العُمْدَة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك (1930- 2018م): “آخر زعماء الإدارة الأهليَّة في الولاية الشماليَّة” (2/2)

 


 

 

 

"رحيل جيل بكامل ملامحه"
(2/2)

تناولت الحلقة الأولى ملامح من سيرة العُمْدَة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك، بالتركيز على نشأته الأولى في قنتي، ومراحله الدراسيَّة في مدرسة كورتي الأوليَّة، وعطبرة الأميرية الوسطى، ووادي سيدنا الثانويَّة، والمصادر التي أسهمت، إلى جانب التعليم النظامي، في تشكيل وعيه السياسي والفكري، وكذلك تطرقت الحلقة إلى بداية حياته العمليَّة في الجهاز القضائي بمدينة ود مدني، حيث انخرط بفاعلية في أنشطة الحركة الوطنية الناهضة آنذاك. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة، نعرض مسوغات انتقاله من ود مدني إلى عمودية قنتي؛ ونلقي الضوء على دوره الإداري والقضائي في تسيير أعمال العمودية مع نخبة من مشايخ القُرى البارزين، وعلى إسهاماته المتفردة في اتحادات المزارعين القوميَّة والولائيَّة والمحليَّة، وأنشطته الخدميَّة في مجالس الحكم المحلي، ولجان التعليم والصحة والخدمات العامَّة.

