مسألة حق تقرير المصير.. في حل قضيَّة جبال النُّوبة والنِّيل الأزرق (1 من 2)
shurkiano@yahoo.co.uk
مقدِّمة
إنَّ حق الاستقلال الوطني، الذي أصبح يسمَّى في خلال الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) مبدأ تقرير المصير، هو – بعبارة عامة – الاعتقاد بأنَّ أيَّة أمَّة لها الحق في إنشاء دولة مستقلَّة ذات سيادة، وتحديد وإعلان حكومتها الخاصة بها. وهذه الحكومة قد تأخذ صيغاً مختلفة كالحكم الذاتي أو الفيديرالي أو الكونفيديرالي، أو أن تبقى تلك الأمَّة في إطار الدولة الواحدة أو الانضمام إلى أو الاتِّحاد مع أيَّة دولة أخرى. وفي النظريَّة الثوريَّة يعني حق تقرير المصير أنَّ الشَّعب يملك الحق في صوغ دستوره، واختيار حكومته. وفي هذه الحال يمسي الشَّعب السلطة العليا، والعنصر الأساس الوحيد في الدولة، بحيث ينتقل من دور الرعيَّة إلى دور السِّيادة. وفي هذا المنحى ينبغي – نظريَّاً – أن تسود ثمة علاقة ما بين الأمَّة والدولة؛ إذ أنَّ الثانية تعني أي مجتمع سياسي يُحكم مستقلاً. ولعلَّ تأثير الأيديولوجيَّة الثوريَّة تتمثَّل في نقل المبادرة في نشأة الدولة من الحكومة إلى الشَّعب. وقد نشأ مفهوم الدولة عبر القرون بواسطة الحكومات المفروضة على الشَّعب من علٍ، والآن قد آن الأوان أن يأخذ الأمر مجرى آخر، أي من أسفل إلى أعلى، بواسطة إرادة الشَّعب. والنتيجة المنطقيَّة والحتميَّة في فكرة الدولة عند الثوَّار هي أن تأخذ القوميَّة شكل نظريَّة تقرير المصير القومي، وبخاصة حين تفشل الدولة المركزيَّة في إقناع شعوبها أن تعتبر نفسها مجتمعاً وطنيَّاً موحَّداً حيث بإمكانها أن تتعايش في دولة وطنيَّة موحَّدة. وفي حال هذا الإخفاق فعلى هذه الدولة أيَّة دولة أن تفقد تماسكها، وتتفرَّق كياناتها أيدي سبأ.
الخلفيَّة التأريخيَّة لمفهوم حق تقرير المصير
يعود أصل مبدأ تقرير المصير إلى الإعلان الأميريكي للاستقلال العام 1776م، والثورة الفرنسيَّة العام 1789م، وهو المبدأ الذي أنهى فكرة أنَّ الأفراد والشعوب هم رعايا الملك أو متاعه، حيث يمكن تحويله أو تغريبه أو التنازل عنه أو حمايته حسبما تستدعي مصالح الملك. وتصب مركزيَّة المبدأ في الإصرار الأميريكي أو الفرنسي على أن تكون الحكومة مسؤولة عن الشَّعب. وبما أنَّه قد تمَّ الإعلان عن حق تقرير المصير في فرنسا العام 1790م، إلا أنَّه كان قد تمَّ تضمينه في الفقرة 2 في المادة 13 من مشروع الدستور الذي قدَّمه الفيلسوف الفرنسي المركيز دو كوندورسيه (ماري جان أنطوان نيقولا كاريتا) إلى المؤتمر القومي في 15 شباط (فبراير) 1793م. وبما أنَّ القادة الفرنسيين – أثناء كتابتهم للفقرة 2 من الدستور إيَّاه – كانوا ينشدون هدفاً سامياً، غير أنَّهم أساءوا تطبيقه في الإجراءات العمليَّة. وتحديداً استخدموا نص تقرير المصير لتبرير احتلال أراضي تابعة لدول ذات سيادة لصالح فرنسا، ومن ثمَّ بات الاحتلال قانونيَّاً. ففي 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1790م – على سبيل المثال وبناءً على رغبة السكَّان في منطقة الألزاس في الالتحاق بفرنسا – أكَّد ميرلين دو دواي بأنَّ الألزاسيين جزءٌ لا يتجزأ من فرنسا، وينبغي من الآن وصاعداً أن لا يحكمهم الأمراء الألمان، الذين بسطوا سيادتهم على الإقليم عملاً بمعاهدة ويستفاليا العام 1648م.
