يوميات الثورة المضادة: ما برضى شيتا يقلبو!
شعت التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي يوم الأحد ١٦ يونيو بصور عمر البشير في أحسن هندامه يحيط به الجند في رفقة آمنة من سجن كوبر إلى نيابة مكافحة الفساد في العمارات حيث وجهت له النيابة تهما بموجب مواد قانونية تتعلق بحيازة النقد الأجنبي والثراء الحرام والحصول على هدية بطريقة غير قانونية. نقلت وكالة الأخبار الرسمية سونا أنه تم توجيه التهم إلى البشير بحضور ممثلي الدفاع عنه وفيهم أحمد إبراهيم الطاهر ومحمد الحسن الأمين وهاشم أبو بكر الجعلي جزاهم الله عن العدالة خير الجزاء. حملت البشير المتهم في رحلته القصير بين كوبر والعمارات عربة رباعية الدفع بيضاء كجلبابه الناصع، لا تقل رفاها عما اعتاد عليه وهو على سدة الرئاسة.
تلقى جهاز الدولة القسري زعيمه السابق بوجهه الناعم، بالإجراءات، بينما قابل المعتصمين الذين لم يخدشوا حياء القانون بجرم سوى الحياة بالعقوبة الناجزة، القتل خارج إطار القانون. البشير الذي استنفذ كتالوج الجرائم حتى لم يعد للشيطان ما يوسوس له به دخل وخرج من النيابة بكرامة المتهم البريء حتى تثبت إدانته يتقافز حوله الزبانية وضحاياه أحياء وأموات لا يمكن إحصاءهم، فما العدل يا ترى؟ كنا على عهد اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان حدثنا أنفسنا بالعدالة الانتقالية واجتهد بيننا كمال الجزولي المحامي في تخريج صيغة سودانية لهذا المنهج في طلب النجاة الجماعية من الظلم متخيرا من تجارب الشعوب الأخرى ما قد يسعفنا في هذا السبيل. نُحرت العدالة الانتقالية ضمن ما نُحر من وعود السلام الشامل عند أقدام السلطة إذ ركل الشريكان، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ميزانها ولما ينصب بعد.
خرج منا عمر البشير الفرد وترك فينا دولته الأمنية وفن حكمه، فن ورث صاحب المليشيا الفريق أول حميدتي صيغته الأصفى. استقبل حميدتي في يوم صورة الرئيس رجالات الإدارة الأهلية والزعامات القبلية من كافة جهات البلاد ضيوفا عنده، منامهم في معرض الخرطوم الدولي الذي تحولت صالاته إلى ديوان عظيم. خاطب حميدتي ضيوفه حيث انتهى البشير، كسلطان ناجز الوعد يطلب النصرة. قال حميدتي لضيوفه أنه حريص على تشكيل الوزارة في أسرع وقت ممكن خوف الفراغ في مركز السلطة واتهم جهات لم يسمها بتوريط قواته في مجزرة القيادة فقال كانت فخا كما لوح بالتراجع عما انتهت إليه المفاوضات مع قوى الحرية والتغيير ليعد رجالات الإدارة الأهلية بمقاعد برلمانية ومكرمات نافذة متى نصروه. كان حميدتي قد اجتمع بأطراف من الإدارات الأهلية في ٤ مايو الماضي حيث أشار وقتها إلى ضرورة مشاركة "الجميع" كون "الشعب" السوداني هو الذي أحدث التغيير وانحازت إليه القوات المسلحة.
كسابقه البشير، يتدثر حميدتي بصيغة شعبوية من الوطنية لحشد قاعدة للحكم من مواقع الرجعية الريفية. لم يكتشف حميدتي في هذا الخصوص جديدا فقد جرب قبله الاستعمار الإنجليزي في آخر عهده أن ينشئ تحت رعايته حزبا للنظار والعمد والمشايخ على يد إبراهيم بدري، الحزب الجمهوري الاشتراكي الذي عده الناظر إبراهيم مادبو وسيلة لصون مصالح الإدارات الأهلية في مقابل حلف الأفندية والسيدين، علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي. موقف النظار اختصره الشاعر محمود الفكي في قوله الفكه: ناظر العموم مادبو الحكم الثنائي بحبه، ما برضى شيتا يقلبو.
يريد الفريق حميدتي تأديب المدينة السودانية، وقد خرجت لمقاومة الدولة الأمنية، بصف ريفي، المليشيا من جهة والبطريركية القبلية من أخرى، ذلك تحت راية بونابارتية إذا جاز التعبير. والمقصود نابليون الثالث، لويس بونابارت الذي اقتنص الحكم في فرنسا بالقوة العسكرية في العام ١٨٥١ في أعقاب ثورة ١٨٤٨ التي أطاحت بحكم لويس فيليب ودشنت عصرا من الصراع الطبقي المفتوح كان أوجه انتفاضة يونيو التي حصد فيها الجيش أرواح الثوار الراديكاليين من عمال باريس عند المتاريس. تصدى لويس بونابارت لفتوح ١٨٤٨ بالانقلاب العسكري تحت شعار "الدين والأسرة والملكية هم الأساس الأبدي للنظام الاجتماعي" وقاعدة اجتماعية ريفية قوامها الملاك الزراعيين وصغار الفلاحين المتضررين من ارتفاع الأسعار وأصحاب الحوانيت، أو كما قال ماركس في تحليله المانع للأزمة الثورية في ١٨٤٨ وما انتهت إليه. عند ماركس لم تستطع أي من الطبقات الاجتماعية فرض إرادتها السياسية، لذا لم تمثل ديكتاتورية بونابارت أيا من الطبقات الثلاث الرئيسة التي خاضت الثورة، البرجوازية والبروليتاريا والبرجوازية الصغيرة، بل مثلت قوة جهاز الدولة القسري في حد ذاته واستقلاله البادي عن المجتمع وسيطرته عليه.
m.elgizouli@gmail.com