من ود مدني إلى عُمُوديَّة قَنتِّي
بعد أن تولى العُمْدَة محمد أحمد أبوشوك رئاسة فرع البديريَّة بالوكالة عام 1954م؛ نظراً لمرض رئيس الفرع الطاهر وقيع الله (ت. 1955م)، طلب من ابنه إبراهيم أن يستقيل من وظيفته بالقضائية؛ ويخلفه في إدارة عمودية قنتي. ترك إبراهيم الوظيفة الحكوميَّة بكل بهرجها الديواني في ود مدني الساحرة عام 1954م، وعاد للعمل في قنتي بين أهله وعشيرته، وتحت إشراف والده الذي أضحى رئيساً لفرع البديرية، ثم عَين ابن عمه محجوب محمد الخير أبوشوك كاتباً للمحكمة القروية. وفي تلك الفترة كانت عموديَّة قنتي مقسمة إلى ثماني شياخات، ومن المشايخ الذين عاصرهم العُمْدَة إبراهيم في تلك الفترة، وعمل معهم في تناغم إداري فريد، الشيخ حسن حسين بابكر الملك، شيخ قَنتِّي قبلي؛ والشيخ محمد خير أحمد أبوشوك، شيخ قَنتِّي بحري؛ والشيخ إبراهيم أحمد أبوشوك، شيخ قَنتِّي أبوكليوات؛ والشيخ الرشيد الراية، شيخ ارتموقة والقلاب؛ والشيخ حسن إسماعيل محمد، شيخ فقيرنكتي؛ والشيخ الأمين عطا المنان، شيخ الكُلُد؛ والشيخ سيدأحمد محجوب بخيت، شيخ حسينارتي؛ والشيخ الخضر سيدأحمد محمد خير، شيخ الهو وجقرنارتي. وكان العُمْدَة والمشايخ يمثلون في ذلك الوقت الجهاز الإداري في المنطقة، والذي تقع على عاتقه مسؤوليَّة توزيع الأراضي السكنيَّة والمرافق العامة وتنظيمها، وتقدير ضرائب القطعان والنخيل وتحصيلهما، وذلك فضلاً عن سلطاتهم المرتبطة بحفظ الأمن والنظام العام، والدعوة إلى النفير الشعبي؛ لإنشاء الجسور الواقية من الفيضانات، والحفائر العامَّة، وتنفيذ الأوامر الحكوميَّة الأخرى. وإلى جانب تلك السلطات الإداريَّة، كان العُمْدَة إبراهيم يرأس محكمة قَنتِّي القرويَّة، مستعيناً بمجلس من الأجاويد والأعيان من أهل الفطنة والدراية والقبول، ونذكر منهم: عباس حاج أحمد، والزعيم محمد هشام إبراهيم، وشيخ محيي الدين محمود، وعلي المكي محمد علي، والرشيد قرجة، وعبد الرحمن محجوب الأحمر، وعبد الله باشاب، وبعضاً من مشايخ القُرى؛ للاستئناس بآرائهم في إصدار أحكامه القضائيَّة الجنائية، والقرارات الإدارية، والتسويات المدنيَّة. وكانت سلطاته القضائيَّة آنذاك تشمل متابعة التحريات الجنائيَّة، وإصدار عقوبة السجن على المدانين في القضايا الجنائيَّة لمدَّة أقصاها ستة أشهر، والغرامة لمبلغ أقصاه عشرين جنيهاً، والجلد عشر جلدات للأولاد تحت سنّ ستة عشر عاماً، كما كان له حق النظر في القضايا المدَنيَّة الصغرى وتسويات الأراضي. وبعد وفاة العُمْدَة محمد أحمد أبوشوك عام 1965م، خلفه العُمْدَة إبراهيم في رئاسة فرع البديريَّة، واستمر عبيد ريحان في وظيفته، كاتباً لرئيس الفرع الجديد. وكانت سلطات رئيس الفرع الإداريَّة والقضائيَّة آنذاك ذات طابع استئنافي؛ لمراجعة الأحكام والقرارات الصادرة من عموديات قَنتِّي، وكُورتي، وكوري، وجلاس. هكذا جمع العُمْدَة إبراهيم بين منصبي رئيس الفرع وعمدة قَنتِّي إلى أن تمَّ الفصل بينهما في منتصف عام 1969م، وبعد فترة وجيزة من قرار الفصل، حلَّت حكومة مايو مؤسسات الإدارة الأهليَّة.
وبعد تصفية الإدارة الأهليَّة عام 1969م، انصرف العُمْدَة إبراهيم إلى فضاءات العمل العام في المنطقة، بكل فاعليَّة وتفاني وتجرد. وفي عام 1978 أُعيد انتخابه رئيساً لمحكمة قَنتِّي الشعبيَّة (محكمة التضامن الريفيَّة لاحقاً)، والشيخ حسن إسماعيل محمد نائباً له، وظل يشغل ذلك المنصب إلى أن تقاعد عن العمل القضائي عام 2012م. وخلال الفترة التي قضاها في رئاسة محكمة التضامن الريفيَّة، ومن قبلها محكمة عموديَّة قَنتِّي القرويَّة، كان العُمْدَة إبراهيم ينظر للعمل القضائي في الريف من منظور اجتماعي؛ لا ينحصر في تطبيق الأحكام القضائيَّة والعقوبات الملازمة لها، بل يتعداها إلى أهمية الحفاظ على النسيج الاجتماعي، وإصلاح ذات البين بين المتخاصمين بطريقة توافقيَّة، تحفظ حقوقهما، وتطييب خواطر المنتسبين إليهما، أياً كان شكل النزاع، جنائياً أو مدنياً؛ ولذلك كان فضاء الأحكام القائمة على الجوديَّة أوسع نطاقاً من إصدار الأحكام القضائيَّة الرادعة وتنفيذها.

