الهُويَّة والنِّضال في سبيل الاعتراف (1 من 2)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk


مقدِّمة

تعتبر الهُويَّة أقوى فكرة أخلاقيَّة تزيَّنت بها النَّفس البشريَّة في ذاتها ومجتمعها، وهي فوق كل شيء مؤسَّسة على سيكلوجيَّة الإنسان الذاتيَّة. وتتمحور هذه الفكرة الأخلاقيَّة حول أنَّنا نملك في مداخيل أنفسنا أصالة بنيويَّة قد نتعرَّف عليها ونقرُّ بها تارة، أو نستغفلها تارة أخرى، أو لم يتم الإقرار بها من قبل الآخر المختلف تارة ثالثة، بل قد نرى أنَّ المجتمع الخارجي مجتمعاً غير حقيقي ويحاول دوماً اضطهادنا، ولكن هذا المجتمع لا يفعل ذاتيَّاً، بل أنَّ هناك ثمة أناساً يحرِّكونه، ويديرون أمره كثيراً أو قليلاً. إذ تركِّز الهُويَّة على مطالبنا الطبيعيَّة في الاعتراف بكرامتنا الإنسانيَّة، وتمنحنا اللُّغة في التعبير عن الاستياء الناشئ حين يتمُّ هدر كرامتنا، أو عدم الإقرار بها في شيء من الأشياء الحيويَّة، التي نعتز بها، ونعكف عليها. إذ أنَّ الشعور بالهُويَّة الذاتيَّة لا يكون مبعثاً للفخر والبهجة فحسب، بل أيضاً مصدراً للقوَّة والثقة والاعتداد بالنَّفس. ومن هنا نجد أنَّ في الهُويَّة يكمن الإعجاب الشائع بالأنا، وقيادة الحملة الشعبيَّة أو الرسميَّة ضد الأنا الآخر، وهي الحملة التي تبدأ بحب الذات إلى النظريَّات السامية في الرأسمال الاجتماعي، وتعريف الذات نفسه في المجتمع. بيد أنَّ الإحساس العارم بالانتماء إلى هُويَّة بعينها، والطارد للمجموعات الآخرى يحمل في طياته – وفي كثر من الأحايين – مفهوم الاستبعاد والانحراف عن المجموعات الأخرى.
وفي شيء من الاختصار شديد، يمكن أن نقول هنا إنَّ الهُويَّة في السِّياسة هي السِّلاح الذي نشهره في وجه مؤسَّسات السُّلطة، التي تحتكر القانون والعنف، وترفض في أعتى ما يكون الرَّفض العدالة والمساواة والسَّلام والحريَّة، ثمَّ هي الوسيلة التي يستخدمها أولئك الذين في الهامش الجغرافي في الوطن كشكل من أشكال الأيديولوجيَّة الثوريَّة في البحث عن حقوقهم الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة من المركز القابض على كلِّ شيء. على أيٍّ، فقد زادت العولمة من وتيرة وحدَّة المجموعات المهمَّشة في أيَّة بقعة من بقاع العالم في المطالبة بالاعتراف بها، ولكن حين تتغطرس الفئة الحاكمة، وتصر على تهميشها للأغيار نجد أنَّ كل طرف قد شرع في الرُّجوع القهقري – أي دون الالتفات إلى الوراء – وبات يتمترس في خندقه. ومن ثمَّ تمسي أيَّة فرصة للالتقاء عسير المنال، وينتهي الأمر إلى فشل وتلاشي الدَّولة في خاتمة المطاف.
