في تذكّر المطرب هاشم ميرغني … بقلم: عبدالله الشقليني

 


 

 

 

 

 

alshiglini@gmail.com

( أبكي يا عيني دمعة ما تخليها فيكِ )

لا تكفي أدمُع العاشقين ، ولموجات الحزن أن تضرب شطئان الحياة ، حين علمنا أنه قد فارقنا.
تأجل الزفاف الذي آن أوانه.
ولم تكتَمل فرحة العاشقَين الجُدُد يوم غيابك الأبدي .
انطفأت الثُريات واندلقت قِنان الطيوب، فالأجساد لمَنْ تتعَطر ؟
تعوي كل كلاب الدُنيا، فهاشِمٌ ميرغني قد رحل .
ترمَّلت الأغنية العاشقة، لبست السواد وقالت :
( يا ريت هَواك لَي ما انقسم ) .
يا سيد العُذوبة والنضار.
يا قِبلة العاشقين الذين تخضّبت مشاعرهم بنقشك الفخيم . خفّفتَ أنت علينا حِمل أن نتحدث فصيحاً في العِشق . شَققت صدورنا وغرزت زنبق الماء بحُمرته، والشقائق بأرجوانية ألوانها ونثرت عِطر البنَفسج .
علمتنا كيف نتخفى من وراء إفصاحك العاطفي الثري، فنُهدي غناءك لمن نُحب . ألجمتنا سكون الرهبة ومُتعة أن نستمِع وأنت تشدو إنابة عَنَّا. في كل شيء.
عَلِق غَيمُكَ في سماوات الجفاف، وأمطرتَ لؤلؤياً جمَّل أيامنا .
أنتَ تعرف أننا لا نُتقِن أن نُزين المحبة بالكلام المعسول، ففَرو البداوة لم يزل مستوطِناً فينا، لم تهُزه أعاصير الزمان ولم تُزحزحهُ حجارتها الثقيلة . كنتَ سيدي وَجهنا عندما نقرأ أوراد التمنِّي ، وسلطاننا عندما يخفُق القلب من وهج اللحظة، والمتحدث الرسمي عنا في محافل الهوى والعشق.


(2)
لديَّ قَريبةٌ من أهلي، لا أعرف ما الذي يكون قد حلَّ بها عند سماعِها نبأ رحيلَك . لم أعرف ماذا حلّ بها أو ماذا ستكون أيامها اللاحقات، فأنا الآن بعيد عن الجميع أتخفى بين أحراش المهاجر و أعتصر الألم وحدي وأتذكر أهواء القصص وهي تذكر المعارك ومكرها ، ولفائفها الملفوفة كالعرائس ، وباطنها من قبله العذاب. قبل عقد من الزمان وأكثر كنتُ بجوار قريبتي و وزوجها وهما على مسير ساعة زمان من بوابة العسل. بينهما وبين العُشرة الحميمة أن أوصلتهما إلى دارٍ للصفاء بسكنها من بعد زحام الأهل والمهنئين. كنت أنت سيدي سامر ليلنا، بغنائكَ كنتَ دوحةً تُكسر غرابة عالمهما الجديد. ينظُران لبعضهما صامتين وأنت تُسرِف في التفاصيل الحنينة، مالكاً أنتَ السَّمع والفؤاد. أغشت الأبصار ما أغَشت و الدُنيا حولنا طيِّعة ترقُص، صنعتها أنتَ لنا من حفرِكَ في زُخرُف أشجاننا بألحانك الواجِدَة وكلماتك الرفيقة بالعاشقين. تصنع من الحُزن بُكائية فارهة، تُغسل أنفُسنا مما بها . تغوص ماهراً في عميقِ بحارنا ، حتى هبطت علينا الصواعق، تبكيكَ :

يا زمن ما بتنسى أصلَك
حالتي قايلَكْ إنتَ نَاسي
لا بتَجِيب الفَرحة عُمرَك
لا مرَّة هَوّنتَ القواسي

أو حين تتدفق ألحانك تحنُو، وتغدق عليها من فيحاء جِنانك، فنلبس نحن ثياب العاشقين اليتامى نبكي لبُكائهم، عندما كتب الشاعر :

لمَّا نِحنا بَدينا ريدنا
أصلوا ما قَايلِين بِنَشقَى
كُنا قَايلين قدر نِيتُو
كل زول في الدُنيا بِلقى
تاري لمَّا دُروبنَا لمَّتْ
لينا كانت خَاتَة فُرقَة
وأصلوا ما قايلين حَنانَكْ
يا زمن بِتشيلُو حُرقَة
أبكي يا عيني فُراقَا
دَمعة ما تخليِّها فيكِ
والزمان الشَالة مِنِكْ
تَاني شِن خَلاهُو ليكِ

ألف سلام عليك في مراقد الجنان الوارفة بإذن مولاكَ. تأتيك ما تشتهي الأنفُس، و تُغرد من حولك عصافير الأفنان تُذكِّرك بفعلِكَ فينا.
فلتهنأ الأرواح هائمة بسامرها الطروب .


(3)
كتب هو رسالة في ورق السماء الزرقاء للشاعر " محجوب شريف" ولم تزل روحه باقية بيننا:

أستاذي وملاذي الرجل ذو التكوين الثماني الابعاد. الرجل الذي اعتاد أن نقرأه بعد أن نناديه من دواخلنا، لأنه يجيد قرائتنا، فيقول ما نعجز أن نقول، ويحس ما نحتاج لوخز مؤلم لنحسه. أستاذي، قصر قامة الحروف معنى لتقزّمها أمام من تخاطب. وشاهق علو المخاطب، يدفعنا للمحاولة برغم فارق السطر وبهتان المداد. أستاذي وانت تخاطب فلذاتنا وترسم صورة شعرية مرئية تماماً لما نحسه تجاههم. وأملنا في أن تثمر رعايتنا وتؤتى أكلها. لقد أصبت مني ليس مقتلاً، كما يقال ولكن مؤتملاً في أننا بالأمل نُحرك كوامن الآخرين بما يحسّون. ولا يعبّرون إلا من خلال قلم لديك، تُحركه إشارات عقل. وتلمهمه أمانة الرسالة. نقاط حروفك أعين لمعنى يظل كفيفاً أبداً إن لم ننظر من خلالك، الي رقّة التخاطب، حين تغيب عنا سلاسة الأسلوب، فنحكي من خلالك وبك. وبك نرتاح من همّ كلام لم نقله ومن همّ قافية أعيت فينا المحاولات.

أستاذي، يقولون لليل شوق لبعض السُحب التي تريحه قليلاً من النظر الى القمر طويلاً. وها قد كسرتْ الإنتظار. ووجدت مساحة صغيرة حملت اليك إعجابي وولائي وتتلمذي.


هاشم ميرغني

(4)
مضت اثنا عشر سنة ، منذ غياب روحه الأبدي . ولم تزل آهاته تون في تلافيف أذني الباطنة ، تسأل عن حرمان المُحبين ، ولم يعاني من ذلك الحرمان . كأنه يشترك مشاعرهم ، وهو في نيزك بعيد ، يدلف في ليل السابحين بذكرهم . لو كان بيننا ملك من أساطين المتصوفة مثل الشاعر ( ود الرضي) لقال :

شفتَ في الأحلام ظبي يتهادنْ
برخيم نغمات خلي تنادنْ
عبرات الشوق بي ازدادنْ
تلكنم أحلام ليت تمادنْ
ليالي الخير جادن
*

عبدالله الشقليني
12ديسمبر 2018

 

آراء