الشاعر عالم عباس و حرب البسوس الشعرية

 


 

 

 

 

alshiglini@gmail.conm

هو أحد أهم شعراء السودان بعد محي الدين فارس ومحمد المهدي المجذوب ومحمد محمد علي وإدريس محمد جماع والحسين الحسن ومحمد الفيتوري، أما محمد المكي إبراهيم وصلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر وعبدالقادر الكتيابي، فهم من جيله .
تبتهج أرض السودان بثواره الذين سجدت لهم القبور، وحط الطير بأجنحته الهفهافة على صدور الذين لما يزالوا يهتفون. ونحن نحتفي بالشاعر" عالم عباس محمد نور"، ونذكر ليلة شعرية في بيروت شتاء نوفمبر عام 2008، وهو يلقي بالعديد من قصائده في جانب من معرض الكتاب ببيروت ، فنخلط كل ذلك بنثيرنا لعله يتطاول إلى شجر الشاعر الباسق.
(2)
هو "عالم عباس محمد نور"، الذي نحتفي بشاعرية قصائده، اللينة القوام. تحبل بالشكل والنار معاً. ويتشكل عنده اللون والدور، وهو حامل الهوى، وكل ذلك هو في الحرقة الحامية، يرتفعان عن سطح الواقع ويتوكأ على الحلم والخيال، فيطرب في دنيا موائده عند الشروق من اللحظة والهدف. على القريض والشعر، ثُلة ناعمة. والشاعر ذو ملامح فنية بحبره وقصائده، وتأنس كل مدينة ينتمي لها، تزغرد وسط الصحارى والمطر والتراب، في لغة صارمة من البيان والدعة، ترافقه الانسيابية، ليكن رسولاً إلى القارئ. فالشاعر يجرح ويعدّل كما يقول الباحثون في ثبت الأحاديث النبوية. ينزف حبر دمه ويصيبه الحزن واليأس، كما يصيبه الشوق والعطش العاطفي. يقلق ويخاف ويشتاق في بوتقة من الفصاحة. تنداح هي في روحانية طريفة، هادئة عند النزول من عليائها. "عالم عباس" يتقدم في وطنه، مع شبان وشابات وكهول بانت فصاحة اللغة الشعرية عندهم، عربية أو عربية هجين، يكتبون بعامية عربية مثل "محجوب شريف" و"محمد الحسن حميد". بروجها تطالع العالم المضطرب بدفء، إذ هنا يبحث هو في التراث. وأن يطربنا حين تخرج الفكرة والمعاني الملتفة بأوراق الكثيب الرملي والدغل، كالخضرة وسط الحجر، يسحب الشعر من مكمن خبائه. وأن الفكر والرؤى الحقيقية هي من رؤى الشعر، وفي المثاني فروع التماثل، فتكاد تستبين فكرته، ويغيب في لغته الشاعرة، فتستر عورة الكشف والانفضاح. وأن في السودان شعر يختبئ من وراء الغيوم في رباط من القوة والثورة، يمسك هناك، من المقام أو للتغيير التعبيري، متفقٌ ومختلف، قريبٌ هو وبعيد. وله نتاج سابق ودواوين كثيرة، وأنه يملك التقنية والسليقة والتميز.
(3)
في عام 2006، راسلني الشاعر، عندما كان يعمل بالمملكة السعودية، وبعث إلي بقصيدته: { أوراق سرية من وقائع ما بعد حرب البسوس (كما كشفها حفيد المُهَلْهِلُ بن ربيعة)} .وكان انجازاً شعرياً ضخماً، أشبه بالمعلقات التي كانت تُعلق على أستار الكعبة المشرفة في قديم الزمان. وكان عسيراً علي الكتابة عنها، فقد أصابتني الدهشة و( هاء السكتْ). ونحن نحاول اليوم فتح كوة في جسد القصيدة، علنا نقترب من شعاع ضوؤها.
*
