التهنئة للشعب بالظفر ومساهمة متواضعة من بعد
أحزنني ألا أكون مشاركا في فرحة الشعب الكبرى من داخل السودان، فقد أجبرتني ظروف العلاج أن أكون في مدينة برايتون البريطانية مع بناتي وأحفادي ولكني تمكنت من متابعة أحداث السودان من عدة مصادر ساعة بعد ساعة. رفعت التطورات المذهلة معنوياتي مما مكنني قبل أيام رغم ضغوط المرض أن أكتب مقالة بعنوان: لا خيار للجيش إلا أن ينحاز للشعب، واليوم أكتب مقالة ثانية من وحي تلك الأحداث المفرحة فقد غابت الأفراح من وجه السودان لسنوات طويلة ولكنها جاءت أخيرا بعد مخاض عسير طويل مقارنة بأكتوبر 64 وابريل 85. أبدأ بتهنئة الشعب السوداني (صانع المعجزات) التي ظننا أن وقتها قد انتهى بهذا الانتصار الباهر غير المتوقع على نظام مستبد فاسد مكث طويلاً وأفسد كثيراً. كما أهنيء التنظيمات العديدة التي وقعت إعلان الحرية والتغيير وقادت هذه الثورة الشعبية المباركة إلى هذه النتيجة المبهرة وندعو لهم بالتوفيق والسداد في بقية المسيرة فهي الأكثر صعوبة، لأن الاتفاق على هدم الباطل أسهل كثيرا من بناء الإعمار المتين الذي تختلف فيه وجهات النظر حتى لو صدقت النوايا.
أتمنى أن يكون هذا الحدث المعجز الذي تلاحمت فيه قوى الشعب بصورة غير مسبوقة شملت كل أنحاء السودان رغم روح القبلية والمناطقية التي استشرت إبان حكم الإنقاذ، وكانت الطاقة المحركة لهذا التلاحم هي الشباب اللا منتمي للأحزاب السياسية مما يعني إمكانية دخول كتلة بشرية ضخمة في الحراك السياسي القادم، وسيؤدي ذلك لتغيير الساحة السياسية بصورة جذرية. أتمنى أن يؤدي ذلك إلى تغيير المفاهيم والسلوك داخل التنظيمات السياسية التي خذلت الشعب السوداني في الفترات الديمقرطية الثلاث التي كان أكبر همها توزيع المقاعد الوزارية بين الأحزاب المؤتلفة في الحكومة والتي تستغرق شهورا. وأتمنى أن تنتقل هذه الثورة إلى أجهزة الدولة فتتسم بالتعامل على أساس المواطنة المتساوية بدلا من المحسوبية والعشائرية، وأن تسود الشفافية والعدالة وحكم القانون على كل قرارات الأجهزة الحكومية، وأن تبدأ روح الجدية واحترام الوقت وأداء الواجب ومهنية التنفيذ في كل أعمال الدولة.
وأن تمتد تلك الثورة لعامة المجتمع فتغير مفاهيمه وسلوكه في المسائل الاجتماعية والثقافية فنبتعد عن البذخ وضياع الوقت في المجاملات وتبني الآراء من جلسات الونسة دون تمحيصها ومعرفة قوة مصادرها، وأن نهتم بتجويد العمل مهما كان صغيرا خاصة في مجالات الزراعة والصناعة وتقديم الخدمات لأنها الأساس الذي يحدد الناتج المحلي الإجمالي لموارد الدولة. إن الأمم لا تنهض بأداء الحكومات فقط بل بمجموع انتاج المجتمع في مجالات الحياة المختلفة. ينبغي أن تكون هذه الثورة الشبابية العظيمة هي بداية الانطلاق لثورة أشمل تطال كل السلوكيات المتخلفة في مجتمعنا، وأن تهتم الحكومة القادمة بتهيئة المناخ لهذا المفهوم الشامل للثورة. وأرى أن يتشكل هؤلاء الشباب غير المنتمين للأحزاب في منظمات طوعية عديدة تعمل لمحاربة العادات الضارة والمتخلفة في مجالات الحياة المتنوعة وأن تعينهم الدولة على ذلك بشتى الطرق. هذه فرصة عظيمة للسودان ليتخلص من كافة السلوكيات التي تقعد به عن التقدم والنهضة.
