لم يكن مشروع الهدم الذي بدأ به الإخوان المسلمين، إلا ليزيل صرحاً من صروح الوطنية، درر " مؤتمر الخريجين " التي تناثرت أنجم تزين مدن السودان بياقات الوطنية. بيضاء كانت الوطنية مثل لبن الحليب. لم يكن أصحابها جيلاً فاشلاً، كما ظللنا نسمع طنين آلات الإخوان المسلمين الصماء وإعلامهم الأسود. يريدون أن ينالوا ثأرهم التاريخي، ليس ضد المستعمر، بل ضد رموز مقاومته الوطنية الضاربة في القدم. هدموا وغيروا دور مؤتمر الخريجين كلها. لا زلت أذكر أيام الخميس من كل أسبوع ،كنا نحضر محاضرة اسبوعية مسائية يقيمها الدار، ويرأس الندوة أو المحاضرة، الرجل المثقف " عبدالله حامد الأمين "، بنوره الذي يسطع من كرسي مقعده، ينير الطريق الثقافي، ويزيح عنه وعثاء السفر الشاق بلغته الرصينة.
(2) يحق علينا تنوير جيل الثورة، بقبس من ألمعية جدودهم، الذين أفنوا زهرة حيواتهم من أجل الوعي. وقد بدأ "مؤتمر الخريجين " بمذكرته الوضيئة إلى الحاكم العام عام 1942. واحتوت المذكرة البنود الآتية، حسب ما أوردها البروفيسور" محمد عمر بشير" في سفره باللغة الإنكليزية ( تاريخ الحركة الوطنية):
1. إصدار تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنكليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وإحاطة ذلك الحق بضمانات تكفل للسودانيين الحق في تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر, باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني. 2. تأسيس مجلس أعلى للتعليم أغلبيته من السودانيين وتخصيص ما لا يقل عن 12%من ميزانية الدولة للتعليم. 3. تأسيس هيئة تمثيلية من السودانيين لإقرار الميزانية والقوانين. 4. فصل السلطة القضائية من السلطة التنفيذية. 5. إلغاء قوانين المناطق المقفولة، ورفع قيود مزاولة التجارة والانتقال داخل الأراضي السودانية عن السودانيين. 6. وضع تشريع يحدد الجنسية السودانية. 7. وقف الهجرة إلى السودان فيما عدا ما قررته العاهدة الإنكليزية المصرية. 8. عدم تجديد عقد الشركة الزراعية بالجزيرة. 9. تطبيق مبدأ الرفاهية والأولوية في الوظائف وذلك أولاً: بإعطاء السودانيين فرصة الاشتراك الفعلي في الحكم بتعيين سودانيين في وظائف ذات مسئولية سياسية في جميع فروع الحكومة. وثانياً: قصر الوظائف على السودانيين. أما المناصب التي تدعو لها الضرورة لملئها بغير السودانيين فتملأ بعقود محدودة الأجل، يتدرب في إثنائها سودانيون لشغلها في نهاية المدة. 10.تمكين السودانيين من استثمار موارد البلاد التجارية والزراعية والصناعية. وضع قانون بإلزام الشركات والبيوتات التجارية بتحديد نسب معقولة من وظائفها للسودانيين. 11.وقف الاعانات لمدارس الإرساليات وتوحيد برامج التعليم في الشمال والجنوب. * لم يكن " مؤتمر الخريجين" إلا وثبة ضد المستعمر، وكانت مذكرته السياسية رصينة تتحدث عن تملك السودانيين لقرارهم السياسي والتعليمي والاقتصادي، وكل محاولة لتصوير "مؤتمر الخريجين "وكأنهم أذناب المستعمر، أو أنهم أداة تغريب ضد العروبة والتأصيل، كله كذب وتدليس. فاللغة العربية وثقافتها جزء من مكون شريحة من الثقافة السودانية وهي جزء من فصائل هذه الأمة، وهناك أجزاء من هذه الثقافة السودانية تتمتع بها بقية الشعوب السودانية غير الإسلامية وغير العربية أيضاً ،في تنوع فريد وهي عنصر إيجابي، فوق ما تروّج له حركة الإخوان المسلمين.
(3) نورد جزء من قصيدة الشاعر " الهادي آدم " بعنوان " العيد الذهبي لمؤتمر الخريجين" في وقت جاء الإخوان المسلمين بعد ذلك بسنوات عديدة، وسفهوا أحلام الشاعر، وأحلام الوطنيين:
يا قطار النوى رويدك هذي .. بعض نار الحمى بدت للعيان ربما قيدت خطاك لديها ..نفحات العبير في شطآن أو أثير من ذكريات شذاهُن .. أريج الورود والريحان كللت بالفخار مؤتمراً.. زفّت إليه مواكب المهرجان نافست لهفة القلوب عليه.. حدقات العيون فهي روان وتعالى شعاره نغماً يمتد.. عبر السهول والكثبان ( للعلا للعلا) تدوي نشيداً.. عبقري الرنين في الأذان ما لتلك الحشود ماج بها النادي.. وغصّت جوانب الأركان ...
(4) نبذة عن الشاعر " الهادي آدم "( 1927-2006): ولد بالهلالية في أرض البطانة، وتلقى تعليمه فيها وفي معهد أم درمان العلمي. تخرّج بدرجة ليسانس الآداب من كلية دار العلوم بالجامعة المصرية بالقاهرة. حصل على الدبلوم العالي في التربية وعلم النفس في جامعة عين شمس بالقاهرة. عمل بوزارة التربية والتعليم رئيساً لشعبة اللغة العربية ثم مديراً للمدارس الثانوية بالسودان. ذاع اسمه وعلا شأنه عقب صدور ديوانه الأول ( كوخ الأشواق)، الذي صدرت طبعته الأولى بالقاهرة والثانية ببيروت. نالت مسرحيته الشعرية الاجتماعية( سعاد) رواجاً كبيراً. نال جمعية المؤلفين العالمية بفرنسا. اشتهر بقصيدته التي غنتها أم كلثوم ولحّنها الموسيقار محمد عبد الوهاب ( أغداً ألقاك)، وكانت المغنية المشهورة قد عزمت على اختيار قصيدة من كل دولة عربية، لتغنيها. وتقول بعض أبياتها الشعرية:
هذه الدنيا كتابٌ أنت فيه الفكر هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العمر هذه الدنيا عيونٌ أنت فيها البصر هذه الدنيا سماءٌ أنت فيها القمر
(5) لم أزل أذكر عندما كان أستاذنا الخلوق " الهادي آدم " يدرّسنا مادة الأدب العربي في "مدرسة المؤتمر الثانوية" ونحن في الصف الأخير، منذ زمان قديم. قال لنا أنتم في عمر الزهور، وليس من العدل أن تقضوا شبابكم وأنتم تعتصرون أذهانكم من أجل تحديد مستقبلكم، تصنعونه وأنتم تبيعون زهرات شبابكم من أجل الطموح.