بيني ما بينك مسافات الغياب

 


 

 

 

 

بيني ما بينك مسافات الغياب 

وحس المطرة في الارض اليباب
يتوارى لي زي حس طنابيرا حزينة
بتحكي في قصة عذاب
..
بيني ما بينك أسايا
عزيز منايا
بديع غُنايا
كتير سلامي
وانفعالي واكتمال الفرحة
في عينيك هدايا
..
بيني ما بينك
عذابات الطريق
وتخسيمة
نساوين الفريق
لي زول عزيز
يشرب عصير ريدتنا
يسكر ما يفيق
..
بيني ما بينك دموع القمرا
بتحن للرجوع
بتريدنا .. بتريدنا
بنخاف نحن في غيابها الطويل
نحتار وما نلقى الشموع ..

كلمات : دكتور مبارك بشير

(1)

هذا يوم للذكرى من دفتر التاريخ ليس له مثال في القص، ونبيح كلاب الصحراء من حُزن دفين ، يضاف إلى أحزان الزمان. بعد أن هدأ الضجيج ورقدت الأوراق المتساقطة، المصفرّة فوق بعضها. كان العشق أسطورة زمان، شيدها الحنين. حين اخضرت القلوب، فنبتت أزهارها من وسط حجارة خشنة. تسبيح الكائنات بصمت، كانت حاول أن يرى العشق النور. لكن المُشتهى صارت قناديل خاوية من الثمار. كما احترق العشق الأول ، وصار إلى الريح، ها هو العشق الثاني تعصف بها صحراء تغلب كل الظروف الطبيعية، تكاد تطيح بكل شيء.

(2)
عملا معاً ، وكانت طموحاته، تزاور مكاناً كان عزيزاً. وتخاصم كل العشق لديه عند بذوق شمس الطموح. رغب إسعادها، وفرَشَ مطية الطموح لمرقد حبيبته، رغم حيرته ماذا يفعل. وقلقت هي...، كانت تعرف أن الحياة مصائر، تتجاذب عندها الطموحات والواقع مع تقلبات العشق.
عظُمت الصراعات، وصمت الأصدقاء حين ظنوا أن فعل عاقلين، عاشقين يصلح ما بينهما كثير الصراح. كان كل منهما قد التبس شخصه مع الخوف، وشراكة قداسة معقدة .
كان الزمان نهاية سبعينات القرن العشرين. كيف صار الأمر، ونحن نحبس أنفاسنا. وفي قمة ذاك الصراع قرر أن يذهب مغترباً إلى المملكة السعودية. وقبل سفره ترك رسالة كثيفة الكلمات، تكاد تصارع هويتها بين الشعر والنثر. ظلت معي الرسالة كثير زمان مضى . كانت الحياة غير ما هي الآن. يحكي هو عن معاناته الشخصية من صراع العلاقة، وأفخاخها ، بين صراع الأنفس بين العشق والطموح. وكيف أنه لم يتوفق في أن يعيش حياته مع من أحب . وأن تلك السيدة على قدر كبير من عزة النفس . لم تتنازل في الصراع، وقررت بين نفسها أن تغتسل من هذا العشق، وتهجر الرجل الذي أحبت، رغم الندوب التي أضحت عسيرة على النسيان.

(3)
استوقفني قول الشاعر:
{وتخسيمة
نساوين الفريق
لي زول عزيز
يشرب عصير ريدتنا
يسكر ما يفيق}
فتذكرت بالقابل كتاب (موسم الهجرة إلى الشمال )، و ما قاله الراوي:
{ كانت أمي وأختي تلقطان مع بعض النسوة في أقصى البيت}. لعل توارد الخواطر هنا، تنبيه إلى تشابه لغة النساء عندنا في المثالين. وجزء من فلكلور لغة النسوة العامية، وهي تفض لفافة غطت على الطبيعة الفلكلورية للغة، حين تتمايز بين الذكور والإناث. لا أحد يمكن أن ينكر المكانة العريقة التي تحظى بها المرأة، والدور الأساسي الذي تقوم به داخل المجتمعات في مختلف الميادين والمجالات. هي إذًا الكائن الرقيق ذو الأحاسيس العظيمة التي ربما لا تستطيع لغات العالم أن تعبر عنها. في هذا الصدد، هل تخيلت يومًا أن هناك لغة قد تخترع خصيصًا من النساء ولا يفهمها سواهن. لغة كاملةٌ بمصطلحاتها وقواعدها. غريبة هي الفكرة، لكنها موجودة فعلًا !. ربما هي تكشف طبيعة الفصل في الحياة بينها وبين الرجل منذ تاريخ طويل، ما أخرج لغة بائنة الملامح ، تكشف دقة وصف الشاعر من طرف ودقة كاتب الرواية " الطيب صالح" من طرف آخر.
ربما كان الشاعر يحكي قصة انتزعها من الواقع والحياة، يأخذ من نهرها المتدفق، وينسج لنا قصص من وحيها ، يعثر عليها ملحن وثاب، يقلق منامها الهادئ، بلحنٍ يأخذ هويته من المكان والزمان. وتظهر لنا صورة أخرى دافئة، كأنها ساكنة، وهي تموج في باطنها بالكثير.

(4)
ترك العمل في المملكة، وعاد للوطن. وذهب في هجرة علمية عدة سنوات في بلد أوربي. قضى زمناً عسيراً، بين شوق واكتئاب. أسرف على نفسه كل الإسراف، وعاش حياتاً نفسية ممزقة الأوصال، ولكنه نجح في دراسته.
عاد من هناك، وقد أروى طموحه، وجاء بأفق جديد، وقد نضرته الصراعات، فظن أن الزمن ينتظر. فعاد إلى العشق القديم، كأن السيدة تنتظره. لم تتوفق هي في نسيان هذا العشق وتعبه النفسي، وارتفع سقفها من فوق الجُدُر، وعبر الهواء الرطب، وبلغ السماء البعيدة شأواً. وكانت قد ارتضت أن تعيش حياة واحدة بلا رجل.
صدته حين رجع بأشواقه القديمة يطلب رضاها، لتنتهي أيام حزنه القديم. ولكن الطرق على الحديد البارد غير الطرق على الحديد الحار. تركت هي كل شيء، ونزرت حياتها لإخوتها وأخواتها، ووجدت في حياتهم وكأنها الحياة.
ومضى العمر بطيئاً، مُثقل الخطى. ثم يعدو لا يلوي على شيء. ضفائر العمر ترقص مع الريح. ويمضى الزمان يحمل جرة ماء على كتفه. كأن الأمس حياً ودماء لسيف يقطّر من ضفتيه. انسكب الدفء وبلل المعاطف، ونسي الدهر أهله، وما انفكت القصة من سبيكة السرد، كأن الماضي جروح في الأنفس لن تبرى.

عبدالله الشقليني

25 يوليو 2019

alshiglini@gmail.com

 

آراء