يا لبئس أحلام الذين سرقوا الأطفال من التلاميذ من الطرقات وقذفوا بهم للحرب القذرة، بدعوة أنها حرب دينية. ولم تكن كذلك. أصابهم الرعب قبل أن يفتوا، وتأكدوا أنها حرب أهلية دون شك. فأعلنوا الجهاد في برنامجهم ( ساحة الفداء)، الذي خصصوا له بيتاً حكومياً في الخرطوم في شارع البلدية، قلعة من الممثلين وكاميرات ومصوري " الدفاع الشعبي"، ويسلمون نسخة البرنامج لتلفزيون السودان لبثه.
(1)
أين الذين سوقوا لقصة ( الميل الأربعين من مدينة جوبا)؟. أين مدينة جوبا من مشروع الدولة الإسلامية العظمى، بل أين هي من دولة المشروع الحضاري؟
تقول السيرة:
دارت معركة الميل اربعين في مارس 1997 على تخوم عاصمة جنوب السودان جوبا بين القوات السودانية و قوات الحركة الشعبية التي كانت في طريقها إلى جوبا، لكن كانت فرقة من الانتحاريين قامت تعطيل هجوم الدبابات بتفجيرها بقذائف آر بي جي. كانوا يصعدون فوق المدرعات ويفجرونها على من فيها.
كل شهداء الحرب الأهلية من جميع الأطراف، كانوا بعقيدة تامة أنهم على حق، فماذا حدث؟
أيهما كان الحق معه، وأيهما زُينت له جنون الباطل حقاً؟
*
يكتب المحبوب عبد السلام في كتابة( تأملات في العشرية الأولى للإنقاذ) ص 287:
{ ورغم أن كثيرين جلبوا أبناءهم طائعين فرحين ، يبغون بناء شخصياتهم بين يدي مرحلة تحوُّل فاصلة في تاريخ الشباب نحو الجامعة، ثم المهرجانات السياسية التي انتظمت الساحات لدى التخريج ، فقد أعقب كل ذلك حشد المُتخرّجين بالقوة إلى مطار الخرطوم، ثم إلى جبهات القتال في مناطق العمليات، مُخادَعة لم تصدمهم في المقصد الذي سيؤخذون إليه. فشهدت شوارع العاصمة أرتالاً من اليافعين مُطاردين. وقد هر بوا من الطائرات التي أعدت لتحملهم كرهاً إلى الحرب، قبل أن تبلغ السمعة السيئة لتجربة الخدمة الوطنية كل أنحاء السودان، وليحيط المكر السيء بأهله في مأساة معسكر ( العيلفون) بين يدي عيد الفطر المبارك في مذبحة أخرى، جددت ذكرى الدم المراق في أعياد من قبل قادة ثورة الإنقاذ الوطني
ولكن المخادعة أفضت إلى سمعة سيئة لجهاز الخدمة الوطنية وأسدت ضربة ثانية لقطاع الطلاب في الحركة الإسلامية، كما لم تثمر نصراً في الحرب إذ لم يقاتل اليفّع المقهورون بما يصد غوائل هجوم المجتمع، الذي أخذ يتبلور من كل الحدود، كما أضيرت سمعة المشروع الحضاري، إذ لم يعقب الحادث السؤال والتحقيق والعقاب، بل رفعت الأقلام وجفّت الصحف }
وذكر الكاتب في الهامش:
في 21/04/1998 غرق في النيل نحو (70) طالباً من بين ( 1162) حُشدوا في معسكر ( السليت) بمنطقة العيلفون، وهم يحاولون الهرب بالمركب على الضفة الشرقية للنيل ، بعد أن تأكد لديهم مخادعة الأخذ بالقوة لمناطق العمليات. وفيها صرح " عبدالرحيم محمد حسين " وزير الداخلية لصحيفة الشرق الأوسط من القاهرة: ( يبدو أن سبب الهروب هو كرههم القتال وخوفهم منه فضلاً عن أنهم أجبروا على دخول المعسكر ) وصرح وزير العدل " عبد الباسط سبدرات" مع بداية تنفيذ خطة الخدمة الوطنية ولذات صحيفة الشرق الأوسط 02/12/ 1998 (إن السودان شعبه ثوري بمعنى إذ حدث وأخذت أي شخص عمره أقل من 18 عام لا يمكن أن يقبل ويمكن أن يخرج علينا هو وقبيلته بثورة غير عادية).
