عندما تحدث دكتور منصور خالد في ندوة حول الهوية الوطنية والتنوع الثقافي في السودان 10- 12 أبريل 2015، انتقد دور المحجوب وهو في شرخ شبابه (25) عاماً عندما كتب مقالاته في مجلة الفجر عام 1934 – 1935 ، وأوضح أن " المحجوب" لم يسهم في حل المأذق والمعضلة التي تسبب فيها الرق، من ظواهر مأساوية، في حين كان شريكه في جماعة الهاشماب "محمد عشري الصديق" يدعو إلى حداثة تبدأ من الغوص في الموروث بغية حل المأذق الذي تسببت فيه ظاهرة الرق والتنوع الثقافي. كان "المحجوب" يكتب أن الثقافة العربية الإسلامية هي التي يتعين أن تقوم عليها الدولة، متجاهلاً كم الأعراق والثقافات التي يزخر بها السودان!. * لا يستطيع " المحجوب" وحده وهو في العشرينات من عمره، أن يقود ولو فكرياً النهضة الحداثية المتقدمة، وليس لدى الوطنيين السابقين أيام المهدية من إرث، يستندوا عليه. فقد ولغت المهدية في عبودية البشر مثل غيرها، وكان بيت المال الذي احتله الإنجليز نهار 2 سبتمبر 1898 من بعد معركة كرري، يحتوي بشراً، مثلهم مثل الذرة والخيش والصمغ والبهائم.
(2) وثيقة زعماء الطائفية عام 1925 التي تقف ضد تحرير الرق!: {مارس 1925 الى مدير المخابرات الخرطوم نرى من واجبنا أن نشير اليكم برأينا في موضوع الرق فى السودان، بأمل أن توليه الحكومة عنايتها. لقد تابعنا سياسة الحكومة تجاه هذه الطبقة منذ اعادة الفتح .وطبيعى أننا لا نستطيع أن ننتقد امراً توجه كل العالم المتمدن لإلغائه، وهو واحد من أهم الأمور التى يُعنى بها القانون الدولى .على أن ما يهمنا فى الأمر هو، أن الرق فى السودان اليوم لا يمت بصلة لما هو متعارف عليه بشكل عام. فألارقاء الذين يعملون في زراعة الأرض شركاء في واقع الأمر لملاك الاراضي، ولهم من الامتيازات والحقوق ما يجعلهم طبقة بذاتها. ولا يمكن تصنيفهم كأرقاء بالمعنى العام المتعارف. وأهل السودان الذين ما زال لهم أرقاء فى الوقت الحاضر، انما يعاملونهم كما لو كانوا أفراد العائلة، بسبب احتياجهم المتعاظم لعملهم. ولو كان لطرف أن يتظلم الآن، فهم الملاك، الذين أصبحوا تحت رحمة أرقائهم .وكما تعلمون تمام العلم، فإن الهمَّل فى الظرف الراهن هو أقيم قضية. ويتتطلب علاجها الإهتمام الاكبر. فالحكومة والشركات والأفراد المهتمون بالزراعة، يحتاجون لكل يد عاملة يمكن الحصول عليها لتسهم في نجاح المشاريع. ولابد أن الحكومة وموظفيها قد لاحظوا خلال السنوات الماضية، أن أغلبية الأرقاء الذين اُعتقوا أصبحوا لايصلحون لأي عمل. إذ جنح النساء منهم نحو الدعارة، وإدمان الخمر والكسل. لهذه الأسباب نحُث الحكومة، أن تنظر بإهتمام في الحكمة أن تنظر بإهتمام في الحكمة من إصدار أوراق الحرية دون تمييز. لأشخاص يعتبرون أن هذه الاوراق تمنحهم حرية من أي مسؤولية للعمل والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيدهم، بما أن الأرقاء ليسوا عبيدا بالمعنى الذى يفهمه القانون الدولى، فلم تكن هناك حوجة لاعطائهم أوراق الحرية ، إلا اذا كانت هناك حوجة لاعطائها لملاك الارض الذين يعملون لهم .وأنه ولمصلحة كل الأطراف المعنية، الحكومة وملاك الأرض والأرقاء ،أن يبقى الأرقاء للعمل فى الزراعة، أم اذا استمرت سياسة تشجيع الأرقاء على ترك العمل في الزراعة والتسول فى المدن، فلن ينتج من ذلك سوى الشر .نتمى أن تأخذ الحكومة هذا الأمر بعين الإعتبار وأن تصدر أوامرها لكل موظفيها في مواقع السلطة، بأن لا يصدروا أي أوراق حرية، إلا اذا برهن الأرقاء سوء معاملة .