إنَّ مزاعم التمسك بمبدأ تقرير المصير عبَّدت الطريق لفرنسا لتحتل مناطق أفينيون العام 1791م، وبلجيكا ومنطقة بلاتينيت العام 1793م. إذ تمَّ إجراء الاستفتاء في هذه الأقاليم، ومن ثمَّ تمَّ ضم هذه المناطق إليها. هكذا نجد أنَّ حق تقرير المصير لم يتم تبنِّيه وتطبيقه بعدالة؛ إذ كان الاستفتاء مقبولاً إذا جاءت نتيجته لصالح فرنسا، ومرفوضاً إذا أتت النتيجة بغير ذلك.
لم يكن تطبيق مفهوم حق تقرير المصير بهذه الطريقة التمييزيَّة هو المشكل فحسب، بل كان التفسير أيضاً يحتوي على نواقص داخليَّة. إذ كان مبدأ تقرير المصير بالطريقة التي بها تمَّ تضمينه في المدة 13 من مشروع الدستور الفرنسي العام 1793م محدودة في جانب منها. فقد تمَّ تطبيقه لتغيير حدود الدول؛ أما الشُّعوب التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الأجنبي، فلم يكن لهم الحق في تقرير المصير، ولا حتى الأقليات الإثنيَّة، أو المجموعات الدِّينيَّة أو الثقافيَّة. وفوق ذلك، لم يشر المبدأ صراحة إلى حق الشَّعب في اختيار حكامهم، أي ما يُعرف اليوم ب"تقرير المصير الداخلي"، أو "تقرير المصير كمعيار لشرعنة ديمقراطيَّة الدَّولة".(1)
برغم من هذه النواقص والعطوب، إلا أنَّ أهميَّة إعلان الثورة الفرنسيَّة فيما يختص بحق تقرير المصير في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ينبغي ألا يتم التقليل من شأنه. فقد تطوَّر هذا الحق ضمنيَّاً، وذلك انطلاقاً من الرُّوح الدِّيمقراطيَّة ضد الديكتاتوريَّة، وألهم الثوَّار الفرنسيين في الأعوام 1789-1792م، وبعث فيهم روحاً ثوريَّة. ولعلَّ حق الشُّعوب في تقرير المصير الخارجي تعود أصوله إلى هذه المبدأ الأولي، والذي كان الغرض منه، والهدف من إعلانه، هو السماح للدول لتبرير منح الأراضي لدولة ما في معارضة دولة أخرى. وبمجرَّد ميلاد مفهوم تقرير المصير، بات حتميَّاً أن يلعب المفهوم دوراً رائساً في تطوُّر المجتمع الدولي. ومن ثمَّ انتقل المفهوم من فرنسا إلى الجارة إيطاليا، حيث استخدمه جيوسيبي مازيني في محاولته لتوحيد إيطاليا، والسِّياسي المشرع الإيطالي بي أس مانسيني كنقطة انطلاق لنشاطه تحت عباءة مبدأ القوميَّة. ثمَّ جاءت الحرب العالميَّة الأولى العام 1914م، والثورة البلشفيَّة العام 1917م، ومن ثمَّ ظهر المفهوم إيَّاه في المسرح السِّياسي الدولي.
تقرير المصير في النظريَّة والتطبيق في الاتِّحاد السوفييتي
كان الزعيم السِّياسي السوفييتي فلاديمير لينين (1870-1924م) يجادل في أكثر صدقاً بأنَّ هناك محتوى ديمقراطيَّاً في قوميَّة أيَّة أمَّة مضطَّهدة، وفي هذه الحال ينبغي دعمها، وذلك برغم من طبيعتها البرجوازيَّة. وتحت تأثيره تبنَّى المؤتمر الثاني لحزب العمال الرُّوسي الاشتراكي-الدِّيمقراطي العام 1930م حق تقرير المصير لكل القوميَّات التي شكَّلت أجزاء الدولة الرُّوسيَّة. فقد أكَّد لينين أنَّ القوميَّة العدائيَّة هي المشكل، وليست القوميَّة الدِّفاعيَّة.
