ليت حاضراً معنا الشاعر محمد الحسن حميد
كان سيفرح وينطلق نسام البهجة من عينيه إشراقاً، لو كان حاضراً. لكنه كان حاضراً بشعره. رفرفت طلائع الهتافات بأبيات شعره، الذي استبق المستقبل وقرأ الليل الطويل حين يطويه الصباح. فهذا الفجر المخضب باحمرار الدماء، تعلق في سماء السودان طويلاً قبل أن ينجلي البلاء. أبى شبابه أن يكون الصباح إلا مشرقاً طرباً، ولف الوطن جلبابه واعتمر عصاه ورفع ذراعه يبشر بالخير. هذا الثوب الفضي المزين بقطيفة الهوى ينبسط فيملأ الكون ويهزه.
ليته شاهد الثورة التي أسهم هو في تعبئة شراراتها من تحت الرماد بالقصيد:
كلم بنيات الجرف ..
وكل المكاليم من طرف
هي الدنيا كلها كم حرف ؟
لامن يطول فيها الأسف !
وقادت الثورة ذات بنيات الجرف، يهتفنّ بما يرعب حاملي أسلحة الرصاص، وتاتشرات الأمن ورجاله الملثمين، الذين أرعبهم صمود الشارع. انقلبت سيارتهم، وتدفق الجرحى في عرض الطريق في حي العباسية بأم درمان، فقد وجد أفراد العصابة أيادٍ شابة تضمد الجروح. لقد أبت يد شباب الثورة إلا أن تكشف ( فقارى ولكن غنايا بهذا الغمام).غطت شموس الناس أخطاء المرتزقة، فخانتهم دموع الخجل والأسف:
باغتنا ريح الفجعة ليل
صادنا الذهول ..
زي التكنو قبل دا
ما فارقنا زول بعد الرسول
واللاّ التقول أول قلوب في الدنيا
يغشاها القدر بعدن تضيع منّو الدروب
(2)
بلادنا تشتاق لجروف المحبة لتكتب بطينها تاريخ جديد. عقدت لياليها في عرس الجماعة، تدخل أنت فتجد الطعام والشاي ومستشفيات الميدان وحولك الطمأنينة قد بنت أعشاشها، يفتشون ملابسك عن دبوس أو خنجر أو ملعقة حديد، وتدخل ( عليّ الحرام) ميدان الاعتصام وأنت خال الوفاض من كل الهموم. تجد الرسامين هناك وأهل الغناء ( طراوة الخوة ابتسام). هناك :
يا جرحنا الكيف يندمل
ما بار وراك شهد الغنا
ونحل الحناجر ما همل
صادر خلايا أبو الدبر
صاقر حناياه نمل .. نمل
فتحت أذرعتها لك بالترحاب، وابتسامة ( الغلابة ) تفتح باب أذرع جنة الدنيا. اليوم نبتت الجينات الهجينة، بخصال لن تراها في عالم اليوم. تلك طبيعة معجونة بطيب الجدات.
يا الفارشين الأرصفة
يا الحلمهن حلم الطيور
عيشةً شريفة وأرغفة
في بلد حِنيْنة ... موالفة
(3)
ليت الشاعر قام من مرقده اليوم، ونفض عن جسده التراب، وجلس بين إخوته وأبناءه وبناته، وشرب الشاي أحمر ساخناً. وضحك تراه لأول مرة منذ دهور. الغُمة انكشفت، ونزلت غمامة ممطرة بالغيث، وظللت الشمس الساطعة، وحجبتها عن ملايين البشر المعتصمين. نمت محبة آصرة بين الذين هنا والذين هناك. نهارك يتقطع وعند الغروب تخفف الأرض من سخونتها، وتقبل الطيور البشرية مغردة، وللغة الطير البشري حلاوة وطلاوة، فوق ما يتصور المرء. تسأل عن مكان تقضي فيه ليلك، ستجد السيول السمراء تتدفق عليك من كل صوب وخطب، وأنت تطمئن أنك بين أكف العافية والخير تشرب المحبة. يسيل الهتاف في منحدر النغم، يغسل غبن الزمان.
جاء قطار عطبرة وبصات من مدني ورفاعة، والشمالية ودارفور. لتُكسر عناد العسكر، فالسيف دخل غمده غصباً، والدم سار في شراينيه الرحيبة، يتقافز وتنتظم العافية في الأجساد.
*
الليل أظلم مما ينبغي، والصبح آت ولو تأخر. هذا الشعب المعلم أثبت أنه فوق التوقعات، أكثر ثورة وأصبر حالاً. لن تهزمه استصراخ الطغاة. ونحن نعلم انتهازيتهم، فظلت الجبابرة متمسكة بأستار كعبة النظام إلى أن سقط ملكه. وصدق المولى وهو خير القائلين: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) آل عمران}:
أرضا سلاح
لو نتحد ضد الجراح
نبني الديمقراطية صاح
نبنيهو صاح..
وطن البراح
نم هانئاً شاعر الشعب العظيم، فقد سبقتنا أنت بسنوات ضوئية، تضفر ضوء النجوم لأحلامنا.
عبدالله الشقليني
3مايو 2019
alshiglini@gmail.com
//////////////////