قلتُ لنفسي: دعنا نفترض أن لدينا الآن دولة ، والانقلاب العسكري وسيلة للهيمنة على الدولة. ومن الضروري أن تُمثل الدولة هيمنة طبقة أو طبقات وسيادتها الاقتصادية. وتلك الطبقات سينضوون تحت سلسلة أيديولوجية، على رأسها شعارات: الدّين، الأخلاق ، الشريعة. وبناء عليه تمّ إعادة تكوين الطبقة الجديدة بفئاتها المُتعددة، لتتحكم في المجتمع ثم الاقتصاد في نهاية المطاف. ولن يعني تسلم السلطة السياسية، بدون سلطة الاقتصاد كما أرادها الإخوان المسلمين. ظروف " التقيّة" أجبرت التنظيم لينتظر عاماً ونصف العام، ليعلنوا عن أنفسهم وأيديولوجيتهم . فقد صبروا على أن يبدو انقلابهم وكأنه انقلاب فئة إصلاحية.
(2) منذ منتصف العام 1989، بدأ ما يطلق عليه نهج إعادة صياغة جديدة للطبقات التي تحكم المجتمع والاقتصاد. وذلك بقيادة الدولة السودانية الجديدة التي بدأت بالانقلاب الذي أعدّه تنظيم الإخوان المسلمين. طبقات جديدة تتسلق من أسفل السلم إلى أعلاه ، وتزيح طبقات راكمت ثورتها بعصامية وخدمة الإنتاج، من الفقر إلى الغنى .معظم أبناء وبنات التنظيم كانوا من الطبقات الفقيرة، جاءت بهم السلطة الجديدة وصعدت بهم إلى مصاف الطبقة المهيمنة اقتصادياً عبر قرارات تجاوزت تاريخ السلطة السودانية أيام سلطة (25) مايو، عندما حاربت التجار والرأسمالية الوطنية سلطة ذاك الزمان، فأغلق التُجار محالهم وهاجروا لمصر. وانتقلت تبعاً لذلك (18) مليار دولار إلى اقتصاد مصر!.
(3) استوعب تنظيم الإخوان المسلمين درس الأمس. فهم في حاجة لاقتلاع أسنان الطبقات التي كانت تقبض على اقتصاد البلاد والمجتمع ، فقرروا لذلك سبيلين: الأول: بفرض ضرائب جزافية، عشوائية، فوق المعدلات. وذلك كما صرّح وزير ماليتهم في بداية تسعينات القرن العشرين، بأنهم أرادوا أن يعرفوا حجم النشاط الاقتصادي لتلك الطبقات العليا المسيطرة!. وسلكت السلطة ذلك السبيل حتى توقف النشاط التجاري والاقتصادي لتلك الطبقات. وسارت سياسة الدولة في ذات الوقت نحو مدّ الطبقة الجديدة المنضوية تحت لواء التنظيم بقروض من البنوك دون التدقيق على أهليتها وضماناتها، وذلك لبدء نشاطها الاقتصادي والهيمنة الكاملة على مفاصل الاقتصاد، مع إعفائها من الضرائب والمكوث، وتشكيل " محكمة الضرائب " لضرب الطبقة السائدة، وحماية الطبقة المتكونة حديثاً. وقامت الدولة بإعداد مناقصات لأعمالها، مع خصم عُمولة لصالح ميزانية التنظيم. وخلط التنظيم بين مهام أعضائه المُعينين، وإمكانية استقلالهم بأنشطة اقتصادية خاصة، عبر سياسة تمكين المُنتمين للتنظيم من السيطرة على الوظائف العامة والاقتصادية الخاصة.
(4) الثاني: بما أن هناك طبقات تمكنت من التكيّف مع قرارات السلطة الجديدة، فقد بقي عناصر غير مُنظمة، فجاء كبيرهم الذي علمهم السحر، بفرية " تغيير العملة". وكانت الدعوة التي روّج لها النظام، أن هنالك تسريب لعملات محلية خارج الدولة. وتلك دعوة كاذبة، لأنه ليس هنالك فائدة يجنيها المرء من تهريب عملة محلية لخارج السودان، وليست هنالك عملات معدنية من فضة ليتم تهريبها من السودان لمصر، وتفقد العملة السودانية قيمتها في أي دولة تجاور السودان. وهي حيلة ابتكرها عرّاب التنظيم، لجمع الأموال من كل الناس، وأعلم التنظيم المُنتمين إليه بأنه لن يغير فئة الخمسين قرشاً وفئة الجنيه، وبذلك أتاح لعضوية التنظيم فترة كافية للاحتفاظ بنقود تكفي لتكوين ذخيرة شرائية لما ستكون عليه الحال. * وعندما بدأ إجراء تغيير العملة، تم مصادرة العملة القديمة، وتم مباشرة فتح حسابات بنكية، وللحسابات التي تتجاوز مبلغ 100 ألف جنيه، يتم مصادرة 25% من المبلغ دون سبب. ولا يتم صرف إلا (5) ألف جنيه نقداً كل أسبوع من كل حساب، ليتمكن التنظيم من السيطرة على النقد. وبذلك تمكن التنظيم من مصادرة كل الأموال، في حين كان للأفراد الذين ينتمون للتنظيم قدرة هائلة على الشراء بعد أن انخفضت أسعار المواد والأراضي. وقدم التنظيم سراً لأعضائه تمويلاً، صعدت بواسطته طبقة جديدة إلى السطح وهيمنت. * كان عرّاب التنظيم يهدف ثانياً لجمع الأموال للبدء في استخراج خام البترول بأي وسيلة، تمكن التنظيم من وقف التدهور الاقتصادي، بعد أن عادى التنظيم كل دول العالم . ويتم سب رؤساء الدول منذ انتهاء أخبار السادسة والنصف صباحاً في الإذاعة السودانية كل يوم. وفتحوا قنوات مع سلطة صدام حسين في العراق، بعد أن وقفوا مع العراق في احتلال الكويت. وتضررت الجالية السودانية في الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر . وقامت سلطة صدام في العراق بتوريد البترول للسودان بسعر تفضيلي، وتم تنفيذ مصنع طبع العملات تحت إشراف عراقي.