أما السِّياسي السوفييتي الآخر جوزيف ستالين (1878-1953م) – في تعريفه للأمَّة – كان قد استبعد مفهومي العرق والقبيلة. إذ قال "إنَّ الأمَّة ليست عرقيَّة أو قبليَّة، بل مجتمع من الشَّعب تكوَّن تأريخيَّاً." ومن هذا المنطلق نجده كان قد وافق على التفسير السِّياسي الغربي لأساس الجنسيَّة. وفي الحين نفسه لم يقرن الأمَّة بالدَّولة. ثمَّ مضى معرِّفاً "الأمَّة بأنَّها مجتمع مستقر، وهو ذلكم المجتمع الذي تطوَّر تأريخيَّاً من اللغة والأرض والحياة الاقتصاديَّة والنشأة السيكلوجيَّة (النفسيَّة)، وتمظهر ثقافيَّاً." ومن خلال هذا الفهم للأمَّة، أعلن ستالين أنَّ لها الحق في تقرير المصير، وأنَّ لها الحق أيضاً في تنظيم نفسها على أساس الحكم الذاتي، أو الدخول في علاقات فيديراليَّة مع الأمم الأخرى، أو الحق في الانفصال الكامل. فكل الأمم لها السِّيادة، ثمَّ إنَّها لمتساوية. وسوف تكون هناك دوماً أقليات إثنيَّة أو لغويَّة في الحكم الذاتي الإقليمي، وهذه الأقليات لا ترغب في أن يتم التحاقها بأقليات متساوية في أماكن أخرى، ولكنها ترغب في حقوق حقيقيَّة في المحلِّيات التي تسكن فيها.
ونتيجة إحساس الدولة السوفييتيَّة بأنَّ حق تقرير المصير ليس كافياً، وفي سبيل إحراز الفوز على الدِّيمقراطيَّات الغربيَّة في مساندة الأمم التابعة لها استبدلت الدولة السوفييتيَّة حق تقرير المصير بحق الانفصال. هكذا كتب ستالين تقريراً عن المسألة القوميَّة العام 1917م على أساس أنَّ الأمم المضطَّهدة، والتي تشكِّل جزءً من روسيا ينبغي أن تُسمح لها بالحق في أن تقرِّر بمحض إرادتها ما إذا كانت ترغب في أن تكون جزءً من الدولة الرُّوسيَّة، أو الانفصال وتكوين دول مستقلَّة. إذ كانت الحادثة التي رسمت العلاقة الكليَّة بين الصقور والمسألة الوطنيَّة هي الثورة الرُّوسيَّة؛ وكانت إحدى الخطوات التي أعلنت عنها الحكومة الرُّوسيَّة المؤقَّتة في أذار (مارس) 1917م هي أنَّها تهدف إلى الوصول إلى السَّلام على أساس حق الأمم في تقرير مصائرهم. إزاء ذلك أوصى مؤتمر عموم الرُّوس بأنَّ للأمم المكوَّنة كجزء من روسيا الحريَّة المطلقة في أن تنفصل وتكوِّن دولاً مستقلَّة ويتم الاعتراف بها. ومن ثمَّ طالب الحزب بالآتي:
(1) الحكم الذاتي الإقليمي ذي قاعدة عريضة.
(2) إلغاء الوصاية من علٍ.
(3) إلغاء لغة الدولة الإجباريَّة.
(4) ترسيم حدود أقاليم الحكم الذاتي بواسطة السكَّان المحليين، وذلك بناءً على الظروف الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتركيبة القوميَّة للسكَّان وغيرها.
بناءً على هذه الاعتبارات انفصلت فنلندا. بيد أنَّ ستالين كان يقول إنَّه شخصيَّاً يرفض انفصال الأمم القوقازيَّة، ولكن إذا قرَّرت الشُّعوب القوقازيَّة أن تنفصل فسوف لا يجدون أيَّة معارضة منا. ومن ثمَّ أخذ يعدِّد عناصر البرنامج القومي للثورة البلشفيَّة في أربعة اقتراحات:
(1) الاعتراف بحق الشُّعوب في الانفصال.
(2) الحكم الذاتي الإقليمي للشُّعوب التي تبقى داخل حدود دولة ما.
(3) سن قوانين محدَّدة تضمن حريَّة التنمية للإثنيات القوميَّة.
