التفاوض هو المحطة التي تنتهي لها كل النزاعات، مسلحة وغير مسلحة مثلما رصدت عدة جهات مختصة، ومثلما يسجل التاريخ والحاضر المعاش. و مهما مر الزمن، فالبقاء المتطاول في حالة الحرب مهلك للانسان ولموارد البلاد ويظل " الصلح خير" مثلما قال ربنا جلَ وعلَ. والتفاوض علم مكتمل الأركان:" يستهدف الوصول الى حلول مقبولة أو اتفاق يسهم في تحقيق مصلحة طرفين أو أكثر يربطهم موقف مشترك وغاية، بغية الوصول لتسوية سياسية أو غيرها". ومن خلاله يمكن حل النزاعات بين أطراف مختلفة في الأهداف تحاول عن طريق التفاوض التوصل لتفاهمات واتفاقيات مقبولة لدى الطرفين. الاتفاقيات بين أطراف النزاع قد تكون نتيجة انتصار حاسم يتمكن به الطرف المنتصر من إملاء رغباته وشروطه المجحفة كلها على الطرف الآخر مجردا له من كل مكسب لكن مثل هذه الاتفاقيات التي يفرضها طرف قوي على آخر مهزوم تحمل بذرة فناءها في داخلها لأنها عكس طبيعة الأشياء وسرعان ما ينقلب الطرف الأضعف مقاوما. كما قد تعقد الاتفاقات أيضا بين أطراف "يكون لدى كل طرف قدر معين من السلطة وقوة النفوذ لكن ليست لديه كل القوة لكي يملي إرادته فيكون التفاوض هو المخرج والخيار الوحيد". ديمومة الاتفاقات بين أطراف النزاع المسلحة أو في حالات الثورات والانتفاضات السلمية أو حتى بين الأفراد تعتمد تماما على ما توفره من مخاطبة عادلة لأسباب النزاع وضمانات بنزع فتيلها و حصول جميع أطراف النزاع على تلبية معقولة لمطالبها مقابل تنازلها طوعا عن المطالبة بتحقيقها كاملة- مثلما يحلم المنتصر بضربة قاضية، في سبيل اتفاق ومن أجل السلام. لإنزال هذه المعاني على ما يدور من مفاوضات الآن بشأن الوطن نذكّر بما حدث في السودان عند مجابهة الشموليات في عهد سابق لنجد أنه حينها تم أمر نقل السلطة ببساطة ودون عقبات . كان الشعب يخرج على الحاكم الظالم بالاجماع فينحاز جيش الوطن للثورة ويزيح النظم المغضوب عليها شعبيا. وبعد فترة قصيرة لحكومة انتقالية محددة الصلاحيات تجرى انتخابات نزيهة، تسلم بموجبها السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطيا. والجيش (المنحاز) حينها(اكتوبروابريل) لم يكن يضع نفسه طرفا في النزاع مثلما هو الحال اليوم ،و الشعب من جانبه لم يكن يتشكك في نوايا الجيش من حيث المصداقية في تسليم الحكم أو الثقة في رعاية انتخابات نزيهة تسمح بتحول ديمقراطي حقيقي. لكن،في المشهد الآن عدد من التعقيدات: - القوات التي انحازت هي في الأساس جزء من النظام الذي تم رفضه شبيا.. - تلبد سماوات السودان بأجندة خارجية تريد السودان مصدرا لجنود يقاتلون من أجل قضايا لا مصلحة للسودان فيها. - نظام الانقاذ الذي أتت به الحركة الاسلامية في 30 يونيو 1989 نظام جعل همه القعود على سدة الحكم في السودان حتى يرث الله الأرض ومن وما عليها، لذلك عمل جهده على ربط مصيره بمصير الدولة السودانية . ولخدمة هذا الهدف الأناني الخبيث نشر السلاح في كل مكان وسمح لمليشيات قبلية بالتحول لترسانة أسلحة باطشة ودجن الجيش ومع ذلك جرده من السلاح. - كما أن القوات