( في 21 نوفمبر الجاري بلغت الفنانة اللبنانية فيروز عامها الثالث والثمانين/ الثمانون . ادناه مقال من الارشيف تحية لها ومشاركة متواضعه في الاحتفال مع محبيها الكثر ) عبد العزيز
قبل عام، نوفمبر 2006، تنادي عدد من المثقفين العرب لتثبيت تاريخ ميلاد الفنانة اللبنانيه فيروز الذي يحين في 21 من هذا الشهر عيدا قوميا وذلك بمناسبة عيد ميلادها السبعون. الي هذا الحد بلغ الاجماع علي خصوصية مكانتها في المشهد الغنائي العربي. والحق ان فيروز ضمن الظاهرة الرحبانية الموسيقية والشعريه، تستحق مثل هذا التقدير فهي تجسيد حي للفن الرفيع. وفي وقت ينصرف فيه قطاع كبير من الشباب السوداني والعربي الي فن غنائي استهلاكي محمولا علي موجة الفيديو كليب العارمه ويهيم قطاع اخر في عالم المحرمات والفتاوي محمولا علي موجة تزييف المديح بترخيصه فنيا وتحويله الي سلعه، تشتد حاجتنا الي الفن الراقي الذي يهذب الوجدان ويسمو بعواطف البشر ومشاعرهم بقدر حاجتنا الي الفكر السديد والسياسة التي تحترم العقول والافهام. ومما لاشك فيه ان بؤر الاستناره والوعي الديموقراطي التي بدأت تتفتح في الحياة السياسية سودانيا وعربيا بعد طول مكابدة وعناء تحتاج اكثر من غيرها الي المناخات التي يشيعها نوع الفن الفيروزي- الرحباني لانه يساعد في خلق الانسان المتفتح عقلا ووجدانا فهو عدتها الرئيسية في انجاز مهمتها الصعبه استثناء في المرحلة الراهنه.
حتي وقت قريب كانت حدود المعرفة السودانية بالعطاء الفني الفيروزي لاتتعدي غالبا قصيدة جبران خليل جبران " اعطني الناي وغني " واغنية " زهرة المدائن " مع ان حصيلتها تبلغ بالتقريب الف اغنيه واربعة عشر مسرحية غنائيه. الان يبدو ان النزوح السوداني الدراسي والمعيشي والعلاجي الي سوريا ولبنان والاردن، اضافة الي اتساع رقعة تأثير دراسي الموسيقي محليا، وسع دائرة متذوقي فن فيروز- الرحباني، بل ان فنانتنا العظيمه امال النور أدت احدي اجمل وارق اغنيات فيروز " حبيتك بالصيف " بشكل مثير للاعجاب، وذلك مع الفاتح حسين، احد ابرز رواد التحديث الموسيقي لدينا. يدعو هذا المقال هؤلاء جميعا للاحتفال بعيد ميلاد فيروز هذه الايام كل بطريقته الخاصه او في مجموعات قد تولد منها في مقبل الايام " جمعية اصدقاء/محبي فيروز- الرحبانيه " لتساهم بطريقة منهجية في افساح مجال اكبر في الذائقة والثقافة الموسيقية والغنائيه السودانية لهذا النمط من السلم السباعي، الي جانب المصري والخليجي. الانتاج الفني الرئيسي لفريق فيروز ( اسمها الحقيقي نهاد حداد ) والاخوين عاصي ومنصور الرحباني ( بدا حياتهما كشرطيين محليين ) الذي تشكل اواخر الاربعينات هو الدراما الغنائيه، تطوير لفن المسرحية الغنائيه تتكامل فيه عناصر الغناء والموسيقي وخطوط الصراع الاجتماعية والسياسيه الفردية والجماعيه. صوت فيروز النادر المثال الذي يرق في الطبقات المنخفضه حتي يكاد يصبح اثيريا شفافا ويحتفظ بقوته في الطبقات العليا عذوبة صافيه، يتحول في هذه الاعمال الدراميه الي الة موسيقيه متناغمه في اوركسترا كما تبرز فيروز الممثله غناء وحوارا ولغة جسد. هذا هو التطور الحاسم والهام الذي ادخله فريق الرحبانية- فيروز علي فن المسرح الغنائي العربي الذي ظهر في مصر اولا ولكنه لم يتسنم الذري التي وصلها مع هذا الفريق. استمد الاخوان رحباني مادتهم من البيئة اللبنانية والشامية اجتماعا وسياسة وفولكلورا وتاريخا واساطير وصاغوا نسيجا دراميا ينبض بقيم الجمال والخير والحريه الانسانيه في اعمال متنوعة بعمق متفاوت بعضها معقد التركيب مثل " ايام فخر الدين " واخري بسيطة التركيب مثل " صح النوم " تدخل فيها الموسيقي كعنصر تعبير مباشر عن تطور الاحداث او تعميق للاحساس بها لدي المستمع او المشاهد وتحتل فيروز مركز القلب فيها اداء غنائيا وتمثيليا دون ان يخل ذلك في اغلب الحالات بالتوازن بين عناصر العمل المختلفه. هذه