إذ أنَّ مصدر الصِّراع في العالم المعاصر هو التصنيف الاعتباري للنَّاس على أساسي العقيدة والثقافة. غير أنَّ في توصيف العلاج لهذا التقسيم المؤسَّس على الثنائي الاجتماعي (العقيدة والثقافة) وحدهما لا يمكن أن يؤدِّي إلى العلاج الناجع، بل يفضي إلى تسكين المشكلات، أو في أسوأ الحالات إلى لا حل. برغم من ذلك نجد أنَّ في المحاولات العالميَّة الدؤوب في سبيل حل مشكلات العنف القائمة على الدِّين تتبنَّى الوسائل الدِّينيَّة في الحين نفسه. فعلى سبيل المثال إنَّك لواجدٌ أنَّ العنف القائم على الدِّين يتم تحدِّيه ليس بتقوية المجتمع المدني، وتمييزها عن المبادارت العسكريَّة والنشاطات الإستراتيجيَّة من قبل الحكومات وحلفائها، كما تتطلَّب الحال بالطبع، ولكن من خلال استقدام قادة في الملل الدِّينيَّة الأخرى ممن يسمونهم المعتدلين، وتوكل إليهم مهمَّة هزيمة المتطرِّفين في صراع ديني-ديني، ومن خلال إعادة تعريف المستحقات الدِّينيَّة في العقيدة المعنيَّة. إذاً، ما هو خطل هذه الوصفة العلاجيَّة؟ من عيوب وأعطاب هذا الدواء أنَّه يتجاهل العناصر الرائسة في الحضارة الإنسانيَّة، والتي يمكن أن تساهم كمصادر هامة في حوار الحضارات في المجتمعات المختلفة، مثلاً العلائق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، أو أيَّة علاقات ثقافيَّة أخرى. ومن خلال تجاهل تلك العلائق تضيع أكثر أنماط الحياة الإنسانيَّة الهامة.


الهُويَّة في السِّياسة المعاصرة

مرَّة ذات يوم قال الأديب الأيرلندي الألمعي أوسكار وايلد (1854-1900م) في زعم لغزي "إنَّ أغلب النَّاس هم في واقع الأمر أناسٌ آخرين." فبرغم من أنَّ تلك المقولة قد بدت في أوَّل الأمر لغزيَّة أكثر من أي شيء آخر، إلا أنَّ وايلداً كان قد دافع عن مقولته دفاعاً مستميتاً. إذ أنَّنا قد نجد بعضاً من النَّاس يستمد أفكاره من غيره، وحياته ما هي إلا عبارة عن محاكاة لغيره، ثمَّ إنَّك لواجدٌ أنَّ عواطفه مقتبسة من غيره أيضاً. فأولئك النمط من البشر يتماهون باندهاش بغيرهم. مهما يكن من أمرهم، فلعلَّك واجدٌ في السُّودان أنَّ النِّزاع الدائر اليوم، والبربريَّة المصاحبة لها، مصدره في الأساس هو وهم الهُويَّة المستجلبة، وإنَّ فن بناء الكراهيَّة ضد الآخر لنابع من تلكم الهُويَّة التي تستعير قوَّة سحريَّة من هُويَّة قاهرة مزعومة، وهي التي تنظر إلى العناصر الأخرى المكوِّنة للهُويَّة الوطنيَّة في شكل موارب، ومن ثمَّ يقود إلى النِّزاعات المسلَّحة، ويطغي على أيَّة عاطفة إنسانيَّة، أو الرأفة الطبيعيَّة التي قد يملكها الإنسان. وتكون النتيجة الحتميَّة في نهاية الأمر العنف المصنوع داخليَّاً والإرهاب المتصدَّر خارجيَّاً وما شابههما.