المسلحة نظامية وغيرها والتي أعلنت انحيازها للثورة يبدو أن فكرتها لم تكن خالصة تماما لوجه ذلك الانحياز كما اتضح أن لتلك القوات أجندة تخصها مثلا: (استغلال الثورة وزخمها لازاحة البشير- وهو عقبة حقيقية، ثم الاستمرار في نظام الحكم القديم بدونه ،ربما مع بعض المرونة الديكورية وزيادة لهامش الحريات) . ومثلما كان هذا الاكتشاف صادما للثوار، فقد تفاجأ العسكرأيضا بأن الثورة التي عمت قرى السودان وحضره ثورة حقيقية لا يمكن استغلالها بحال لتكريس الاستمرارية أو لخدمة المصالح الخاصة وهي ثورة تنشد تغييرا حقيقيا كاملا و لا ترضى بأقل من: حرية، سلام، وعدالة! -ثم ازداد الوضع تعقيدا إثر هجوم غادر في 3 يونيو الموافق 29 رمضان انتهى بفض اعتصام القيادة الذي مثل أيقونة داخل السودان وللعالم الخارجي.تم الفض على يد قوى مسلحة كثيفة العدد لم يكشف عن كنهها بعد، مخلفا عشرات الشهداء والجرحى والمفقودين. إذن الوضع المثالي الذي جربناه من قبل في ثورتي(اكتوبر1964 وابريل 1985) غير منتظر اليوم و نحن أمام وضع مختلف جدا. هذه التعقيدات الجمة تلزمنا معرفتها لادراك حجمها وكمها كما يلزمنا الاعتراف بأن التغيير الذي حدث في 11 ابريل لم يكن ليحدث لولا امتناع اللجنة الأمنية حينها، عن تنفيذ أوامر البشير بفض الاعتصام بالقوة (وهنا يجب الانتباه عند أن فض الاعتصام قد حدث بالقوة فيما بعد)! إذن ما حدث كان شراكة: بين الثوار تمثلهم قوى الحرية والتغيير وبين اللجنة الأمنية التي خلفت نظام البشير المباد. هذا يعني ببساطة أن لكل طرف درجة معينة من السلطة والقوة لكن ليس بالقدر الذي يمكنه من إملاء شروطه على الطرف الآخر (لدى المجلس العسكري قوة السلاح والدولة ولدى الثوار قوة الشارع وسند الموقف الدولي ). مهما بلغت هذه التعقيدات التي عددناها في واقع سودان اليوم،فالتفاوض هو الخيار الأمثل ومثلما هو متوقع فقد اختار الطرفان التفاوض نهجا لتشكيل الوضع الانتقالي ولحسم القضايا العالقة وللخروج بالوطن الى بر الأمان ، وحسنا فعلوا. ويجدر بنا هنا التحبير على أن كل ذلك لا علاقة له البتة بحيوية وضرورة وحتمية إجراء تحقيق شفيف ومستقل بشأن مذبحة فض اعتصام القيادة ومحاسبة الجناة مهما كان موقعهم. على طرفي التفاوض معرفة الحل المثالي لكن أيضا الواقعي وعليهم ادراك أن التفاوض أخذ وعطاء مثلما أسلفنا وأن تنازل جميع الأطراف عن بعض المطالب هو شرط عملية تفاوضية ناجحة لتكون النتيجة كسبية لجميع الأطراف وتكون النتيجة كسبية لمستقبل السودان. على طرفي التفاوض قبل كل شيء إدراك أن عليهم مسئولية وطنية كبرى تحتم عليهم كظم الغيظ وهزيمة الأنفس الشح .عليهم التعالي على الصغائر وحمل الوطن في حدقات العيون. في خاتمة هذا المقال أتوجه بالتحية والشكر لمن يقاتلون من أجلنا..من أجل الوطن في معركة مفاوضات مارثونية مرهقة ومستنزفة إذ يربطون على جرح نازف أملا في كفكفة دموع الثكالى واليتامى وأملا في تطبيب جراح الوطن داعية لهم بالتوفيق والسداد فالتفاوض لا شك معركة حامية الوطيس يجب أن يخرج منها الوطن منتصرا. وسلمتم