لم يكن البروفيسور شاعراً ، غادر دنيانا عام 1992، وكان من المصابيح الناطقة بالعربية والإنكليزية في السودان. ناقد وكاتب قصة وروائي .أديب مفوه المقال، في التلفزيون أو الإذاعة المسموعة أو الندوات والمحاضرات العامة والخاصة. ناقد للشعر ويعرف مكامن سحره. مترجماً لأصعب منازل الترجمة وهي ترجمة الشِعر. مثقف فاعل في كل مجالات الثقافة. لا يضن بشيء. لربما كان المثقف المضيء دائماً " علي المك"، لم يزل يراوح مكانه العالي في هرم الثقافة عندنا . كلما مرت السنوات على رحيله ،كلما توهج في ذاكرة الشعب السوداني معدنه النادر. انزوى التكفيريون على أنفسهم وضمّوا الوطن بكل تنوعه المبدع إلى حوزتهم. ورموا كل خير في الناس برمح الجهالة ، فلمع نثير " علي المك " على غير ما ينتظرون، ونهض بعد موته المأساوي أكثر توهجاً ونُضرّة. لم يكن لعلي وجه سياسي لامع ،ولا بيئة سياسية وحزب، ولكنه مع قيم التقدم ،والصبر على العلوم. خضّب ثقافته الموسيقية، بكم هائل من تراث الإنسانية الموسيقي الباهر، فلمع رأيه من فوق قمة الجبل الذي صعده تاركاً بوناً شاسعاً بيننا وبينه، فكان رحيله ضربة قاصمة للفعل الثقافي ، وترك لنا بعض الأثر، ولم ينزو كأمثال " الطيب السراج" و"التجاني الماحي و"عبد القادر كرف" و " إسماعيل النضيف"، يطمرون إبداعهم الثقافي في صدورهم، ويرحلون به إلى الغيبة الكُبرى.
منْ لا يذكر صداقته لعبد العزيز داوود، وكيف كتب عنه كتاب فيه شذى من ريحه. ولم تزل أجيال تذكر المحطة الثانية في إذاعة أم درمان، من بعد العاشرة مساء، وكيف أدار الإذاعة المسموعة للخاصة جبال من نور الشعر والمسرح والموسيقى، أنار ليالينا بنور المعرفة عندما كان رئيساً للمحطة الثانية متعاوناً مع الإذاعة، في وقت كان للأثير صوت السحر. وحين جاء التلفزيون وشغل الدنيا والناس، كان يدير برنامجاً جماهري مرة كل أسبوع، خصه البروفيسور" علي المك" و"إبراهيم أحمد عبد الكريم" والإذاعي المتميز " حمدي بدر الدين". ومنْ منا لا يذكر تاريخ الرجل وقد أصدر صحيفة ثقافية حائطية عام 1958 بشراكة الشاعر " صلاح أحمد إبراهيم " عندما كانا من طلاب جامعة الخرطوم حيذاك. يشهد تاريخه تميُز أهل الثقافة ، بعلو شأنه عن السياسيين الذين يصوبون جهدهم لاصطياد العامة وتجيّشهم.
(1) قال "علي المك " عن العيون في زمن حقيبة الفن: عن صفة العيون في شعر الحقيبة ، وإن شئت الدقة فهو ليس شعر الحقيبة ، بل هو شعر الغناء السوداني آن العشرين والثلاثين من القرن العشرين فيه صفة العيون صفة الجبين والشعر أو الديس الذي هو الشجر المُلتف كناية عن كثافة الشَعر. ولكني أعتقد صفة العيون فيه أكثر من صفات سائر الجسد، وربما كان هذا الوصف على وجه الخصوص ينأى به ذلك الشِعر عن اتهام البعض له بالحسيّة، والله تعالى أعلم. وينسب إلى جرير الشاعر الأموي أغزل بيتين قالتهما العرب، وذاك كان في صفة العيون عند قوله: إن العيون التي في طرفها حور .. قتلننا ثم لم يحين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له ..وهن أضعف خلق الله أركانا
ويرى أيضاً: إن العيون التي في طرفها مرض.. وقد تفزع حين يجيء ذكر المرض ولا تفكر إلا في العيون وغايتها العمى، أما كلمة مرض هذه في المعاجم معناها فتور اللحظ أو فتور اللحظات، ونقال في عاميّتنا : فلانة كتلت عيونها، وهي كما ترى سمة جمال ولا تنبئ عن سقام. أما الحور وهو بمعنى أن يشتد بياض العين، وسواد سوادها، تستدير حدقتها وترق جفونها. قيل شدة سواد المقلة في شدة بياضها، في شدة بياض الجسد. وهذا كم تعلم تقليد يقارب أن يكون عنصرية محضة. والعيون عند شُعراء الحقيبة سلاح ماض،سلاح فتاك، عند سيد عبد العزيز: أنا قلبي طار من صدري يا صديقي عشان.. شُفت حور الجنة داخل الحيشان شفت العيون بتقهقر ضابط النيشان .. شفت الجمال البادي في عظيمة الشان