إنَّ انتماء شخص أي شخص إلى أيَّة مجموعة ثقافيَّة-اجتماعيَّة لأمر هام، وذلك اعتماداً على تعريف يخصه بذاته. وعند التنافس في سبيل استرعاء انتباه الآخر والأولويَّات (في ظل غياب النِّزاع بين استحقاقات الانتماءات المختلفة)، فما على الفرد إلا أن يختار هُويَّته حسب الأهميَّة النسبيَّة المتعلَّقة بالهُويَّات السائدة في المجتمع، والتي تعتمد كذلك على نص تعريفي صريح. فهناك ثمة عاملان ينبغي أخذهما في الحسبان: أولاً، إنَّ الهُويَّة لمركَّبة ويستوجب أن لا تمحو إحداهما أيَّاً منهما، أو تطغي إحداهما على الأخرى؛ ثانياً، على الفرد أن يأخذ الخيارات – علانيَّة أو ضمنيَّاً – في أيٍّ من الأهميَّة النسبيَّة ينبغي عليه أن يتعلَّق بها، والنَّص الخاص بالولاءات والأولويَّات المختلفة، والتي قد تتنافس من أجل الظهور. وبما أنَّ التماهي مع الآخر، ومع صور عديدة ومتباينة شيء هام في سبيل الحياة في مجتمع ما، غير أنَّ ظاهرة الاختزاليَّة تشي بشيء كثيف في الأدبيَّات الرسميَّة للتحليلات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. إذ يمكن تسمية إحدى هذه الظاهرات ب"تجاهل الهُويَّة"، وتأخذ شكل التجاهل الكلي لنفوذ أي حسٍّ من إحساس الشعور بالتماهي مع الأغيار فيما نقدِّسه وكيفما نتصرَّف.
ومن جانب آخر، هناك نوع آخر من الاختزاليَّة تُسمَّى "الانتماء الأحادي"، والذي يأخذ شكل الفرد الذي ينتمي دوماً إلى هُويَّة بعينها، برغم من وجود الأطراف العمليَّة السائدة – مجتمعيَّة كانت أم أحاديَّة. فعلاوة على هذا الشعور القوي بالانتماء إلى هذه الهُويَّة أو تلك في المجتمع الذي يعتاش فيه، إلا أنَّه ينبغي أن لا يمحو أو يطغي على الانتماءات والعلاقات الأخرى، وهذه الخيارات هي التي تجابهنا أو نجابهها دوماً. وإذ يتمثلَّ ذلك هنا في حال الشَّاعر الكاريبي ديريك ولكوت في قصيدته "صرخة بعيدة من إفريقيا" (A Far Cry from Africa)، والتي توضِّح بشيء من الإيضاح جلي التجاذبات المتضاربة التي تحملها خلفيَّته التأريخيَّة الإفريقيَّة، وإخلاصه للُّغة الإنكليزيَّة والثقافة الأجنبيَّة التي تصطحب هذه اللُّغة. إذ تقول أبيات القصيدة إيَّاها:
إلى أين أتوجه، أموزَّع أنا على الوريد؟
أنا الذي عيَّرتُ
ضابطاً بريطانيَّاً ثملاً؛ كيف اختار
بين إفريقيَّتي وإنكليزيَّتي التي أحبُّ،
خيانة لهما، فإرجِع أو أعِد لهما ما يعطيان،
كيف أواجه تلك الهجمة وأكون سعيداً؟
وكيف بي الابتعاد عن إفريقيا وأعيش
بصراحة، لقد فشل ولكوت في أن يكتشف هُويَّته الحقيقيَّة، وكان لزاماً عليه أن يقرِّر ماذا هو فاعل، وكيف يفعل ذلك، وإلى أي مدى يستطيع أن يفرز حيزاً للولاءات المتباينة التي تعتمل في قرَّة عينه وجوانيّته وبرَّانيته في الحياة التي يعتاشها. إذ كان عليه أن يواجه هذه القضيَّة – حقيقيَّة كانت أم خياليَّة – وأن يتساءل في نفسه عن إفرازات ولائه للأولويَّات المتصارعة والانتماءات المختلفة في مداخيله. فإذا ظلَّ ولكوت مندهشاً في شيء من الاندهاش عظيم بارتباطه الذي لا يكاد ينفصل عن إفريقيا، وحبَّه للُّغة الإنكليزيَّة كوسيلة للتعبير عن مكنون ما في نفسه، وتذوُّقه للأدب الإنكليزي، فهذا يشير إلى عدة أسئلة عن التجاذبات المختلفة في حياته التي يحياها. وتتمثَّل هذه العوامل المتصارعة في حياته في التأريخ والثقافة واللُّغة والسِّياسة والمهنة والأسرة والزمالة وهلمجرَّاً، ويستوجب الإقرار بها والتعبير عنها، ولا ينبغي أن يُغرَق في الاحتفاء والاكتفاء بعقليَّة واحدة في المجتمع.