التوقيع: على الميرغنى الشريف يوسف الهندى عبدالرحمن المهدى 6 مارس 1925 } * كانت مرحلة الحكم الثنائي، مرحلة بدأت تنقشع سحابة الرق الفعلي، وصار الرق الثقافي بأحماله الثقيلة على المنبتِّين، نتاج اضطهاد المجتمع وظلمه الجائر تجاه، الذين خرجوا من بحيرة الرق ، وسقطوا في العبودية الثقافية، التي جرّت معها الكم الهائل من التفرقة العنصرية البغيضة.
(3) عندما كانت مجلة الفجر لصاحبها " عرفات محمد عبدالله" أثناء الثلاثينات من القرن العشرين، واستقطبت شباب الكُتاب. ومنهم السيد " محمد أحمد محجوب " و"محمد عشري الصديق" و"عبدالله عشري الصديق" و"التجاني يوسف بشير"و " محمد بشير فوراوي" . وقد كتب " محمد أحمد محجوب" ناقداً نُظم التعليم ووصفها برداءة المناهج ، وقد انتقد أساليب التربية الحديثة التي اتبعتها " بخت الرضا". وأشار إلى ضرورة دراسة التاريخ والجغرافيا المحليّة أكثر من دراسة تاريخ وجغرافية البلدان الأجنبية عامة. وأشار إلى إهمال التعليم الجامعي تحت ستار الإدعاء بأن السودانيين لم يكونوا مستعدين له بعد، واعتبر في نظره أمراً ضاراً بالمصالح القومية للبلاد . وقد كتب بالنص: { بلادنا الآن تقف في مفترق طريقين ، يؤدي أحدهما إلى الحضيض وهو الأمية أو ما فوقها بقليل . والثاني يؤدي إلى القمة وهي التعليم العالي . ولهذا فمُثلنا الأعلى للتعليم الذي ننشده لهذه البلاد هو التعليم الجامعي الذي يقوم على أساس متين من التعليم في أطواره الثلاثة الأولى} . :المصدر الفجر- المجلد الأول – عدد 12 – ص 530. وحذر مقال آخر لـ"أحمد يوسف هاشم " من مخاطر الانقسام بين السودانيين ودعا إلى الوحدة الوطنية. وحذر المقال من الآثار الضارة للقبلية ، التي أدت بالسودانيين إلى الكوارث في الماضي وفساد الأخلاق في الحاضر.وأن الإدارة الأهلية وصفها الكاتب التي قامت على النعرة القبلية والاريستقراطية الدينية وأنها مصدر الكثير من مصائبنا.
(4) وبعد رحيل " عرفات محمد عبدالله" عام 1936 أصبح " أحمد يوسف هاشم "رئيساً لتحرير مجلة الفجر. كتب عن أن أدب السودان في حاجة إلى الخصوصية الثقافية ، وعلينا تشجيع التعليم وخاصة التعليم العالي. وضرورة محاربة القبلية والطائفية والإدارة الأهلية. وبعد ستة أشهر أعاد سرد أغراض " الفجر" : 1. خلق وتحريك الشعور القومي والقضاء على سلطان القبيلة. 2. تكوين جبهة قومية متحدة. 3. محاربة الحزبية. 4. السعي للحكم الذاتي بصرف النظر عن تقرير السيادة. 5. مقاومة الإدارة الأهلية في شكلها الحالي ، إذ أنها لا تؤدي للحكم الذاتي. 6. المطالبة بالمكان الأول للسودانيين. 7. ايجاد نظام للتعليم كامل وصحيح.