مشروع الكُلُد والقطاع الزراعي
مشروع الكُلُد الزراعي أحد مشاريع مؤسسة الشماليَّة الزراعية (مشاريع الإعاشة سابقاً) العشرة، وهي قندتو، والكتياب، والزيداب، والعالياب، والباوقة، ونوري، والقرير، والكُلُد، والغابة، والبرقيق. أُسس مشروع الكُلُد الزراعي عام 1927م، على رقعة زراعيَّة، تقدر مساحتها 3000 فدان مربع، تمتد على الضفة اليسرى للنيل في المنطقة الواقعة بين عقبة الحتاني وسيال قَنتِّي. وارتبط اسم مشروع الكُلُد الزراعي أيضاً ببدايات البستنة وزراعة الموالح والنخيل في الولاية الشماليَّة، حيث أنشأ الكولونيل جاكسون بيك ﺃﻭﻝ ﻣﺰﺭﻋﺔ ﺗﺠﺎﺭﻳَّﺔ ﻓﻲ ﻣﻨﺼﻮﺭﻛﺘﻲ عام 1908م، وجلب إليها أنواعاً مختلفةً من أشجار الفاكهة والنخيل، وعين عليها خبيراً زراعياً يدعى مستر بيفن للإرشاد الزراعي والتوعية الفنيَّة. وعندما قرر الكولونيل جاكسون العودة إلى بلاده عام 1937م، عرض المزرعة للبيع في مزاد علني، تقدم إليه السيِّد علي الميرغني، والسيِّد عبد الرحمن المهدي، والإغريقي كنتومخلص؛ إلا أن مواطني المنطقة آثروا السيِّد علي الميرغني على غيره، بالرغم من أنَّ قيمة العطاء الذي تقدم به كان الأقل، وأخيراً وافق جاكسون على بيع المزرعة والسرايا التابعة لها إلى السيِّد علي الميرغني، وأضحت المزرعة فيما بعد، تُعرف بجنينة السيِّد علي الميرغني.
أما إدارة مشروع الكُلُد الزراعي فكانت تقوم على جهازين؛ أحدهما حكومي، يتكون من النُاظر (المفتش لاحقاً) والخبراء الزراعيين والخفراء، وفني المحطة الزراعية وعمالها؛ وآخر شعبي، يتكون من العُمْدَة ومشايخ القرى وصمودة السواقي. وقد حَلَّ لاحقاً اتحاد مشروع الكُلُد الزراعي محل الجهاز الشعبي، وشغل العُمْدَة إبراهيم منصب سكرتير عام الاتحاد، ورئيس لجنة الإنتاج إلى أن حُلَّ الاتحاد عام 1989م. وقد عمل خلال هذه الفترة مع كوكبة من أعضاء الاتحاد المخلصين، ونذكر منهم بكري حسن بابكر، والشيخ الأمين عطا المنان، ومحمد أحمد الكارس، وأحمد عبد الرحيم عمر، وعلي المكي محمد علي، وحسن المكي الشيخ، والباقر عثمان، والشيخ الرشيد الراية، والأمين محمد صالح كنوز، وحسن سيدأحمد محمد خير، وعثمان سعيد الراية، ويوسف محمد صالح فقير. وكان هؤلاء الرجال يعملون بتفاني في خدمة المشروع، ويعتقدون اعتقاداً جازماً أن نجاح المنطقة مرهون بنجاح مشروعها الزراعي، الذي كان ولا يزال مصدر الدخل الرئيس للسواد الأعظم من سكان المنطقة.
وكان أعضاء الاتحاد في تلك الفترة يقدمون الشأن العام على الشأن الخاص، وندلل لذلك بأحد خطابات العُمْدَة إبراهيم إلى ابنه محمد (حميد)، والخطاب كان يتكون من أربع صفحات، ومؤرخ في 29 أكتوبر 1999م، وفي تلك الصفحات الأربع تناول العُمْدَة جملة من القضايا الأسريَّة والاجتماعيَّة المتفرقة، لكن في الصفحة الأولى يقول: "البلد جميعاً بخير، وإن كان كارثة غرق صندل الوابور [الزراعي] الذي لم يخرج إلى السطح حتى الآن. وقد كنا قبل يومين بدنقلا لمقابلة وزير الزراعة والوالي، ووعدنا خيراً، رغم أن إخراج الصندل يكلفنا عشرون مليون ... والحمد لله الوزير ساهم بعشرة مليون، والوالي ساهم بخمسة مليون أيضاً... وفي متابعات شديدة لإخراجه من النيل بواسطة صنادل من كريمة." ويعضد ذلك أيضاً، ما كتبه الأستاذ عبد الله عمر فقير في رثاء الفقيد على صفحته بالفيس بوك: "كان الفقيد .... شخصيَّة عامة، وظَّف كل جهده ووقته في خدمة البلد، لم نره، ولم يره أحداً يعمل في مزرعته، أو خلافها لمصلحته الخاصة، بل كنا نراه يعمل لصالح المنطقة، درسنا في المدارس التي أسهم في إنشائها مع الحادبين على مصلحة البلد، وتربينا في المشروع الزراعي الذي تعهد برعايته وصيانته، وألاه الجهد الأكبر من وقته؛ لأنه كان يعتبره شريان الحياة" في البلد.
وإلى جانب العمل العام في منطقة قَنتِّي، نلحظ أن العمل في اتحاد مشروع الكُلُد الزراعي قد أتاح للعُمْدَة إبراهيم الالتقاء بزملاء آخرين من اتحادات مزارعي المديرية الشماليَّة، قبل أن تُقسم إلى ولاتين (الشماليَّة ونهر النيل)، حيث كان عضواً بمجلس إدارة مؤسسة الشمالية الزراعية منذ مطلع الثمانينيات حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، كما شعل منصب أمين المال في آخر اتحاد مزارعين منتخب في الولاية الشمالية. فضلاً عن ذلك اشترك في العديد من اجتماعات الاتحاد العام لمزارعي السُّودان، وكان من الذين يعارضون هيمنة اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل على إدارة الاتحاد العام. ولذلك ساند ترشيح الناظر طيفور محمد شريف لرئاسة اتحاد مزارعي السُّودان العام (دورة 1977م) بقوة، وبعد فوز طيفور تمَّ انتخاب العُمْدَة إبراهيم عضواً في المكتب التنفيذي للاتحاد العام، وعضواً في مجلس إدارة مؤسسة التأمين التعاوني الزراعية. وفي تلك الفترة رافق وفد الاتحاد العام في زيارته إلى جمهورية العراق؛ للوقوف على بعض التجارب الزراعية الناجحة، وكيفية إفادة منها في السُّودان. وقام العُمْدَة إبراهيم أيضاً بدورٍ فاعلٍ في حملة إعادة ترشيح الناظر طيفور محمد شريف عام 1978م ضد السيِّد عبد الجليل حسن عبد الجليل مرشح اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، ولكن هذا الأخير قد فاز عليهم بفارق أصوات قليلة، الأمر الذي دفعهم إلى رفع استئناف إداري ضد قرار لجنة الانتخابات. وقد أشار إلى هذه الواقعة الأستاذ المحامي عبد المنعم عثمان علي، قائلاً على لسان الراحل المقيم: "ناس الجزيرة والمناقل عندهم المال، ونحن عندنا الفهم، والحنكة السياسيَّة، والحكمة. وأخيراً، استطعنا أن نحشد كل المديريات خلف مرشح المديريَّة الشماليَّة، واجتمعنا في قاعة الصداقة، وعندما حس اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل بالهزيمة، احتموا بالرئيس نميري، وأتى الرئيس نميري إلى قاعة الصداقة، وطلب من اتحاد مزارعي المديريَّة الشماليَّة أن يتنازلوا عن المنصب لصالح الجزيرة والمناقل." وحسب رواية الأستاذ عبد المنعم: "ووقف العُمْدَة ابراهيم أبوشوك، وقال له نحن أهل حضارة وزراعة منذ أن خلق الله هذه الأرض، بل نحن حكام للسودان من ترهاقا لي عندك، فابتسم الرئيس [أي الرئيس نميري]، وقال لهم خلوا لناس الجزيرة حكم الزراعة، وإنتوا أحكموا السُّودان." والمهم في هذه الرواية أن العمل العام خارج نطاق المديريَّة الشماليَّة قد فتح آفاقاً جديدة للعمدة إبراهيم للتواصل مع زعماء اتحادات المزارعين على المستوى القومي، وأتاح له الفرصة للإسهام برأيه في حل بعض المشكلات الزراعيَّة، وسماع للرأي الآخر بشأن تطوير القطاع الزراعي في السُّودان.

التعليم والصحة والخدمات العامة
نوجز في هذه الفقرة طرفاً من إسهامات العُمْدَة إبراهيم في مجالات التعليم والصحة والخدمات العامة؛ لأنه كان من الذين يعتقدون أنَّ تنمية الريف المستقر على ضفاف نهر النيل تستند في المقام الأول إلى التعليم، والصحة، والزراعة؛ علماً بأن التعليم يعني محاربة الجهل، والصحة تعني محاربة المرض، والزراعة تعني محاربة الفقر. ولذلك عمل بجهدٍ مخلصٍ مع ثلة من أبناء قَنتِّي في لجان التعليم ومجالس الآباء التي أسهمت في تشييد معظم المؤسسات التعليمية في المنطقة عن طريق العون الذاتي، ونذكر منها: مدرسة قَنتِّي المتوسطة للبنين (1967م)، ومدرسة قَنتِّي المتوسطة للبنات (1975م)، ومدرسة قَنتِّي بحري الابتدائية المختلطة (1978م). ثم بعد ذلك، يأتي دوره في اللجنة القومية لإنشاء مستشفى التضامن، الذي جسَّد أرقى صور العون الذاتي؛ لأنه كان نتاج جهد شعبي مشترك لأبناء المنطقة وبناتها على امتداد السُّودان قاطبة. وقد ثمَّن البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، حاكم الإقليم الشمالي آنذاك، مشروع المستشفى عندما هتف مع أهل التضامن، مردداً: "تضامن رائد يسر القائد ... تضامن عظيم يسر الإقليم". فحقاً كان مشروع المستشفى تضامناً رائداً، إذ تمَّ افتتاحه في مهرجان عظيم عام 1986م، وبسعة تبلغ ستين سريراً، ومعدات طبية وأثاثات مقدمة من ولاية سكسونيا السفلى بألمانيا. وبعد ذلك أضحى اسم التضامن اسماً متفقاً عليه، أُطلق على بعض مؤسسات المنطقة الخدميَّة، مثل وحدة التضامن الإداريَّة، ومحكمة التضامن الريفيَّة. وإلى جانب العمل في لجان التعليم والصحة ومجالس الآباء، اُختير العُمْدَة إبراهيم رئيساً للجنة القومية لإعادة إعمار قرية قَنتِّي، التي دمر فيضان 1988م جزءاً كبيراً من مساكنها، ومزارعها، ومؤسساتها، ومرافقها الخدميَّة. وقد أشرف الراحل المقيم مع رهط من أبناء المنطقة وأعضاء اللجنة القومية بالخرطوم على تنفيذ مشروعات إعادة الإعمار في الفضاء الواقع بين سيال قَنتِّي ووادي حماد، والإحياء المتبقية من قرية قنتي العتيقة، وذلك في زمن قياسي. وتعكس الصورة أدناه نموذجاً حياً من مراحل إعادة الإعمار؛ إذ يقدم العُمْدَة إبراهيم كأس الإعمار إلى الأستاذة مريم عبد الفتاح (الناظرة)، بمناسبة إعادة افتتاح مدرسة قَنتِّي الابتدائية المختلطة في موقعها الجديد بعد الفيضان، وكذلك تقديراً لجهودها المتواصلة في دعم المؤسسات التعليمية، باعتبارها واحدةً من رائدات تعليم البنات في الولاية الشمالية.

