الحفاظ على جمال الثورة السودانية وجمالياتها
سمعتُ من ابنتي هذا الأسبوع ملاحظة عابرة، ولكنها عميقة المغزى، عن الثورة السودانية المشتعلة حالياً، حين علقت بأن الثورة عمّقت عند جيلها حب الوطن. وأضافت رداً على تساؤلاتي، إن معظم النقاشات التي كانت تدور في إطار الأصدقاء والزملاء في الجامعة قبل الثورة، كانت تتسم بالتذمر واليأس من مستقبل البلاد، وصبّ جام الغضب على "هذا البلد". الآن، قالت أصبح لنا وطنٌ نحبه.
توقفت طويلاً عند هذه الملاحظة، وأنا أتذكر الطفلة التي عادت إلى الاستقرار في الوطن، وهي في السادسة من عمرها، في وقت كانت تراه بلداً غريباً، وتجاهد للتأقلم مع بيئته الاجتماعية. كان أكثر ما يزعجها وقتها إقبال الأهل والأصدقاء على احتضان الأطفال وتقبيلهم عند كل لقاء أو زيارة، وخصوصاً أن كثيرين كانوا في شوقٍ إليها، وبعضهم كان يراها أول مرة. وعندما أبلغتها والدتها بأن هذا من العادات السودانية كانت تحتمي كلما اقترب منها أحد، بمد يدها والإعلان بلسان إنكليزي مبين: "أنا لست سودانية". في المقابل، كانت تأخذ هويتها الإسلامية بجدية فائقة، منذ أن وعت بالدنيا. كنا مثلاً إذا ذهبنا للتسوق في السوبرماركت في بريطانيا، وأعجبها شيء من الأطعمة، تنادي من بعيد: "هل هذا يصلح للمسلمين؟" وكنت أنبهها لخفض صوتها، حتى لا تلفت إلينا الانتباه في أيام الإسلاموفوبيا هذه. من جهة أخرى، ظلت منذ عمر مبكر تكثر من طرح الأسئلة اللاهوتية الصعبة، كما حدث حين أن طلبت منها أن تدعو الله لأخيها المريض، فتساءلت في عفوية: أليس الله هو الذي جعله مريضاً؟ ويمكن أن تتخيلوا صعوبة شرح هذه المسألة المعقدة لطفل في الخامسة!
كانت أيضاً مثل معظم أترابها هذه الأيام، تقضي الساعات الطوال تتصفح الإنترنت. وقد قرّعتها مرة قائلاً: أراك تقضين وقتاً طويلاً في غرفتك تطالعين الإنترنت، وهذا يعني أحد شيئين: إما أنك تتواصلين مع صديق شاب، أو أنك تخاطبين جماعة داعش. أجابت من دون أن يطرف لها جفن: أنا أتواصل مع صديقي الشاب الداعشي!
من هذا المنطلق، فإن تحولات الهوية في حالتها كانت راديكاليةً بأكثر من معنى. وقد شمل التحول النظر باستغراب إلى الأوضاع الاجتماعية التي كانت تراها عاديةً في مسقط رأسها في الخارج. أذكر مرّة أنها علقت، ونحن نتجول في وسط مدينة كامبريدج، بأن الناس في المدينة يبدون كما لو أنهم يتحرّكون داخل صناديق تضعهم خارج نطاق أي تواصل! وكانت تقارن هذا الوضع مع دفء العلاقات الاجتماعية في السودان، التي ألفتها وأحبتها الآن، وجعلتها ترى في غيرها صحراء جرداء اجتماعياً. ولكن ما حدث لها، منذ عايشت مع أترابها ثورة الشعب المتفجرة حالياً وانخرطوا فيها، كان نقلة نوعية من حب الوطن الهادئ، والتعلق به بصورة طبيعية، إلى الفخر والاعتزاز بوطنٍ أخذ ينفي خبثه ويستعيد نضارته، ويتشكل وينهض بمشاركتهم المباشرة. وهذا هو الفرق الذي تصنعه الثورات العظيمة، حين تنحت الأوطان نحتاً، فالشعوب تُعَرِّفُ وتصنع نفسها حين تنتفض لتنزع عنها القيود والأغلال، من استعمار أو استبداد. عندها تتجلى هوية الشعب في إرادة المقاومة الجماعية لهيمنةٍ دخيلةٍ من حكم أجنبي يعمل على فرض إرادته ومصالحه على الشعب، فيتذكّر الناس ويستدعون ما يجمعهم ويوحدهم. الأمر نفسه عند التصدي للاستبداد الذي يبدأ حكماً من الشعب نفسه، ولكنه يصبح أجنبي الهوية والهوى والمصالح، فينحاز للعدوّ الأصيل، كما في قوله تعالى عن قارون إنه "كان من قوم موسى فبغى عليهم"، فقد أبطره غناه، حتى رأى نفسه أقرب إلى أعدى أعداء أمته منه إلى إخوته في الدم والدين. في الحالين، تُستعاد الهوية والوحدة عبر الهبّة الجماعية ضد القمع والاستلاب.
من هنا، كان ربيع العرب بعثاً جديداً لحياة الأمة وشعوبها، كما في ميدان التحرير في الثورة المصرية وميادين الثورات الأخرى، حيث اكتشفت الأمم نفسها ووحدتها، ونبذت، مع الذل والعبودية، كل ما كان يفرّقها ويشوّه صورتها البهية. عندها فقط أصبح هناك معنى لعبارة "ارفع رأسك، أنت مصري"، وجاء العالم كله ليحتفل مع مصر وشعبها بولادة الأمة، ويرفع قبعته إجلالاً لشعب اختار الحياة.
وفي أول كتابةٍ متعمقةٍ لي عن الثورات العربية، ركزت على مركّب صناعة الهوية في الثورات، في مقارنةٍ مع الثورة الأميركية من جهة وثورة 1919 في مصر من جهة أخرى. في الحالين، كانت الثورة عملية خلق ذاتي للأمة، خرجت فيها إلى الوجود من رحم الغيب، فقبل الثورة الأميركية لم يكن هناك شيء اسمه الشعب الأميركي، بل كانت الطبقة المهيمنة في "العالم الجديد" ترى نفسها جزءاً من "الأمة الإنكليزية"، تتعايش في مستقرّها الجديد مع خليطٍ من أجناس أخرى، ولكن الهوية الأميركية ولدت مع تفجر الثورة، حيث اتحدت الأمة حول شعاراتها ومثلها في الحرية، ثم إعلان الاستقلال فالدستور. حينها أصبح الجميع "أميركيين".
بالقدر نفسه، فإن ثورة عام 1919 في مصر مثلت، كما خلدتها روائع مثل "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، وثلاثية نجيب محفوظ القاهرية، مخاض ولادة أمة. ولعلها مفارقةٌ ذات مغزى أن احتفالات مئوية ثورة 1919 في مصر خلال الأسابيع الماضية لم تجذب اهتمام النظام المصري القائم، وإنما كانت في مجملها من عمل هيئات شعبية. وهذا تذكار بأنه لا معنى للقول إن ثورات الربيع العربي هزمت أو اندثرت، فمثل هذا الإهمال الرسمي للثورة التي صاغت هوية مصر الحديثة يكشف، بالعكس، أن قوى الثورة المضادّة غريبة على مصر وهويتها، لا فقط بدوسها على إرادة الشعب، وإدخال مصر بأكملها في سجن كبير، بل أيضاً بخضوعها لإملاءات أعداء الشعب في الخارج، فقد خضع النظام وأخضع البلاد لأجانب كارهين لشعبه، بمن في ذلك جهات تتزيا بزي العرب، ولكن دينها موالاة الأجنبي، والتنكّر للشعوب، فيوشك من يقودون هذه الردة أن يرفعوا علم إسرائيل بدل علم مصر، وينشدوا نشيداً وطنياً لغته العبرية. ولهذا، ستبقى مثل هذه الردة لحظة عابرة ومنكرة في تاريخ الأمة، مثل ما كان الاستعمار.
ولعلها مفارقة أن النظام الإنقاذي المندثر كان قد احتضن هذه القوى الكارهة لشعوبها، وأصبح الناطقون باسمه يجاهرون برغبتهم في التطبيع مع إسرائيل، حتى اضطررنا للإنكار عليهم هنا في مقالات في "العربي الجديد". ولعله من المؤسف أن الثورة الحالية تشوبها شوائب لن تكتمل إلا بنفي خبثها، وأول هذه ارتهان بعض مكونات النظام الآخذ في التشكل لقوى الثورة المضادة نفسها التي تمارس قمعاً لشعوبها يستحي منه نظام البشير، فأين هي أحزاب المعارضة في الإمارات والسعودية ومصر؟ وأين هي الصحافة وحتى حرية التغريد والكلام؟ وهناك أيضاً شوائب من إذكاء لروح الكراهية ضد قطاعاتٍ مهمة من أبناء الوطن، وهو ما لا تستقيم معه ثورة ديمقراطية. وقد كرّرت مراراً، في هذا المكان، أن الفرق بين الثورة الديمقراطية والحرب الأهلية أن الأولى تجمع كل قوى المجتمع الحية ضد النظام، بينما الثانية هي مواجهة بين قطاعات الشعب ومكوناته الأساس.
ما نحتاج إليه هو تحديداً ما بدأنا به الحديث اليوم من بناء وطنٍ نفخر به جميعاً، تكون فيه الأولوية للمحبة والتآلف، لا الكراهية والفرقة، وتتوجه الطاقات فيه إلى البناء والتصالح، لا إلى الاحتراب والاقتتال، حتى ننطلق إلى آفاق جديدة من الحرية للجميع، ولا نعود إلى متلازمة: "ملعون أبوكي بلد"، ورحم الله الراحلين من شهدائنا، وأيضاً أدبائنا وكتابنا.
نقلا عن العربي الجديد
////////////////