أعيد نشر مذكرة " محمد عشري الصديق " عن التعليم التي بعث بها إلى لجنة اللورد " دي لاوير" التي زارت السودان عام 1937 لكتابة تقرير عن التعليم. وإعتبار المذكرة مطابقة للآراء التي دعت لها مجلة الفجر. ودلّت مذكرة " محمد عشري الصديق"، وقبله مقال "المحجوب" الذي تمت الإشارة إليه، على أهمية التعليم بالنسبة للطبقة المثقفة. واعترف "محمد عشري" بأنه وزملائه على صلة حميمة ووثيقة بالحضارة ومُثلها. إذ كانت هي المثل التي ترسَّمها المثقفين السودانيين. وكان " معاوية محمد نور" و" محمد عثمان القاضي " أكثر اقتناعاً في منتصف ثلاثينات القرن العشرين أن المستقبل في ظل وزارة المستعمرات، يعتبر أفضل حلّ لمشكلة السودان ، واتفقا على وضع السودان غير المُستعمر ضار للمثقفين السودانيين. وقد خشيا بأنه إن عجز البريطانيون والانتلجنسيا عن التعاون. فإن المجال سوف يكون مفتوحاً أمام زعماء القبائل الذين يتحكمون في الحلبة السياسية.
(5) ورد في موضوع ( الصداقة الفكرية ) الذي نشره محمد أحمد مجوب في 1 أكتوبر 1935 ، هذا النص : { ومعذرة أيها القارئ إذا حصرناها على الأدب الغربي ، وذلك لأننا ريد أن نوقف الناس على أشياء قد تكون جديدة عليهم ، وطريفة . وأول الصداقات الفكرية التي أحدثك عنها صداقة " جيتي " و" شلر" ، شاعري ألمانيا ، فقد تأصلت بينهما صداقة على الرغم من أن " جيتي " كان يكبر صديقه بسنوات عشر . والذي كسبه الأدب من وراء هذه الصداقة إشعال نار الحماسة والنشاط في نفس " شلر" الذي كان بائساً ومريضاً فأنعشته صداقة ذلك الشاعر العظيم ، ودفعته لأن يصدر خير تراثه الأدبي . وإنى لم تنتج صداقتهما سوى رواية ( وليم تل) وهي آخر رواية أتمها " شلر" في حياته لكفى ، وهي من الأعمال الأدبية ذات القيم الرفيعة . وأذكر أن صديقي الأديب " محمد عشري الصديق " نقلها إلى العربية عن اللغة الإنجليزية ، في ترجمة دقيقة ، ولكنها لا تزال سجينة في مكتبه كمعظم ما كتبه ، وذلك لضيق ذات اليد وفقدان الناشر .} ونشر أيضاً: { أخيراً أصبح الشباب السوداني يتناول آثار الكُتاب والشعراء المصريين بالنقد والغربلة ولا يقرأ أحدهم كتاباً إلا ويكوِّن عنه رأياً ، ويعرض هذا الرأي على معارفه وأصدقائه ، وأخيراً أصبح أدباء الشباب يجهرون بآرائهم في الأدب المصري على صفحات الجرائد والمجلات السودانية والمصرية . وإني لأذكر أن كتاب " صندوق الدنيا " للأستاذ المازني ، نقده صديقي الأديب " محمد عشري الصديق " نقداً نشرته السياسة الأسبوعية ، ولا أظنني مبالغاً إذا قلت إن ذلك النقد من خير ما قرأتبين المقالات التي كُتبت عن ذلك المؤلف ، على كثرة ما كُتب عنه . والذي ساعد على هذا الإتجاه الحسن ، هو إدمان بعض الشبان قراءة الكتب الإنجليزية ، كما يقرأها أدباء مصر البارزون . فهم يقرأون لأعلام الأدب الإنجليزي ، قديمه والحديث ، ويطلعون على الأدب الروسي والألماني والفرنسي والنرويجي عن طريق اللغة الإنجليزية . ويتناولون هذه الآثار الأدبية بالنقد والغربلة .} مجلة الفجر – المجلد الأول – العدد الثاني والعشرين - ( الصداقة الفكرية) 16 يونيو1935 * ووجهة نظر" المحجوب " حول الثقافة العربية الإسلامية : { ولكن الأمر الذي لا شك فيه ، هو أن الثقافة العربية هي الغالبة ، أو على الأقل هي التي تستحوذ على لب القارئين وتتأثر بها عقليات الكاتبين ، كما أن الدين الإسلامي الحنيف هو دين الأغلبية الساحقة في هذه البلاد ، وهو الدين الذي قبلته وتقبله قبائل الجنوب الوثنية بسرعة مدهشة ، ويتجاوب مع طبائعها ولا غرابة في ذلك فهو دين الفطرة " إن الدين عند الله الإسلام" } * واستمر: { وليس ذلك بكثير على بلاد تعاقب عليها ما تعاقب من الحضارات وانتشر بين ربوعها ما انتشر من الثقافات هي عصارة أممة مختلفة ، ونتيجة ثقافات متباينة ، عرفت الوثنية والمسيحية والإسلام وغلبت عليها أخيراً الروح العربية وعمّا الدين الإسلامي الحنيف وتمتعت بقطر مختلف الأجواء والمظاهر}