الدروس والعبر في سيرة الفقيد
أولاً: إنَّ العُمْدَة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك كان نتاج عوامل بيولوجية ونفسيَّة وظروف بيئيَّة (اجتماعيَّة، وثقافيَّة، واقتصاديَّة) شكَّلت شخصيته القياديَّة، التي كانت تتمتع بقدرة فائقة في التواصل مع الآخرين، وثقة بالنفس، وحزم في اتخاذ القرارات، وجرأة في تحمل المسؤوليَّة ومواجهة التحديات. وقد أشار الأستاذ الفاضل عباس، وعثمان أحمد النقيب، ومحمد الحسن البشير، وعبد الحميد أحمد عمر كمبال، وعادل عوض سلمان (والي الولاية الشمالية الأسبق)، ومحمد حسن حمد، والفاضل عثمان بيضاب، وعابدين محمد بخيت، وعبد الفتاح محمد عبد الرحمن بيضاب، وعبد الوهاب سلفاب، ومحمد عبيد البشير، وآخرون إلى هذه الصفات في مراثيهم للفقيد. وذلك فضلاً عن حديثهم عن مهاراته التنظيميَّة في التأثير على الآخرين بطريقة إيجابيَّة؛ لتحقيق مصالح المنطقة المنشودة. ونجاح ذلك كان مرتبطاً في المقام الأول بتجرد الرجال الأوفياء الذين عمل معهم في منطقة قَنتِّي وخارجها؛ لأنهم كانوا يؤمنون بأن للأوطان في دمائهم يد سلفت ودين مستحق. وعندما نتحدث عن إسهامات العُمْدَة إبراهيم في مجال التعليم، والصحة، والزراعة، لا نعني الرجل وحده؛ بل نعني البيئة الاجتماعيَّة الحاضنة التي عمل فيها، والرجال والنساء الذين ساندوه في تنفيذ مبادراته الخدميَّة والاجتماعيَّة النابعة من واقع بيئتهم المحليَّة، والقائمة على تفانيهم في العمل العام ونكران الذات.
ثانياً: كما أشار الأستاذ عبد المنعم عثمان علي في رثائه البليغ، إلى أنَّ العُمْدَة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك كان آخر زعماء الإدارة الأهليَّة في الولاية الشماليَّة، فهذه حقيقة تستدعي الوقوف والتأمل في هذه الدنيا الفانية. فالمرشد لمركز مروي الذي قدمه الإداري حسين محمد أحمد شرفي إلى رئيس وأعضاء مجلس السيادة أثناء زيارتهم إلى المديرية الشماليَّة في مارس 1957م، يعرض بين صفحاته قائمة من الإداريين والقضاة وزعماء الإدارة الأهليَّة في مجلس ريفي مروي، الذين عمل معهم العُمْدَة إبراهيم، بحكم منصبه الإداري والقضائي في عموديَّة قَنتِّي، ووضعه نائباً لرئيس مجلس ريفي مروي آنذاك، والذي كان يرأسه البكباشي عبد الله إدريس أبو الحسن، رئيس الإدارة الأهليَّة بفروعها الأربع في مركز مروي. ونذكر من الأسماء التي وردت في تلك القائمة: الحسن محمد أحمد كنيش، رئيس فرع الشايقيَّة جنوب، ويتبع له: محمد أحمد الصادق، عمدة أمري؛ والطيب الحسن، عمدة الحمداب؛ ومحمد أحمد الحسن كنيش، عمدة نوري؛ وعلي الحسن دكير، عمدة الدويم؛ ومحمد أحمد سيدأحمد إبراهيم، عمدة البركل؛ وحسن سعيد سمعريت، عمدة تنقاسي. ومحمد طه سورج، رئيس فرع الشايقيَّة شمال، ويتبع له: محمد الحسن الكاشف، عمدة الزومة؛ وحسن طه سورج، عمدة الأراك؛ ومحمد صالح بشير أغا، عمدة القرير؛ والحسن إدريس حليب، عمدة مساوي؛ وحسن إبراهيم الخير، عمدة السوراب الرُحَّل. ومحمد أحمد أبوشوك، رئيس فرع البديريَّة، ويتبع له: أحمد عمر كمبال، عمدة كُورتي؛ وإبراهيم محمد أحمد أبوشوك، عمدة قنتي؛ وعثمان وقيع الله، عمدة جلاس؛ وإبراهيم سليمان، عمدة كوري. وأحمد سعيد محمد فرح، رئيس فرع الفونج، ويتبع له: عبد الرحيم عبد الحليم، عمدة قوشابي؛ وميرغني حسن فضل، عمدة كرمكول؛ وسعيد ميرغني فضل، عمدة الجابريَّة؛ وسعيد أحمد سعيد، عمدة تنقسي؛ والشيخ جلي علي عيسى، عمدة عرب أمتو الرُحَّل. كل هؤلاء الرجال الأصفياء رحلوا إلى الدار الآخرة، ولم يورثوا خَلَفَهم ذهباً ولا فضةً، بل تركوا سجلاتٍ حافلةٍ بالعطاءِ والانجازِ، وذكرياتٍ عطرة يتداولها الناس عن إسهاماتهم الاجتماعية؛ ولذلك كان رحيل آخرهم، العُمْدَة إبراهيم محمد أحمد أبوشوك، يمثل رحيل جيل بكامل ملامحه السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. ألا رحم الله العُمْدَة إبراهيم، وكل جيل العصامين الذين عمل معهم بتفانٍ ونكرات ذات، رحمة واسعة، واسكنهم فسيح جناته مع الصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً؛ لأنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في خدمة أوطانهم، وتحقيق رفاهية أهلهم الأوفياء.

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء