بعض أسرار انقلاب 1989

 


 

 

 

 

كانت الورديات في إدارة الكهرباء بالخرطوم للمهندسين أربع وعشرين ساعة. وكانت وردية المهندس خالد من الساعة التاسعة مساء إلى السادسة من صباح يوم 30 يونيو 1989.

قبل يوم من موعد تلك الوردية الخطيرة، حضر المهندس موسى وتحادث مع المهندس خالد أنه يريد استبدال ورديته المسائية تلك، بوردية صباحية لأنه سوف يقضي يوماً بالجزيرة لأن هناك مناسبة زواج لأحد الأقربين.
لم يصدق المهندس خالد أنه سيستبدل الوردية المسائية ببديل صباحي. وفرح أنه سيقضي سهرته الخميسية مع زوجته وطفله الصغير.
كان المهندس موسى منتمياً للجبهة القومية الإسلامية، وهو من الأعضاء الملتزمين . وكان يعرف أن وزير الكهرباء " مبارك الفاضل " لديه رقم تلفون ( المكتب البيضاوي ) بالطابق الأول من مبنى الإدارة المركزية للكهرباء، في الطرف المقابل ( لحديقة الحيوانات ) التي قام تنظيم الإخوان المسلمين بنسفها.
وكان السيد الوزير يتحادث مع المهندسين المناوبين، بغرض إطفاء مناطق معينة وإضاءة أخرى ، فالمكتب البيضاوي مسؤول من توزيع الكهرباء القامة من محطة الدمازين. وعندما يكون الذي يغطى الدوام المسائي أخ ملتزم، فسوف لن ينفذ أمر السيد الوزير إن طلب منه ( Black out ) لكامل الشبكة في العاصمة، والتي سوف تعني فشل الانقلاب.
*
بعد نجاح الانقلاب ، وتصفية المصالح الحكومية مع بدء نهج التمكين. تم تعيين 100 مهندس كهربا ء ينتمون للتنظيم في الإدارة المركزية، وكان منهم من ينتظر اختبار الملاحق حتى يصير مهندساً. ومن ضمنهم المهندس الذي تلاعب في التأمين على حرارة الكهرباء في المولد الرئيس لبري الحرارية ، بسبب تلقيه أوامر سياسية ببقاء المحطة تعمل فوق طاقتها الطبيعية ، مما أتلف محطة التوليد وكلف ذلك 8 مليون دولار.
(2)
مات ذكرناه طرفاً يسيراً من تنظيم الانقلاب، وجهات أخرى أسهمت في تمكين الإسلاميين الملتزمين في التنظيم، من البقاء ضمن مفاصل الدولة . لقد أسهمت عقيدة( التقيّة ) التي أفتى بها الأمين العام للتنظيم، من إباحة لأعضاء التنظيم الملتزمين، من قبول العمل الأمني وحكومة الظل التي كان يتمرن عليها أعضاء القيادة ، في تكرار منذ سبعينات القرن العشرين. لقد كان التحالف مع نظام 25 مايو بعد مصالحة 1977،بالقدر الذي مكن القيادة من تدريب بعض قيادتها من اعتلاء الوظائف السياسية. وكان ذلك تدريباً على تقلد الوظائف السياسية، توطئة للانقلاب.
لقد تم تحوير حديث ( الحرب خدعة )، إلى أن التنظيم قد أفتى لأعضائه بان الحرب بين التنظيم وبقية المعارضين، بما فيهم الأحزاب الطائفية . وأن لتلك الحرب عدتها من الحيطة والتأمين .وكان فقه الانقلاب قد ألزم القادة وبقية الملتزين بالأمن والطاعة وعدم السؤال ، وترك القيادة لتفعل بهم ما تشاء ( ويسمونها تقليب جسد الميت عند منْ يبترده).
لقد أباحت فترة الائتلاف بين الجبهة القومية الإسلامية وحزب الأمة، أن تطلع القيادة على أسرار التخابر الأمني لدى القوات المسلحة، وقد أسهم ما يسمى بدعم القوات المسلحة ، من إطلاع نائب الأمين العام للتنظيم على أسرار لم تكن متاحة لولا مشاركة التنظيم في الحكم .
*
لقد تم شراء أجهزة ( توكي ووكي) بادعاء أنها أجهزة تابعة لشركات خاصة. وتم استيراد كمية من الأجهزة، وتمرن عليها الأعضاء الملتزمين. وتم تقسيم المناطق السكنية إلى مربعات . ولكل مربع ملتزم ولديه جهاز ( توكي ووكي) ووضع التنظيم رقماً للعضو الملتزم. وقد تم وضع بروفات للسيطرة على كافة المساكن، ورصد تحركات كل افراد السكان أمنياً. وكانت تلك هي الوسيلة للإبلاغ عن أي تحرك ، خلال ساعات منع التجوال.
(3)
لم يتطاول زمن منع التجوال من السادسة مساء إلى السادسة من صباح اليوم التالي اعتباطاً، بل لذلك عدة فوائد للتنظيم الانقلابي: منها تمتم ضبط الناس في بيوتهم مما يخفف القبضة للتنظيم وراحة لمن يقومون أمنياً بالحراسة. ومنها إخفاء القيادات التنظيمية الأمنية خلال تحركها خلال الليل لضبط تأمين الانقلاب، وسريّة نقل الرسائل من منزل نائب الأمين العام للتنظيم إلى الواجهة وتحويلها لقرارات. ومنها ألا يرى الناس أفراد العرب والأفغان ، الذين يحرسون انقلاب التنظيم خلال الليل. ومنها أيضاً إخفاء جثث المقتولين بالرصاص خلال الليل ، ويتم دفنهم في المقابر ولا يعلم بهم أهلهم ، بل مفقودين وإلى الأبد.
(4)
منهج الإكراه عند الأمين العام :
لم يكن اللجوء إلى القوة محض تكتيك، بل هو منهاج مُخطط من الأمين العام للتنظيم. اطلع هو على وثائق التاريخ الإسلامي، وتابع كيف تمددت الخلافة إلى إفريقيا وإسبانيا إلى جنوب فرنسا ، وكيف تمددت الخلافة إلى بطون آسيا إلى الصين والهند ودول الاتحاد السوفيتي السابق. لم تتمدد بالسلم بل بالحرب بغرض كسب الريع . التمدد عن طريق الإكراه ، بالحرب والقسوة.
والجانب الأخر الاطلاع على ثقافات القرن التاسع عشر، ولا سيما كارل ماركس، واستفاد من نظرة مؤسس الشيوعية نحو التغيير عن طريق القوة. ورجع الأمين العام للنص المقدس :
{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40) سورة الحج.
وعندها تولدت لديه أفكار راسخة واستراتيجية لقيادة التنظيم وصراعه من الأغيار هو صراع إكراه وكسر العظم، حتى لو كانت الفروق بين تنظيم الإخوان المسلمين والأحزاب الطائفية التي تسند في رؤاها وتطابق مع رفع راية الإسلام، ولكن عن طريق السلم، لا كما يراها الأمين العام.
(5)
من هنا صمت الأمين العام عن تجاوزات التعذيب في غرف الأشباح ، والاعدامات الجزافية خارج مؤسسة القضاء والعدل. وتصفية الخدمة العامة والقضاء والدبلوماسية والقوات النظامية من الأغيار. وجرى التعذيب تحت بصر قادة التنظيم. وجاءت قضية التمكين بناء على آية مقدسة تتحدث عن الذين ( مكّناهم في الأرض ) وليس الذين مكّنوا أنفسهم!.
واستباح التنظيم بسط الوظائف للمنتمين إليه، تجاوزاً لقوانين العدالة والكفاءة. وشرع التنظيم في بناء دولة التنظيم بقوة الإكراه. والاستفراد بالسلطة، وكان الأمين العام يسمي واقعة الانقلاب بأنه ( مد مسارات للتنظيم )، كان يرغب أن يؤمن أغلبية للتنظيم، ومن بعد ذلك يعود لديمقراطية السودان. ولم يرق ذلك التسلسل للعسكريين الملتزمين بالتنظيم.

عبدالله الشقليني
26 مارس 2019

alshiglini@gmail.com

/////////////////////////

 

آراء