بدأت بعض الاختلافات في الرؤى بين تنظيم الثورة وبين المجلس العسكري، وهذا أمر طبيعي للغاية أن ينحو الجيش للمحافظة والانضباط وأن ينحو تنظيم الثورة للعجلة وتحقيق المكاسب إرضاءً لقطاعات الشباب التي ساندته بجرأة وتضحية. وقد أبدت قيادة المجلس تنازلات عديدة استجابة لمطالب الثوار في وقت قصير وهذه خطوة جيدة تستحق ردا مماثلا من قيادة الثورة. لا أرى أن تقديم المطالب للمجلس العسكري وانتظار تنفيذها وسيلة جيدة للمضي بالثورة قدما. بما أن المجلس العسكري أبدى استعداده للجلوس مع قيادة الثورة للتفاكر حول قضايا الانتقال المختلفة، يجب أن تسارع قيادة الحراك الشعبي لإعداد أجندتها بصورة مفصلة والجلوس مع قيادة المجلس العسكري لمناقشتها وكيفية تنفيذها. أظن أن بعض المشاكل قد تعوق التنفيذ بصورة عاجلة نسبة لقلة المعلومات المتوفرة للطرفين حول القضايا المثارة، ولأن آليات التنفيذ غير مكتملة لدى المجلس العسكري. إن العمل بتوافق بين تنظيم الثورة والمجلس العسكري هو الضمان القوي لسلمية الثورة واضعاف خصومها ونجاحها في تحقيق أهدافها. ومن الأفضل أن تعجل قيادة الحراك بتشكيل الحكومة المدنية التي هي الأداة الطبيعية لتنفيذ كثير من مطالب الثوار. إن كثيرا من القرارات الهامة تحتاج إلى معلومات قانونية وإلى صياغة قانونية حتى لا تستأنف فيما بعد للمحاكم التي تعمل وفقا للقوانين السارية، لست برجل قانون ولكني لاحظت أن القرار الذي صدر بخصوص مصادرة أموال وممتلكات المسئولين السابقين وأعوانهم لم يذكر الأسس التي تعتمد عليها المصادرة وما هي نوع الأملاك التي سوف تصادر، مثلا هل يمكن مصادرة المنزل الذي بناه الشخص قبل انقلاب 30 يونيو وما زال يسكنه حتى اليوم مع أسرته؟ بل ينبغي تحديد الأسماء المعنية بالمصادرة في وثيقة مرفقة بالقرار. إذا لم تقم الثورة بتوخي العدالة القانونية في قراراتها تكون قد انحرفت عن أهم أهدافها وفتحت الباب لتجاوزات أخرى لاحقة، لا ينبغي للثورة محاولة إرضاء مجموعاتها المؤيدة لها على حساب العدالة وحكم القانون. ولكم قدوة حسنة في أيقونة افريقيا نلسون مانديلا الذي التزم التزاما جازما في التعامل مع الأقلية البيضاء الظالمة وفقا للاتفاقية التي عقدها مع ممثلهم ديكليرك ولم يخرقها بعد أن تمكن من السلطة.
وعلى قيادة الحراك أن تتحرك بأسرع ما يمكن في بعض القضايا الهامة مثل: تكوين الحكومة المدنية التي تتولى إدارة الدولة ممثلة للشعب، ووضع برنامج مفصَل لها يوضح كيفية تطبيق الأهداف العامة التي احتواها إعلان التغيير، وكيفية استرداد الأموال المنهوبة من المال العام (أي تأخير في هذا الأمر يؤدي إلى ضياع الأدلة)، الإصرار على إعادة دستور 2005 دون التعديلات التي طرأت عليه في السنوات الأخيرة لأنه الوثيقة المحددة لصلاحيات أجهزة الدولة، معالجة المشكلة الاقتصادية المتفاقمة (أي تأخير في هذا الملف سيضطر المجلس العسكري لاتخاذ قرارات اقتصادية لحل بعض المشكلات العاجلة في حين أن هذا الملف يقع كاملا في مسئولية وزارة الاقتصاد المنتظرة)، وينطبق ذلك على وزارة الخارجية وغيرها.. ربما تريد قيادة الثورة أن تفكك ما تستطيع من أجهزة الإنقاذ داخل الدولة ويجوز لها أن تفعل ذلك لكن من الخير للبلد أن ترجئ ذلك حتى تطلع على الملفات والتقارير لكل مسئول في الدولة وأن تستمع للمتعاونين معه، ثم تتخذ القرار المناسب لكل فرد على حدة ويمكنها أن تحيل بعضهم للأجهزة العدلية. لقد كانت حملات التطهير التي جرت ضد كبار الموظفين بعد ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل غير عادلة ومضرة بمصلحة البلد. وينبغي لها أن تكلف لجانا مختصة بدراسة الوضع الاقتصادي ومعالجة مشاكله المعقدة، وإصلاح الخدمة المدنية والنظام الفيدرالي وخدمات التعليم والصحة وتوفير مياه الشرب وغير ذلك من أسباب معاناة الجماهير. أحسب أن ذلك أولى بها من الدخول في مشاكسة مع المجلس العسكري حول تنفيذ بعض المطالب التي هي من اختصاص الحكومة المدنية القادمة.
altayib39alabdin@gmail.com