السيدة الدقيقة الحجم المعتصمة بالصمت الاعلامي التام خارج المسرح علي حياة شخصية لاتخلو من الماسي (ابن شاب معوق وفاة الزوج عاصي وابنة شابه) تملأ المسرح بحضور طاغ في ادائها الغنائي- التمثيلي لاسيما في مشاهد وحوارات السخرية والفكاهه، احد تلك العناصر التي يبرع فيها النص الرحباني شعرا ونثرا بأمتاع خالص دون تضحية بالضرورة الفنيه. فاتته متعة العمر من لم يستمع لصوت فيروز في مسرحية " صح النوم " محلقا بشعر الرحبانيه وموسيقاهما وهي تحاول اقناع القمر بعدم الظهور، وهي فكرة طريفه ولكنها مجنونه لاتخطر الا لعبقري تعميقا لمعني موقف بالذات في المسرحيه. الفريق الرحباني-الفيروزي قدم اعمالا فنية مباشرة للقضايا العامه في فلسطين ولبنان وسوريا الا ان قيمته الكبري الباقية في خدمة حركة التقدم خلال المرحلة الماضيه كانت في اعماله غير المباشره المنطوية علي النقد الاجتماعي والسياسي في اطار فني يرتقي بحاسة التذوق الجمالي الشعري والموسيقي للافراد والجماعات. ولابد من اشارة هنا الي اسهام الناقد الموسيقي نزار مروه، ربما اول ناقد موسيقي عربي بالمعني الصحيح للكلمه، في رعاية الظاهرة الرحبانية وتقويمها. نزار المتوفي عام 1992 هو ابن المفكر الماركسي المعروف حسين مروه الذي اغتالته اجواء وايدي التطرف الديني عام 1987، لم يتوان عن وضع معارفه الموسيقية العلمية الثره في خدمة الانتاج الفني لفيروز والرحبانيه محللا ومؤشرا للعيوب ونقيضها ولعب بذلك دورا هاما في الدرجة الرفيعة التي وصلها. مع ابنها الاخر زياد الرحباني واصلت فيروز المشوار الرحباني بصوت ظل محتفظا بقوته وصفائه الي حد بعيد مقاوما فعل الزمن وويلات الحرب الاهلية التي زلزلت الكيان اللبناني الوديع منذ منتصف السبعينات ولخمسة عشر عاما. بقيت فيروز مقيمة في لبنان واتخذ نشاطها المتقطع بالضرورة شكل احياء حفلات خارج لبنان قدمت فيها مجموعات من اغانيها وازدادت وتيرة نشاطها مع عودة الهدوء الي البلاد حيث اضيفت لحصيلتها مجموعة اغنيات من انتاج ابنها زياد. في تعاونه مع والدته علي المستوي الاول القريب من الاصل الموروث عن الوالد والعم تولي الرحباني الصغير اعادة توزيع بعض اغنيات فيروز، ثم مسرحية " صح النوم " اخراجا وتوزيعا التي قدمت في ديسمبر الماضي بعد اكثر من ثلاثين عاما منذ عرضها الاول. غير ان التعاون علي المستوي الثاني القائم علي الانتاج الذي يعكس خصوصية شخصية زياد الفنية هو الذي فتح افقا فيروزيا جديدا حقا، فالرحباني الصغير خلطة مواهب من التأليف الموسيقي والمسرحي والشعر الغنائي والتمثيل والاخراج معجونة بكمية كبيرة من حس المغامرة والابتكار والتجريب. في تفاعل ديناميكي مع المرحلة العربية واللبنانية الجديدة المتميزة بالقلق وتلاشي القديم دون تبلور كامل للبديل، يكتب زياد شعرا غنائيا فيه شقاوة وعبث وبساطه او هكذا يبدو فلا تدري ان كان يسخر من الحب ( اغنية كيفك انت ) واهل الريف ( اغنية البوسطه ) واليسار ( مسرحية نزل السرور ) ام يسخر من تصوراتنا التقليدية لهذه المواضيع. في هاتين الاغنيتن وغيرهما دخل صوت فيروز تجارب جديده لاتألفها الاذن القديمه ولكنها مثيرة وممتعة بطريقتها. ونبقي موعودين بتجارب جديده يعتقد كاتب هذا المقال ان اهمها ينبع من ان زياد الرحباني طور مزيج السخريه والفكاهه الموروث من عاصي ومنصور بحيث اضحي رسام صور كاريكاتيرية تقول وتوحي بالكثير بالموسيقي مثلما بالشعر. وهو بعد ايضا كاتب مقال صحفي وممثل ادوار كوميدية صغيره تطيح بوقارالوقار نفسه ضحكا وعضو في الحزب الشيوعي اللبناني. أي كوكتيل هذا ؟ نتمني للسيدة فيروز في عيد ميلادها الواحد والسبعين طول العمر ومزيد الابداع وللبنان النماء والاستقرار وهو يحتفل بذكري استقلاله الذي يصادف عيد ميلادها ليعود واحة للتنوير والديموقراطية والثقافه والفن، وشكرا لشعبه وتاريخه الذي انجب هذه الموهبة العظيمه.