إذاً، ماذا أردنا بالذي أتينا به أعلاه مثلاً؟ الإنسان السُّوداني – أو بالأحرى شريحة منه – الذي جاء أجداده من الجزيرة العربيَّة، وترعرع في السُّودان خاصة، وإفريقيا عامة، كان ينبغي عليه أن يستلهم حياته من كنه الحضارة الإفريقيَّة التي وطَّد نفسه عليها في القارة، والثقافة التي يتبنَّاها عموم أهل السُّودان، وأن يعتبر بالاعتبارات أو العوامل التي ذكرناها إيَّاها، والتي تشكِّل صيرورة أيَّة أمَّة. فلنأخذ مثلاً "البوير"، أي السكَّان البيض المزارعين الذين جاء جلهم من هولندا وقليل منهم من فرنسا وألمانيا، واستوطنوا في جنوب إفريقيا. وبرغم مما فعلوه في حق أهل البلاد الأصلاء إلا أنَّهم أسموا أنفسهم الأفريقان (أو الأفريكان)، وهي دالة معنويَّة لاسم إفريقيا، ولئن تنكَّروا لأهلها، واستعبدوهم، واضطهدوهم، وهمَّشوهم، وابتعدوا عن لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، ثمَّ أحدثوا لغتهم التي هي عبارة عن اللُّغة الهولدنيَّة القديمة. وقد تمَّ حرمان أهل البلاد الأصلاء من حقوقهم الوطنيَّة التأريخيَّة بموجب الاتِّفاق الذي أُبرِم بين بريطانيا من جهة، والبوير من جهة أخرى بعد أن وضعت الحرب البريطانيَّة-البويريَّة أوزارها، والتوقيع على اتِّفاق السَّلام بين الطرفين في 31 أيار (مايو) 1902م. أيَّاً كان من أمرهم، فإنَّ أهل السُّودان اليوم المستعربين منهم عليهم الاعتراف بحق الشُّعوب الأصيلة، ليس في اقتسام السُّلطة والثروة فحسب، بل في الإقرار الثقافي، مما يتيح الفرصة لتلك الشُّعوب ممارسة حقوقهم في تنمية ثقافاتها، ودراسة وتعلُّم لغاتها، والتعبير عن هُويَّتها.
مهما يكن من شيء، فدعنا نتذكَّر – بالطبع والطبيعة – أنَّه حين تتعطَّل الحريَّة الثقافيَّة في الحين الذي فيه لا يسمح لمجتمع ما أن يمارس نمط حياته التقليديَّة والحديثة بحريَّة متى ما شاء ذلك، كما في حال اعتراض السُّلطات الحكوميَّة على ذلك، فإنَّ هذه الإعاقة لمبعث النِّزاع الثقافي والاجتماعي والسِّياسي، ثمَّ سرعان ما يصل هذا الصِّراع إلى مرحلة التعارك العسكري لئن لم تفلح المعالجة السلميَّة والسِّياسيَّة. إذ ليس هناك ثمة شيئاً يمكن تبريره باسم الحريَّة دون إعطاء النَّاس فرصة، أو السماح لهم، بممارسة هذه الحريَّة، أو – على أقلَّ الفروض – التساخي في كيفيَّة استخدام فرصة الخيار لئن سمح بها. وإن كان الاضطهاد الاجتماعي يعتبر إنكاراً للحريَّة الثقافيَّة، فإنَّ انتهاك الحريَّة قد يأتي أيضاً من طغيان الامتثال إلى واقع مستجد مستبد لم يكد يتفق عليه النَّاس بعد، ومن ثمَّ يجعل الأمر عسيراً على أعضاء المجتمع لاختيار أنماط الحياة الأخرى.