ما أصدق شاعرنا الذي يستبطن وقائع التاريخ، ويستحلب الدسم. مرآته حاضرة، أخذت من ماضي الحروب والأحقاد دروس الحياة. (حرب البسوس) قامت بسبب ناقة لامرأة اسمها البسوس بنت منقذ، وذلك بين قبيلتي بكر وتغلب واستمرت 40 عاما من ( 494 إلى 534 م) عقب مقتل كليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس بن مرة (من قبيلة بكر و ابن أخت البسوس )، وانتهت الحرب بانتصار تغلب على بكر.
*
كان لحرب البسوس تأثير في الأدب العربي وخصوصا في شعر الرثاء والحماسة التحريض على الثارات. وقد استخدم الشاعر رموز التراث قبل البعثة المحمدية، في بعث مقابل فكري، وتجريد دلالي مثير. لقد قام الشاعر بصناعة أطراف قصة النزاع الوطني: من جزء سرق الدولة باسم العقيدة، وحرم الجميع من النهوض المشترك للوطن، من أجل فكرة عبثية. وأدعي ملكيته للعقيدة، يفعل ما يشاء، يلبس أعضاؤه جلباب الرب، ويكفرون منْ يشاءون. كل ذلك بلغة شعرية وقصصية ناصعة، وبسلاسة لغوية ممهورة بحذق، وسينمائية راقية.
(4)
و نقطف من موسوعية البناء الشعري للقصيدة، ونورد قطف قريب منها، عل القارئ أن يغتني الديوان الشعري بقصائده المنشورة:
أوراق سرية من وقائع ما بعد حرب البسوس (كما كشفها حفيد المُهَلْهِلُ بن ربيعة):
**
فلمّا وقفتُ أجادِلَهُمْ بالزَّبورِ التي بينهم، حذّروني، وهاجوا وماجوا، ومن بعد ما خَلَصُوا في الحديثِ نَجِيّاً، ركبوا رأسهم، ثم عاجوا فقالوا: "لنا دينُنا"!!
قلتُ: "لي دين"ِ
قالوا: "صبَأْتَ"، وقالوا:" خَسِئْتَ"، وقالوا وقالوا.
فقلت لهم: " قد كَذَبْتُمْ على الله"! قالوا: " ومن أنْتَ حتى تُحدّثُنا عنهُ؟"
عندئذٍ، شلَّني الرعبُ حين هوى فوق رأسي السؤالْ !
فلمّا أفَقْتُ، إذا هُمْ يقولون: "إنّا اخترَعْناهُ، هذا الذي هِمْتَ في حبِّه عاكِفاً، وإنّا صنعْناهُ من حُلْيِنا وهوانا، وأنّا ابْتَدعْناهُ، فَهْوَ لنا دونكم" !
قُلْتُ : "مهلاً، إذَنْ قد كَفَرْتُم"!ْ
فقالوا: " فنحْنُ الذين نُكَفِّرُ لا أنْتَ، نحنُ لدينا الكتابُ وأمُّ الكتاب
نُصوصُ القداسةِ صُغْنا عباراتها سُوَراً، وضربنا عليها الحجاب !
واحْتَكَمْنا لآياتِها كي نسُودَ عليكم، فنجْعَلُكم تحت أقدامنا، ثُمَّ نحنُ احْتَكَرْنا تفاصيلَها، فَنُفَسِّرَ كيف نشاء. فإنْ ما تناقَضَ الآنَ بعضُ الذي لا نُريدْ،
وما قدْ أردْنا،
نسَخْنَا، وصًغْنا الذي نشْتَهِي من جديد !
وأنَّا لَنُنْقِصُ في مّتْنِهِ ما نشاءُ، وأنّا نُزيد"!
"ثُمَّ منْ أنْتَ حتّى تُنازعَنا أمرنا، وما أنتَ منّا، ولا من قريشٍ، ولا مِن تَميم،
ولاَ في القريتينِ عظيم"!
وهَبُّوا غِضاباً إلى السيفِ، قالوا: "وما أنْتَ، ما أنْتَ؟ "
إنّما أنتَ ذَيْلٌ لنا، كلْبُنا قابِعٌ بالوصيد"!
**
قلتُ: "افْتَريْتُم على الله"!
قالوا: " افْتَريْنا، فماذا إذن! ألهذا أتيتَ تجادلُنا كيْ تسودَ وأنتَ الحقودُ الحسود؟
نحن نسلُ ثمود، ونحنُ أحبّاءُ هذا الإلهِ وأبناؤهُ نحن، قبل اليهود"!
غير أني طفِقْتُ أجادلُهم بالتي هيَ أحْسَنُ حتى أساءوا،
فقلْتُ "اجْعلوا ما لقيْصَر يمْضي لقيصر،
وما كان للهِ، لله، عَلَّ الذي بيننا اثْنانِ: دُنْيا ودينْ،
فَيَتّضِحُ الفَرْقُ، كي يَسْهُلَ الرّتْقُ، في ثوبِ هذا النِّزاع العقيم"!
فما قُلْتُ ذلك حتى انْبَرَوا، آخذينَ خناقي،
فشدّوا وَثاقي، وكانوا يقولون:
!" نحنُ الذين تنادَوا، ومَنْ "قيصرُوا" اللهَ نحنُ، ونحنُ نُؤلِّه قيصرَ كيف نشاءُ وأكثر
فما كان لله يمضي لقيصر!
حَكَمْنا.وإنّا، على ما نشاءُ تصير الأمور"!
فقُلْتُ: " ولكنكم تزعمون بأنّا سواءً، ولا فضْلَ إلاَّ بتقوى"؟
فقالوا: " صدقْتَ، فأنتم سواءٌ، ونحن سواءٌ، وشتّانَ بين السوائين"!
قُلْتُ: " فقد كان يجْمَعُنا الدينُ".
قالوا: " لقد كان، فالآنَ فرَّقنا الدينُ"!
قلتُ: " فهذا أوان الفراقِ إذنْ؟
فليكُنْ!
**
فماذا فعلتم بهذا الوطن؟
وهذا البِناءُ، وضعنا مداميكَه، والأساس معاً.
وما زال في الوُسْعِ تشييده شامِخاً،
كما قد بدأنا، ولكن معاً!
صحيحٌ، على كتفنا كان عبءُ البناءِ الكبير.
والدماءُ التي تتَدَفَّقُ في ساحة الحربِ، كانت دمانا،
ولا بأسَ أن كانَ أغلبنا في الضَّحايا،
وقود المعارك، والجند، والهالكين!
ويوم حملْتُم لواءَ القيادة، ما نازع النّفْسَ شكٌّ يمسُّ جدارتَكم حولها،
يوم ذاك، إذا كان حقاً يقال !
وقد كان ما بيننا الدينُ، والشرْعُ،
صدقُ المقالِ، وحُسْنُ الفِعالِ، ونُبْلُ الخِصال.
والعدلُ كان هو الفيصلُ الحقُّ، والحَكَمُ القسطُ، يوم النِّزال !
فما بالكم هؤلاء نكَصْتُمْ،
وآثَرْتُم الظلمَ، والحَيْفَ، جُرْتم؟
ما عقَدْتُمْ، نَقَضْتُمْ
ما رَتَقْتُم، فَتَقْتُمْ !
وها ما بنيْتُم هدمْتُمْ، وما زِلْتُمُ تفعلون !!:
بَني أُمَّ،
هذه الأرضُ، كتفاً بكتفٍ،
وكفّاً بكَفٍّ، شقَقْنا ثَراها، لنصنَعَ هذا الوطنْ.
سقَيْنا عُروقَ الرِّمالِ العَرَقْ،
سكبْنا الدموعَ، ليالي الأرَقْ !
صَبَغْنا النّجوعَ النَّجيعَ،
وسالت دمانا على كلِّ شقٍ، نشُقُّ الطُّرقْ،
فَكُنّا بنيها بِحقّْ!
فها أيْنَعَتْ،
وحان القِطافْ،
فما بالكم تفْترون علينا، وعن حقنا تمنعونا،
ونُمنَعَ حتى الكفاف؟
ونعطَشُ و النيلُ جارٍ لديكم،
**
وأنتم ترونا ظِماءً نموتُ، بقُرْب الضِّفاف!
ففيمَ نخافُ، وكيف نخافُ، وممَّ نخافْ؟
هو الظلمُ نخشى، وحَيْفَ القريبِ،
ونعجب كيف يرقُّ الغريبُ ويقسو الحبيب؟
سهِرنا عليكم زماناً،
وما ضَرَّنا لو تناموا ونصحو!
وقفنا الهجيرَ، نُظَللُّكم كي تسوسوا،
وذقْنا المراراتِ، كي تنعُموا بالعَسَلْ.
رعيناكمُ في المُقَلْ.
فكيف بني أُمَّ هُنَّا عليكم فأقصيتمونا،
وآذيتمونا،
فما بالكم تكْفرونَ العشير؟
وبالأمس كُنّا لكم إخوةً، قبل هذي الفِتَنْ!
وكنتم زعمْتُم أبانا أباكم،
ومن ثديِ أمٍّ رضعْنا،
نذرنا نموتُ وفاءً لهذا التُرابْ!
لماذا عبثتُم بأحلامنا
فغَدَتْ في السراب؟
لِمَ الآنَ صِرْتُم علينا؟
وصار لكم انتماءٌ جديدٌ، وعِرْقٌ، وسِنْخٌ،
سِوى ما عهِدْنا؟
أَلسْنا أتينا، كما النيل أزرقُ،
جئتُمْ، كما النيل أبيضُ،
ثُمّ التقيْنا على مَقْرَنٍ بَيِّنٍ،
وامتزاجٍ أصيل؟
...
عبدالله الشقليني
17يوليو 2019

 

آراء