(5) نمت طبقة جديدة من أبناء وبنات التنظيم، بديلاً للطبقات التي سادت اقتصادياً. وأشرنا لكيف تم " تجنيب " نسبة معينة من " الرشوة " التي تُستقطع من كل الفائزين بالمناقصات الحكومية، لصالح التنظيم. وتم إيداع الأموال باسم أفراد خارج السودان، بعد تحويلها إلى عملات صعبة. وبذلك اكتملت عملية النصب والسرقة المؤسسة لمنْ يدّعون النقاء والأمانة والطُهر، تلك الأفعال قام بها أفراد تنظيم الإخوان المسلمين لصالح أنفسهم أولاً، ثم بعد ذلك التنظيم. تم ابتداع نزوة اسمها " التفويض "، وهي منح الوظائف التي يتم تعيين المُنتمين للتنظيم، كامل " التفويض "الإداري والمالي ، ليتمكن الشخص من كسر كل الحواجز الإدارية والمالية، من أجل تسخير وظائف الدولة القيادية لمصلحة الأشخاص ومن ثم ميزانية التنظيم. وتم تخصيص الوظائف القيادية ووظائف ضباط القوات النظامية والسلك الدبلوماسي والقضاء، خالصة لأبناء وبنات التنظيم. ومن أجل التمسك بالسلطة، تم التصديق بالسجن والتعذيب والقتل لكل المعارضين للتنظيم .وتم فتح الباب بأذرعه للتنظيمات الدينية الجهادية المتطرفة، وشاركت في السلطة وفي تنظيماتها البرلمانية الصورية. وأضحت البلاد فسحة لأبناء الحركات الدينية الجهادية المتطرفة، من كل دول العالم. واعتذر التنظيم عن كل إعلانات العداء السافرة للولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تم تضييق الحصار على السلطة السودانية. وقدمت السلطة طائعة الاستفتاء لدولة جنوب السودان على صحن مُذهب، بغية فك الحصار، وذهب 80% من البترول لصالح دولة الجنوب، ولم يتم إعفاء رئيس الدولة من المساءلة الجنائية، التي بصم على استئصال أهل دارفور في أكثر من " يوتيوب ".
(6) اليوم فقد السودانيون ثقتهم في البنوك ، وفي توفر السيولة النقدية. و لجأ البعض إلى توفير ملاذات آمنة في بيوتهم . ومهما تم طبع أوراق نقدية، فإنها ستختفي. تم شل الاقتصاد، بعد أن انهار مبدأ التصدير، فلا يُعقل أن يتم التعدين الأهلي للذهب، ولا يعقل أن ينهار مشروع الجزيرة ومشروع السكك الحديدية البالغ طولها 5500 كيلو متر. في حين يتم توزيع أراض لمواطني دول أجنبية لزراعة البرسيم المُهلك للتربة!. والذهب الذي يتم تصديره يصادره التنظيم !. * عندما كان مشروع الجزيرة يعمل بسعة 2.5 مليون فدان، كان يعمل فيه 4 مليون نسمة ، اليوم يسكن العاصمة القومية، ما بين الثلث إلى نصف عدد السكان في السودان، في مساحة لا تصل لعدد 02 % من مساحة المتبقي من السودان. وتم تحويل كل الأراضي الزراعية بالعاصمة إلى أراض سكنية، وهي مباني غير منتجة ولا تسهم في اقتصاد البلاد.
(7) خيوط الحلّ للوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي البئيس، يتعين أن تتركز في رحيل النظام الحالي ، وتكوين سلطة انتقالية تضم الفئات التي لم تتلوث بشراكة النظام الحالي. وإلغاء قوانين الشريعة وعودة القوانين إلى قبل سبتمبر 1983. وإعادة النظر فيهيكلية النظام الديمقراطي الذي يناسب بلد كالسودان، وإعادة النظر في الحكم الإقليمي وعودة مركزية السلطة لمرحلة مؤقتة، وتخليص القوات النظامية والدبلوماسية والقضاء والخدمة المدنية. وتخفيض سلطات الأقاليم، وتعيين وزير مركزي للاقتصاد ونوابه في الأقاليم ،ويكون نائباً لرئيس السلطة المركزية، لتطوير الاقتصاد من الصفر إلى التصدير بصورة علمية،ووقف الأتاوات الضرائب غير المبررة والتي أعجزب المنتجين ، مع توفر الشفافية والعدالة وأن يشغل الوظائف من يتمتعون بالكفاءة .