(2)
سقط باطل سعي الإنقاذ لاسترداد السودان، وهو ما كانت سلطة الإخوان المسلمين تجاهر بأنها جاءت لتحرير السودان من المتمردين، بعد أن أشعلوا حرباً دينية لقتال أبناء الوطن الواحد، الذين أكرهتهم سلطة الإخوان المسلمين، فقرروا الانفصال في 2010. وأسفر تحالف كل القوى الأجنبية لدعم الحركة الشعبية، حتى انتصرت قوى جنوب السودان وأرغمت السلطة على التوقيع على اتفاق " نيفاشا" 2005. وتحمّلت حكومة الإخوان المسلمين وزر الأسباب التي أدت للانفصال، بعد أن كان القرار يوم 19 ديسمبر 1955، هو البنظر البرلمان في منح جنوب السودان حكم فيدرالياً.
(3)
فشلت حكومة الإخوان المسلمين، في قتال الحركة الشعبية. وكانت قد سوقت للحرب الدينية. وقدمت برنامج ( ساحات الفداء )، الذي هو تجربة غسيل مخ للشباب، تمت صناعته بيد متخصصي الإعلام الذين ابتعثهم الأمين العام للتنظيم لأمريكا من قبل للدراسة.
وعندما استلوا حزمة الأغاني الجهادية، لجئوا إلى التراث، وقلّدوا قصيدة رجز بها الصحابي الجليل " عبدالله بن رواحة " وهو على أعتاب الذهاب لغزوة " تبوك":
يا حبّذا الجنة واقترابها .. طيبة وبارداً شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
فحوروها:
يا حبّذا الجنة واقترابها .. طيبة وبارداً شرابها
أمريكا روسيا قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
فبان تقليدهم عاطلاً من الفكر ومُجرداً من الإبداع. لم يستطع شعراؤهم القليلين من إبداع قصيدة تماثل أو تجاري قصائد صحابة رسول الله. أرادوا أن يحوّروا الأبيات الشعرية وسيلة يبعثون بها أبناء الشرفاء، وغشّهم بقشرة الجهاد، بعد دسّ القيم النبيلة في حشايا مَظلمة الجنوب الكبرى. في ذات الحين تقاصرت عضوية التنظيم أن تذهب للجهاد، لقلة محصولهم الفكري وقلة زادهم في التقوى، بل هو مكر دفع الناس بدلاً عنهم، فهم المحرضون وغيرهم المنفذون. وغصبوا أبناء الشرفاء لنقلهم بواسطة الطائرات للجبهات القتالية، في حين ينعم القادة بالزواج مثنى وثلاث ورباع، وينعموا بمال السحت المسروق من دولة الفقراء. وفصلوا ضباط القوات المسلحة، ليقيموا قوات الدفاع الشعبي، قليلي الخبرة العسكرية.
وقال ابن أبي رواحة الصحابي الجليل في رجزه ذاك:
أقسمتُ يا نفس لتنزلنّة .. لتنزلن أو تكرهِنّة
إن أجلب الناس وشدُّوا الرَّنَّة .. مالي أراكِ تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنتِ مطمئنة .. هل أنتِ إلا نطفة في شنة
(5)
وربطوا العصابة الحمراء حول الرأس، تقليداً للصحابي الجليل أبو دجانة "سماك بن خرشة"، وهو صحابي من الأنصار من بني ساعدة من الخزرج، شهد مع النبي محمد غزوات بدر وأحد وخيبر وحُنين، ثم شهد حروب الردة، وقُتل في معركة اليمامة.
وأنّا يقدرون تقليد أمثال هؤلاء!.
ذهب الجنوب إلى دولته، وانقسم السودان. وهلل رئيس الدولة بأنه صنع الاستفتاء.
أين يكون مصير كل المغشوشين بالجهاد؟
سؤال يفتي حوله علماء السلطان !.
*
مضى الزمن متطاولاً، وهجروا المشروع الحضاري، وأسلمة أرض جنوب السودان. سجدوا ليس لرب العالمين، بل للذين كانوا ينشدون بقرب عذابهم. وانهار السودان بكل المقاييس كدولة واقتصاد وشرطة وجيش وقضاء ودبلوماسية خدمة مدنية وعملة واقتصاد. وحمل المسئولون صحن التسول. وصار السودان في قاع أمم العالم.
عبدالله الشقليني
28 مارس 2019
alshiglini@gmail.com