الحزب الجمهوري الاشتراكي ورجال الإدارة الأهلية: بُعد البون بين الأمس (بدري) واليوم (حميدتي)
حاول بعض الكُتَّاب أن يقارنوا بين دعوة الإداري إبراهيم يوسف بدري لرجالات الإدارة الأهلية في خمسينيات القرن العشرين ودعوة "الفريق أول" محمد حمدان دقلو (حميدتي). إلا أن البون شاسع بين الدعوتين والرجلين، فكراً ورؤيةً. إذ دعا إبراهيم بدري رجالات الإدارة الأهلية عام 1952م؛ لتكوين حزب سياسي باسم الحزب الجمهوري الاشتراكي، ليكون ترياقاً لحزب الأمة، ويساعده أيضاً في تنفيذه دعوته لقيام حكومة مدنية عشية رحيل المستعمر، تقوم على مبادئ اشتراكية. بينما الفريق حميدتي دعا رجال الأهلية، الذين عينتهم حكومة الإنقاذ؛ ليساندوه في إجهاض شعارات ثورة ديسمبر 2018م، التي تنادي بالمدنية حكماً، وبالحرية رأياً، وبالعدالة قانوناً، وبالسلام أمناً وطمئنيناً لأهل السودان. وكان الهدف الرئيس من دعوة حميدتي إعطاء المجلس العسكري تفويضاً سياسياً ليحكم السودان؛ بعد أن تنكر أعضاء المجلس العسكري لشرعية الثورة التي أتت بهم إلى سدة الحكم، عندما أعلنوا مؤازرتهم لشباب الثورة ونصرائها، ووعدوا الثائرين في ساحة الاعتصام أمام قوات الشعب المسلحة آنذاك بتنفيذ شعاراتهم الثورية. ورجال الإدارة الأهلية الذين دعاهم حميدتي في معرض الخرطوم الدولي هم بقايا مؤسسات الإدارة الأهلية الذين حاولت حكومة الإنقاذ أن توظفهم في دعم الدفاع الشعبي، وخدمة توجهاتها السياسية. ونتيجة لذلك انحرفت الإدارة الأهلية عن مسارها المعلوم، وأمست تعيش في غربة ذات وظيفية؛ لأنها لم تستطع إعادة سيرتها الأولى، ولم تفلح في تحقيق الدور المناط بها، ولم تنجح في بلورة دور جديد في إطار المعطيات التي أفرزها نظام الإنقاذ، وبذلك أضحت كَالمُنْبَتّ؛ لا أرْضًا قَطَع ولا ظَهْراً أبْقَى.
وبناءً على هذه التوطئة، اسمحوا لي يا سادتي بالقول أن البون شاسع بين دعوتي بدري وحميدتي؛ لأن للرجلين أهداف وغايات متباينة. وإليكم تفاصيل دعوة بدري وخلفياتها التاريخية؛ علكم تنصفوا الداعي (بدري) والمدعوين (رجال الإدارة الأهلية)، وتقارنوا بين الدعوتين. بدأت معارضة الحركة الوطنية للاستعمار تأخذ أشكالاً مؤسسية للتعبير عن آرائها في النصف الثاني من عقد الأربعينيات من القرن العشرين. وقد تمثلت تلك المؤسسية في قيام حزب الأمة عام 1945م، برعاية السيد عبد المهدي، وعضوية الحركة الاستقلالية، وفي مقابل رفعت الأحزاب الاتحادية شعار الاتحاد مع مصر، وطعنت في شرعية المؤسسات الدستورية. وتحسباً من نتائج العزلة السياسية، ونكاية في الأحزاب السياسية التي اتهمت رجال الإدارة الأهلية بمهادنة الاستعمار ضد سياسة البلاد وسيادتها كون زعماء الشعائر حزباً سياسياً عرف بالجمهوري الاشتراكي عام 1952م. يرجع تاريخ فكرة الجمهوريَّة الاشتراكيَّة في السُّودان إلى عام 1946م، عندما تدارسها الأستاذان إبراهيم بدري ومكي عباس، وناقشا مدى صلاحيتها كنظام حكم للسودان. وبعد ذلك نشر مكي عباس عدة مقالات في جريدة الرائد، بيَّن فيها السمات العامة للنظام الجمهوري الاشتراكي، ووصفه بأنه أصلح نظام حكم لبلد مثل السُّودان، تتعدد فيه القبائل والطوائف، وتسيطر الحكومة على مدخلات الإنتاج الزراعي الأساسيَّة فيه.
وأخذت هذه الفكرة شكلاً مؤسسياً بعد انشطار الجمعيَّة التشريعيَّة بين أعضاء حزب الأمة من طرف، وزعماء الإدارة الأهليَّة والأعضاء الجنوبيين من طرف آخر. وفي ضوء هذه التطورات السياسيَّة اتصل إبراهيم بدري برهط رجال الإدارة الأهليَّة، وتمَّ عقد اجتماع في المقرن في السابع من ديسمبر 1951م، حضره السادة محمد إبراهيم فرح، وسرور محمد رملي، ويوسف العجب، وأحمد محمد حمد أبوسن، ومحمد ناصر، ومحمد تمساح الكدرو، ومحمد طه سروج، ومحمود كرار، وأحمد يوسف علقم، وإبراهيم الشريف يوسف الهندي، ورحمة الله محمود، وبوث ديو، وعثمان علي، وإدوارد أدوك، واستانسلاوس بياساما، والسعيد علي مطر، ونواي محمد رحال، والأمين علي عيسى، وأحمد الهاشمي دفع الله، والحاج محمد عبد الله، ومنعم منصور، وإبراهيم موسى مادبو، وإبراهيم ضو البيت، وسير سرو إيرو، ومحمد حلمي أبوسن. ووقع معظم هؤلاء الحضور على وثيقة تأسيس الحزب الجمهوري الاشتراكي التي اشتملت على البنود الآتيَّة:
1. إنني أؤمن بالجمهوريَّة الاشتراكيَّة إيماناً كاملاً، وأتعهد بالعمل في سبيلها بكل قواي.
2. اتعاون مع الطبقة المثقفة في البلاد لقيام الحكومة السُّودانيَّة الحرة في الجمهوريَّة الاشتراكيَّة.
3. المبادئ والتفاصيل تضعها لجنة خاصة تتكون من زعماء العشائر والجنوبيين والمثقفين."
وبذلك تمخضت مداولات اجتماع المقرن عن قيام حزب جديد باسم الجمهوري الاشتراكي، ليكون ترياقاً لشُبهة الملكيَّة الحائمة حول حزب الأمة، ومخرجاً من حرج التبعيَّة السياسيَّة لمصر، التي ربما تفقد السُّودان كينونته القُطريَّة وشخصيته الاعتباريَّة على الصعيد الدولي. فضلاً عن أن مكتب السكرتير الإداري في الخرطوم قد قام بمشايعة الحزب الجمهوري الاشتراكي، لأنه كان يسعى من خلال تأييد له إلى "تقليص نفوذ حزب الأمة في الريف، وإضعاف قوته في الجمعيَّة التشريعيَّة حتى يكف عن الإلحاح لتحديد موعد مبكر للحكم الذاتي وتقرير المصير لا يروق لحكومة السُّودان، ويوقع الحكومة البريطانيَّة في حرج مع الحكومة المصريَّة."
ولا عجب أن هذا التوجه الحكومي قد أكسب الحزب تأييد عدد من النُظَّار والعُمد والمشايخ الذين كانوا يمثلون جزءاً من جهاز الدولة الإداري، وتربطهم مصالح مشتركة مع مكتب السكرتير الإداري. وفي إطار برنامج الحزب القائم على تقرير المصير، ثـمَّن إبراهيم بدري، سكرتير الحزب، أهميَّة النظام الاشتراكي الذي يروِّج الحزب له، لأنه سيحول دون انتقال تبعيَّة الجماهير وعبوديتها من غاصب أجنبي إلى مستغل من أبناء البلاد. فغياب العدالة الاجتماعيَّة المتمثلة في المبادئ الاشتراكيَّة، حسب رأيه، ستجعل استقلال السُّودان استقلالاً أجوفاً، لا يرضي طموحات الأهلين وتطلعاتهم. وانطلاقاً من هذه المبادئ بدأ الحزب الجمهوري الاشتراكي نفير حملته الانتخابيَّة، وسعى لخطب تأييد الجماهير في المدن والأرياف. إلا أن كسبه في الانتخابات كان كسباً متواضعاً، حيث أنه حصل على ثلاث دوائر انتخابيَّة، شملت الدائرة 46 نظارات الفونج التي مثلها الناظر يوسف العجب، والدائرة 43 رفاعة التي فاز فيها الناظر محمد حلمي أبوسن، والدائرة 54 نيالا بقارة التي فاز فيها الناظر إبراهيم موسى مادبو. أما رئيس الحزب إبراهيم بدري فقد تمَّ تعينه عضواً في مجلس الشيوخ.
إذاً دور إبراهيم بدري السياسي يجب أن ينظر إليه من خلال بُعدين أساسين. يرتبط أحدهما بالجانب النظري لفكرة الجمهوريَّة الاشتراكيَّة في السُّودان، الذي روَّج له عبر منتديات نادي الخريجين بأم درمان وجريدة الرائد مع صديقه مكي عباس. وكان يعتقد اعتقاداً جازماً أن النظم الجمهوري الاشتراكي هو أمثل النظم لحكم السُّودان بعد الاستقلال، لأنه إلى جانب وجاهته السياسيَّة، كما يرى الأستاذ إبراهيم بدري، لديَّة القدرة على تطوير الاقتصاد السُّوداني الذي يرتبط بملكيَّة الأرض والمؤسسات الحيويَّة، حيث أن 87% من أرض السُّودان ملكاً للدولة، و5% ملكيات خاصة صغيرة. فضلاً عن ذلك، فإن الدولة تملك السكك الحديديَّة والبواخر النيليَّة التي تربط مناطق الإنتاج بالأسواق المحليَّة والعالميَّة، وشركة الماء والنور والكهرباء، وبعض المصانع الرئيسة. فلا شك أن رؤية إبراهيم بدري النظريَّة لها وجاهتها، لكن عمليَّة تطبيقها على صعيد الواقع كانت شأناً آخر.
ويرتبط البُعد الثاني باستثمار الأستاذ إبراهيم بدري للصراع الذي نشأ في الجمعيَّة التأسيسيَّة بين قادة حزب الأمة من طرف والنُظَّار والأعضاء الجنوبيين من طرف ثانٍ، وتكوين الحزب الجمهوري الاشتراكي في مرحلة نضال وطني حاسم تجاه الاستقلال. وعند هذا المنعطف تتجلى براعة إبراهيم بدري في المناورة وإتقانه لفن اللاممكن في السياسة السُّودانيَّة، لأنه كان يرى في النُظُّار سنداً للحزب الجمهوري الاشتراكي، رغم أنهم لا يؤمنون بأطروحاته عن الجمهوريَّة الاشتراكيَّة، لكنهم في الوقت نفسه سيوفرون له السند الجماهيري في أماكن ثقلهم في البوادي والأرياف، ويعينون الحزب الناشئ في سحب البساط من تحت أرجل الطائفيَّة السياسيَّة والأحزاب التقليديَّة. ومن زاوية أخرى نلحظ أن تأسيس الحزب الجمهوري الاشتراكي قد وجد قبولاً حسناً عند حكومة السُّودان وساستها البريطانيين؛ لأنها كانت تسعى بشتى الطرق والوسائل لإضعاف النفوذ المصري في السُّودان، وتضيق الخناق على حزب الأمة الذي شب عن طوعها وخرج على نهجها المرسوم في إدارة البلاد. وعند هذا المنعطف ظهرت مناورات الكيد السياسي التي أفضت إلى وصف الأستاذ إبراهيم بدري "بالعمالة والخيانة"، وتلك الاتهامات إذا نظرنا إليها في مجملها نجدها لا تعدو أن تكون مجرد مكايدات سياسيَّة. وزبدة القول أن قيام الحزب الجمهوري الاشتراكي يجب أن يفسر في إطار فن اللاممكن في السياسة السُّودانيَّة الذي تدثر ببراعة الأستاذ إبراهيم بدري في المناورة، دون أن تفسر تلك المناورة بأنها حشرٌ سياسيٌ، ويعاتبنا الأستاذ شوقي بدري عليها، علماً بأن الأستاذ شوقي حاول أن يفصل بين أفكار إبراهيم بدري عن الجمهوريَّة الاشتراكيَّة، والتي تدل على تفرد صاحبها، وآليات تطبيق تلك الأفكار على صعيد الواقع. فإن هذا الفصل الإجرائي هو الذي يقودنا إلى تصنيف المناورة السياسيَّة في خانة الحشر السياسي، وبين الموقفين تتباين الرؤى السياسيَّة حول الحزب الجمهوري الاشتراكي، والأجندة الكامنة وراء تأسيسه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ السُّودان الحديث.
وبهذا نصل إلى أن التمثيل الدائم الذي حظيت الإدارة الأهلية في مؤسسات الحكم المحلي والمؤسسات الدستورية التي وضعها في صراع مكشوف مع بعض القطاعات السياسية التي كانت ترى في تمثيلها في المؤسسات الانتخابية امتداد للنفوذ الاستعماري في السُّودان، وعليه يجب تصفيتها وإقصائها من المسرح العام، كما جاء في شعارات ثورة أكتوبر 1964م، التي نادت بضرورة إلغاء الإدارة الأهلية في السُّودان، وفسح المجال لمجالس الحكم المحلي والسلطات القضائية. وقد تمَّ بالفعل تصفية مؤسسات الإدارة الأهلية عام 1970م، ثم أعيد تأهليها في عهد حكومة الإنقاذ والحكومات السابقة لها لخدمة أجندات حزبية-سياسية معينة.
ahmedabushouk62@hotmail.com
////////////////