هاهنا يخاف العيون وبطشها الذين مهنتهم الحروب والقتال من تقتضي أشغالهم شجاعة وإقداماً، تراهم يتراجعون إزاءها، مثل ضابط النيشان هذا، والنيشان يمنح للمقاتلين الشجعان كما هو معلوم، أول هذه الكلمة: إجلي النظر يا صاحِ منظر الإنسان.. الطرفو نايم وصاحي صاحي كالنعسان ألا ترى أن الشاعر أول أمره قد اطمأن شيئاً إلى هذه العيون، بل أفاد منها ، فحين نظر للطرف الذي هوبين النوم واليقظة صار بصره مجلواً حديداً، وربما تكون قد اُنسيت ذلك الخوف حين يستطرد بك الشاعر يستمر في وصف دقيق بليغ يصعد بك إلى الجبين ربما من خلسة من وسن عينيها من قبل أن تستبد بها اليقظة: في الضي جبينو الناعس يجمع لطافة ورقة ونفرة الغزلان ما بين أن جسيمها النافر الكسلان يجري الحرير الناعم والفريع اللادن
وربما كان" أبو صلاح" وهو من الطبقة الأولى من شُعراء الغناء العامي و عالج "الدوباي" وأنشأ من الشعر أول شيء كان يغنيه "الطنابرة"، وكان أكثر الشُعراء افتتاناً بجمال العيون. كتب شِعراً كثيراً عنها، يخلط في بعضها بين قدرة اللحاظ على الجُرح والأذى الجميل والجسيم جميعاً، بينما تقدر على منحه من شفاء: لحظك الجرّاح أذاي فيه وفيه الطرب والراح لا جبل دكّالو ولو بسم أنزل دمع السحاب أبكالو
لحظ مُدمر ها هنا وبسمة تنزل المطر، لكل داء دواء، وروي أن الشاعر بصر بفتيات حسان أعجب بجمالهن، قال كلاماً يعبر به عن ذات نفسه، نظرن إليه وربما سخرن منه ، أغرهن ثناء الشاعر رغماً عن ذلك أدركت بصيرة الشاعر مما قد ذكرن عادت بالأمور كلها إلى مدينة جوفه، قال: هالكة صالح كلما ما ينظرا وفي مدينة الجوف ساكن الضرا شِعر متفردٌ بحسنه، ما الذي أضرّ بعينيه، ما أسقمهما أول كلمته المعروفة جاء: العيون النوركن بجهرا غير جمالكن مين الساهرا يا بدور القلعة وجوهرا
أحياناً الرحمن قد جعل العين موضع كل شيء، أهم شيء أنه جعلها موضع الجنان، يكون ثابتاً قوياً يشجعها أن تتماسك كأنها هي هو أو هو إياها: يا عين بتخافي مالِك من عين الخايفة عينو يسألها لم البكاء ماؤكِ مدراراً ومُحجم: يا عين لم انهمالك ليه لونك إحمّر لونو هل من زول بسهم رمالك شال نومِك وزاد نوم عُيونو
ولا نعرف منْ كسب المعركة، منْ غنم ومنْ كان الخاسر في هذا الصراع، يكون بين عين تخيف. ولا أعلم يقيناً أي الرجلين كان أسبق في ذكر هاروت الساحر "عبيد عبد الرحمن" أم "علي المساح" سيد شُعراء الغناء في الجزيرة، غير مدافع وهاروت وماروت كما قد علمت ساحران فتنا الناس بسحرهما في بابل فأخذهما الله بالنكال. وفي سورة البقرة قوله تعالى: {يعلّمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } صدق الله العظيم, عند "عبيد عبد الرحمن " يجيء ذكر هاروت: ناعس لواحظ حور هاروت لو رآهن مثلي كان مسحور عينان هاتان تسحران هاروت الساحر نفسه فتأمل ، ثم يجيء علي المساح يستخدم تشبيهاً مقلوباً: هاروت سحرو مأخود من سحر عينانك ظلموك لو يقولوا الدُر شبيه أسنانك
وتأمل ذلك أيضاً تحس جمال كلمة عينانك، ألا تشبه جمال الكلام عند الأطفال وهم يعالجون براءة اللغة قبل أن تدخل إلى سجون النحويين. ولو عدنا إلى" صالح عبد السيد" مرة أخرى ونظرنا في قصيدة خلي العيش حرام لوجدنا فيها ما يفيد صورة الدمار الماحق الذي يصيب الشاِعر جراء اللحظ الفتاك بلاغة مذهلة أنظر: بنخوض الرماح لو كان تزيد أو تقل ونقابل المدافع بالثبات والعزم ونهاب سيف عيونو اللُّمع يبرق صديد
وأمدت هذه القصيدة تراث الشعر الغنائي بصورة بارعة الألوان في آخر مقاطعها في قول شاعرها: يا المنك معار تكحيل شويدن الخميل علمت الغصون مع النسيم كيف تميل
وهذا يبدو وكأنه فصل المقال في صفة العيون، وقد جعل "عمر البنا" الصدر الناهد كالعيون من بعض أسلحة الدمار توكل إليه مهمة أخرى هي هداية الكافرين: على صدرك قُنبُل كم أسلم كافر وبعد وهذا قليل من كثير والسلام عليكم. * انتهى قول البروفيسور "علي المك"