فلا جدال في أنَّ هناك ثمة عروة وثقى بين التطرُّف الثقافي والطغيان السِّياسي. فلعلَّ عدم تناسق السُّلطة بين الحاكم المستبد والمحكوم المضطهد، والذي يولد دوماً شعوراً طاغياً من قبل الهُويَّة المضطهدة، وبالاتِّحاد مع الاستعلاء الثقافي من الفئة الحاكمة يتضح في أعظم ما يكون الإيضاح إخفاق الدَّولة في سياستها العامة. ألم تر كيف تعاملت إنكلترا مع "مجاعة البطاطس" في أيرلندا في الأربعينيَّات من القرن التاسع عشر! فبدلاً من التعامل مع فشلها السِّياسي في مكافحة المسغبة ورفع المعاناة عن الأيرلنديين، طفقت لندن تزعم بأنَّ من مسبِّبات الفقر في أيرلندا الكسل واللامبالاة والسخافة المتأصِّلة في الشَّعب الأيرلندي، وإنَّ البعثة البريطانيَّة – أي الاستعمار البريطاني في النعت التلطُّفي – لمتواجدة في أيرلندا بغرض إدخال الحضارة في شعبها وقيادته حتى يحسُّ ويعمل كالبشر، وذلك كله فيما عزَّت لندن الفقر في بريطانيا إلى التغيُّرات الاقتصاديَّة صعوداً وهبوطاً.
وكذلك حين استعرت المجاعة في إقليم البنغال في الهند العام 1943م – أي قبل أربعة أعوام من استقلال الهند العام 1947م – صرَّح رئيس الوزراء البريطاني حينئذٍ ونستون تشرشل (1874-1965م) أنَّ سبب المجاعة هناك هو قابليَّة الشَّعب الهندي أن يلد كالأرانب. تلكم هي المجاعة التي قضت على حيوات ما تراوح بين 2-3 مليون شخص، وهي كانت من نمط الكوارث التي يسمِّيها الباحث في مجاعات إفريقيا الدكتور أليكس دو فال ب"الهلوكوست" والإبادة الجماعيَّة والأعمال الوحشيَّة. وفي هذه الأثناء نجد أنَّ هناك ثمة مزاعماً شعبيَّة في تواريخ الكوارث الإنسانيَّة تقول إنَّنا إن رأينا كثراً من الضحايا في مكان واحد، فإنَّ ذلك يعني أنَّ ثمة جريمة ما قد ارتُكِبت، وينبغي علينا أن نبحث عن الجاني. ففي حال المجاعة البنغاليَّة كانت هناك أربعة عوامل تضافرت وقادت إلى المجاعة إيَّاها، وهي: الطبيعة والعوامل الثلاثة البشريَّة (الإدارة ولندن والأسواق). ففي دراساته في المجاعات ساهم البروفيسور أمارتيا سين بجدليَّة بسيطة وقويَّة، وهي أنَّ المجاعات لا تحدث بسبب فشل المحاصل نتيجة سوء الأحوال المناخيَّة وإخفاق الموسم الزراعي، ولكن نسبة للعوامل البشريَّة.
أما إداريَّاً فكان إقليم البنغال منطقة زراعيَّة متطوِّرة، ويُحظى بسبل النَّقل الجيِّدة، وذا حكومة مستقرَّة. إذاً لِمَ فشلت عملية التموين من أجل إنقاذ النَّاس من الهلاك جوعى ومرضى؟ الجدير بالذكر أنَّ الإداريين البريطانيين والهنود لم يستخدموا الوسائل المتاحة إيَّاها بصورة أمثل، بل انشغلوا أكثر بنقل الجنود وإمداداتهم في ذروة الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، ودخول اليابان في الحرب، وسقوط سنغافورة في شباط (فبراير) 1942م، حتى أصبحت موارد الإمبراطوريَّة وأرصدتها لخوض غمار الحرب التي امتدَّت من أوروبا إلى شمال إفريقيا وآسيا في وضع حرج، حيث كان الجنود اليابانيُّون على بضع مئات الأميال من حدود الإمبراطوريَّة البريطانيَّة شرقاً، ومما زاد الأمر سوءً احتلالهم لبورما (ميانمار حاليَّاً) العام 1942م، فضلاً عن المشاكسات وسط الإداريين أنفسهم. أما الأسواق فقد شهدت ارتفاع أسعار الأرز – الغذاء الرئيس في شبه القارة الهنديَّة – إلى ثلاثة أضعاف في الفترة ما بين شباط (فبراير) – أيلول (سبتمبر) 1943م.