(6) يقول منصور خالد في محاضرته : { من الجانب الآخر تناول "عشري" موضوع الهوية القومية، لا بهدف إلغاء قومية صغرى أو كبرى، بل من أجل تنضيد كل مقومات القومية السودانية في عقد واحد. وصف "عشري" وطنه كما يلي " فالوطن هو بيتنا القديم وهو مهد آبائنا وأجدادنا، وهو قبرهم الذي يضم عظامهم ، صحبوه في أيام الرخاء وفي أيام البؤس " ( آراء وخواطر ). كان "عشري" أيضاً داعية للتجديد فالمجددون عنده هم " الذين يضعون أسس المدنية وينشئون صرح الحضارة وهم الذين يمهدون الوسائل والأسباب. قال "عشري :" ولقد كانت بلادنا منذ ثلاثين سنة ميداناً واسعاً تدور فيه رحى حرب ضروس يُنهب فيها الآمن، ويشنق البرئ، ويقتل الأطفال والنساء، ويشرَّد الرجال في القفار، وتهدم الدور، ويبلغ الكساد درجة ما دونها درجة. ولاتزال ذكريات تلك الأيام عالقة بالأذهان ، ولا تزال بقايا زرائب الرقيق تدل على العديد من أؤلئك الأبرياء الذين كانوا يساقون إلى الشقاء والموت "} وهذا ما سماه دكتور منصور الغوص في الموروث إن أردنا انتقالاً للحداثة .
(7) وينتقد دكتور "منصور" "المحجوب" قائلاً: {تلك الدولة تنصرت في عام 543م وبقيت على دينها ذلك حتى عام 1504م . أليس من الغريب حقاً أن يذهب أي مفكر سياسي شمالي في معرض تحليله للمقومات الثقافية السودانية إلى تغييب فترة هامة من تاريخ بلاده !} تحدث منصور عن تاريخ"المحجوب" و"عشري" : { مدرسة الهاشماب ضمت نخبة متميزة من المثقفين ( عرفات محمد عبدالله ، عبد الحليم محمد ، السيد الفيل ، محمد أحمد محجوب، والأخوان محمد وعبدالله عشري الصدّيق ، من بين آخرين ) ولكن يتبادر إلى الذهن من تلك النخبة شخصان : محمد أحمد محجوب ومحمد عشري الصديق . كلا الرجلين نبغ في المجال الدراسي : عشري " الهندسة " ومحجوب " الهندسة ثم القانون" ؛ كلاهما صاحب قلم مبين . كان المحجوب من أشعر أبناء جيله ، وكان عشري من أنثرهم . كلاههما أيضاً نميا في حي واحد ( الموردة – الهاشماب )وإن كان نموهما في بيئتين مختلفتين ، فحين كان المحجوب سليل أسرة شمالية ذات باع طويل في الدين برز من وسطها قائد مهدوي مرموق، إلا أنه أيضاً كان نخاساً معروفاً ( الأمير عبد الحليم ود مساعد). كان "عشري" من سلالة الشلك. جاء بأهله الرق من أعالي النيل إلى الوسط النيلي .لا يعنينا في مجال حديثنا الراهن نثر هذا أو شعر ذلك، كما لا يعنينا الأصل العرقي لهذين المعلمين الهامين في تاريخ النخبة المثقفة في سودان الثلاثينات، إلا بالقدر الذي يبين وعي كل منهما بالمأذق الذي أوقع فيه الرق ، من بين عوامل أخرى السودان. ورؤيتهما لطرائق الخروج من ذلك المأذق. وبما أن كلا الرجلين كانا ينتميان لمدرسة فكرية واحدة ( مدرسة الهاشماب) وحزب واحد من بعد ( حزب القوميين)، فمن المفترض أن تكون نظرتهما للقومية واحدة} ( الحركة الفكرية في السودان) – نشر في شكل كتيب عام 1941 المراجع: - محاضرة دكتور منصور خالد حول الهوية الوطنية والتنوع الثقافي في السودان أبريل 2015- الشارقة - المحجوب : نحو الغد – مطبعة جامعة الخرطوم ، 1970 - محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية.