاسباب التي تجعل لعاب مصر يسيل ونرى كل طاقم ادارة مصر في السودان في رضا مريب ، هو ان السوق السودانية تضم ميزات كثيرة وكبيرة (ذكرتها في طرحي في عرض قبل عشرة ايام في سمنار انشاء مجلس العمل الجنوب افريقي السوداني والذي دعت له السفارة الجنوب افريقية ) ، ومما ذكرت :-
- ميزة الموقع التجاري السوداني Sudan location وقربه من الدول العربية والدول الاوروبية والدول الافريقية ، التي يختلف مع كثير منها في المواسم ، خصوصا جنوب افريقيا.
- ميزة الموارد الطبيعية "وهذا يحتاج لكتاب كامل لتبيانه" ولكن الاهم فيه هي خصوبة التربة ، والامكانات المائية وموارد السودان السياحية والتعدينية الهائلة وغيرها.
ومنطقة التجارة الحرة الافريقية أنشئت للإعتبارات التالية :-
1- شعور الدول الافريقية بضرورة التكامل التجاري لمواجهة الصراع الدولي " الصين وامريكا والسوفيت وغيرها " على السوق والارض الافريقية باعتبارهما سوق يتوسط العالم وبه خيرات وموارد طبيعية يمكن ان تكفي العالم مئات السنين وهذا هو ايضا سبب الحروب على افريقيا وفرض ثقافة الاستضعاف والتحبيط والرهن للخارج وهو جزء من مخطط عالمي قديم يبقي افريقيا reserve للعالم للتكالب عليه كما نرى في مثل هذا الوقت ، وهذا جزء مما يجعل مصر تعي وتتحرك مسعورة للتعامل بالحسنى مع السودان حتى تضمنه حافظة استثمارية تقدم منتجاته هي للغير وبماركة مصرية.
2- الان العالم بقواه الاقتصادية والسياسية يتحرك نحو افريقيا ويقتتل فيها ويتقاسم كيكتها ، والسودان يمثل منفذا مائيا وجويا ورابطا قاريا واثنيا بين كثير من الدول ، وهو من اهم "المواقع" التي يمكن ان يستفاد منها دوليا في تنمية كل القارة الافريقية وهو منفذ لاسواق هامة وهو مخزون مائي وتعديني كبير وهذا هو السر الذي يجعل الدول تزعزع السودان منذ السبعينات حتى لا يخرج اثقال خيراته وهو نفسه الذي أرجأ انتاج البترول في وقت معين وهو نفسه السر الذي اشعل الحروب وفصل الجنوب ليتنزع البترول ، ثم تاتي الدول الان بوجهها المجمل لتكرمنا بتوقيع سلام الجنوب لانها رأت ان السودان ، كيكة استثمارية واحدة افضل "لها" من ان يكون مجزءا ، وهذا لا يعني انها سوف لن تستمر في تجزئته جغرافيا واثنيا ورتقه ثانية متى ما رأت ان الرتق افضل لها.
ما يحدث الان من تكالب مصري نحو السودان سعت له مصر بشتي الطرق لتوصل السودان لهذا الحال حتى تاتي الان لتلعب على وتر الاستثمار السوداني بصورة مخططة ومقيسة لاستنزاف السودان واستعماره اقتصاديا بالتي هي احسن ، وقد عملت لذلك منذ فترة كالأتي :-
- اولا انهت ادوار اهم وزارات يمكن ان تقوم بتأسيس استثمار وطني ، ومنها وزارات الزراعة والمياه والسياحة والاستثمار نفسها ،وقد رأينا في الاشهر والسنين الفائتة كيف ان الاقتصاد السوداني يتخبط كالمصروع ورأينا كيف ان الاستثمار السودان كل ما ينشء مشروعا تتكالب عليه ايدي مصر في الداخل لانهاءه ولو اعلاميا ، ورأينا كيف ان مصر رفعت ايدي الاخوة في الخليج من الاستثمار في السودان ، حتى لا يسد الفجوة الغذائية التي تخنقه وقد حضرت شخصيا عدة ورش عمل ومنتديات تجمع فيها المستثمرون العرب في الخرطوم لوضع رؤية يسد السودان فيها الفجوة الغذائية ، والسودان هو الاجدر والاجدى بسد الفجوة من خيراته ومنتجاته ، وارضه الخصبة ومياهه وايدي ابناءه ؛ ولكن رأينا ايضا انهيار كل ذلك ، بصورة سحرية ، واصبحت مصر تأتي لتصدر بديلا عنا موادنا الخام وتصنعها في مصر وفي الخليج وتضع عليها علامتها ، حتى اصبح القطن المصري افضل قطن في العالم، ولا اريد الدخول في مكائد مصر في اتجاهات عدة ، الامر الذي تحارب فيه مصر ، السودان تجاريا وسياحيا وانتاجيا وتريد ان تكون هي وزارة تجارتنا ووزاة سياحتنا وهي اعلامنا وهي مصدرة انتاجنا والمتحدث بإسمنا امام العرب تسد فجوة غذاءهم وامام اوروبا تتباهى بمنتجاتنا وتضع عليها علامة الجودة المصرية.
عملت مصر لذلك سياسيا حتى يأتي هذا اليوم الذي نتجرد فيه عن الارادة حتى نسلمها "ذقننا التجارية " ، وسياسيا تسببت في كثير من مشاكلنا الداخلية ومشاكل المنطقة واثرت سلبا ولو من قبيل الاستثمار العربي وتدخلت في تجفيف سوقنا عن العملة الصعبة ، وجعلت السودان في موقف لا يحسد عليه في تفعيل موانئه وفي تصنيع غذائيه وفي شد احزمة المقاطعة علينا حتى لا تصلنا التقنية ، فنستفيد من انتاج.
كل ذلك يتماهى مع انعدام الرؤية داخليا ، انعدام الرؤية في وضع رؤية استثمارية ورؤية صناعية "وعندما نقول صناعية نعني فقط التصنيع الغذائي والذي يجب ان يكون علامتنا وبضاعتنا ننافس بها العالم " لكن مصر الان تقطع الطريق لتأتي تجفف موادنا الخام لتصدرها للغير وتصدر لنا فتات الانتاج بلا رغابة ولا حماية ولا مواصفات ولا صحة ولا وجيع ، لكي نربع ايدينا وننتظر الرجيع المصري واعادة التدوير من خيراتنا لنأكل.
rafeibashir@gmail.com
////////////////