أما فيما يختص بلندن فإنَّ المؤرِّخ مدهوسري موخيرجي كان يرى أنَّ رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل كان يحمل آراءً عنصريَّة ضد الشَّعب الهندي، مما أدَّى إلى إحجام بريطانيا عن إرسال مواد الإغاثة الكافية لإنقاذ حيوات النَّاس في البنغال في الوقت المناسب، وتصريحات تشرشل إيَّاها تنضح بما كان في إنائه. بيد أنَّ الذين وقفوا مع رئيس الوزراء البريطاني ارتأوا أن تشرشلاً كان منغمساً في الحرب في الحين الذي كان فيه يفاوض القوميين في سبيل استقلال الهند، لذلك ارتأى هؤلاء المتعاطفون مع تشرشل بأنَّ كل ما كان يقوله عن الهنود والإمبراطوريَّة كان موجَّهاً إلى الحركة القوميَّة الهنديَّة. ففي ذات الأثناء كان البريطانيُّون قد قسَّموا المعارضة الهنديَّة إلى طائفتين: طائفة القوميين المعتدلين التي كانت مستاءة من المعارضة من ناحية، وطائفة المعارضة المتطرِّفة الشامتة التي كانت ترغب في أعظم ما تكون الرَّغبة أن يخسر الحلفاء الحرب – على الأقل – في الجبهة الشرقيَّة من ناحية أخرى. ومن ثمَّ كان يرى تشرشل أنَّه ليس من الحكمة في شيء التفاوض مع هؤلاء الذين يبغون أن يروك محطَّماً.(1)
مهما يكن من شيء، فإنَّ مزاعم تشرشل غير المبرَّرة لا يمكن أن تكون أدوات عمليَّة لتفسير الأزمات التي استعرضناها أعلاه، ولكنها هي في نهاية الأمر تمثِّل ثقافة الهروب من الواقع باستدعاء النوازع العنصريَّة الكامنة في النفوس، حيث يستخدمها صاحبها متى ما عجز عن إعمال المنطق السَّليم. ولإضافة الإساءة إلى الجرح استطرد تشرشل قائلاً باستياء إنَّ عمليَّة الحكم في الهند باتت صعبة في شيء من الصعوبة شديد، لأنَّ – في حقيقة الأمر – الهنود أكثر الشَّعب حيوانيَّة في العالم بعد الألمان. ألم تر كيف يتعامل الساسة مع النظريَّات الثقافيَّة تجاه شعوبهم أو شعوب مستعمراتهم!
ومع ذلك لا يعني أنَّ العوامل الثقافيَّة لا تلعب دوراً ولو هامشيَّاً في عمليَّة التنمية، غير أنَّها لا تعمل عن طريق إبعاد النفوذ الاجتماعي والسِّياسي والاقتصادي. ولعلَّ وهم التفسير الثقافي لتخلُّف التنمية الاقتصاديَّة ليس مضلاً فحسب، بل قد يكون عاملاً ضاراً، حيث أنَّه يولد الإحساس بالحتميَّة والإذعان وسط الشَّعب الذي يوضع في هذه المرتبة الدونيَّة، ومن ثمَّ القبول بهذا الوضع كأمر واقع، حتى يبقى على حاله ولا يغيِّر من أمره شيئاً.


وللحديث بقيَّة،،،

 

آراء