(4) جسم جمعي موحَّد غير مجزَّأ للبروليتاريا، أو حزب واحد للبروليتاريا لجميع القوميَّات في الدولة المعنيَّة.
ففي أواخر العام 1936م منح الدستور الجديد للدولة السوفييتيَّة الحق للجمهوريَّات المكوِّنة للاتِّحاد السوفييتي في الانفصال. بيد أنَّه في المؤتمر الاستثنائي للسوفييت الذي عُقد لمناقشة مشروع الدستور قدَّم ستالين ثلاثة إيضاحات في هذا الأمر، وهي:
(1) قال إنَّه لينبغي أن لا يكون حق تقرير الانفصال عن الاتِّحاد السوفييتي حقاً عابراً، ويجب أن لا تكون الجمهوريَّة التي ترغب في الانفصال محاطة بالأقاليم (أو الأراضي) التابعة للاتِّحاد، بل ينبغي أن تقع داخل حدودها الخاصة بها، لأنَّ في الحال الأولى سيكون الأمر مستحيلاً أن تنفصل عن الاتِّحاد.
(2) ينبغي أن لا يكون سكَّان الجمهوريَّة التي ترغب في الانفصال أقل من أقليَّة محدَّدة، لأنَّ في غير ذلك سوف لا تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد إغارات وحوش الإمبرياليَّة المفترسة.
(3) وفي مسألة السكَّان سوف يشكِّل أحد الإثنيات الأغلبيَّة الصلبة.
إزاء هذه الإيضاحات اعترفت السوفييت باستقلال كل من فنلندا وبولندا وبحدود أكثر توسُّعاً مما كان متوقعاً، وذلك لأنَّ التدافع نحو السَّلام كان أمراً مستعجلاً. وإنَّ الاتِّفاقات التي بموجبها نالت الدولتان استقلالهما قد تمَّ التفاوض عليها مع دول بحر البلطيق والدول القوقازيَّة. وفي نهاية الأمر نستطيع أن نخلص إلى الآتي:
أولاً: لقد وجد مبدأ تقرير المصير حيزاً في الخطة السوفييتيَّة للقوميات، التي لم تكن متصالحة مع روسيا نسبة لأسباب تأريخيَّة، وكانت منفصلة من الناحية الإقليميَّة كالفنلنديين والبولنديين.
ثانياً: أما حق تقرير المصير من الناحية النظريَّة فقد كان ما هو إلا عبارة عن شكل من أشكال التعبير عن مبدأ المساواة القوميَّة.
ثالثاً: تمَّ القضاء على سلطة العناصر المتواجدة في الأقليات السكَّانيَّة، والتي ظلَّت تحمل عداوة طبيعيَّة ضد النِّظام السوفييتي، مثل ملاك الأراضي الإقطاعيين والقساوسة والبرجوازيَّة.
رابعاً: تمَّت مخاطبة عدم المساواة اللغويَّة والثقافيَّة إيجابيَّاً عن طريق إجراءات تمَّ تصميمها في سبيل إنعاش الثقافة القوميَّة، وتشجيع التنمية الاقتصاديَّة.
خامساً: أمست السيطرة على كل خيوط السُّلطة الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة في يد السلطات السوفييتيَّة، ولكن لم تعن ذلك غياب نشاط محلِّي معتبر.
ففي المؤسَّسات المركزيَّة لاتِّحاد الجمهوريَّات السوفييتيَّة تمَّ الإقرار النَّظري بطبيعة الدولة ذات القوميَّات المتعدِّدة، وذلك نسبة لوجود سوفييت القوميات، حيث يتمُّ انتخابها بواسطة الجمهوريَّات المكوِّنة لها ذاتيَّاً، والمحافظات ذات السلطات الذاتيَّة والأقاليم القوميَّة، وتُحظى بحقوق متساوية مع سوفييت الاتِّحاد. إذ أنَّ التأسيس والحفاظ على الاتِّحاد السوفييتي بواسطة أقليَّة النِّظام الجديد احتاجا بالطبع إلى قمع بدون رحمة خلال فترة التأسيس، ولكن – على الأقل – تمَّ رسم خارطة في سبيل انفصال القوميات من السِّيادة، والتي بموجبها يمكن أن يتمُّ هذا الانفصال في أسعد الأيَّام. إذاً، ما الذي جعل الاتِّحاد السوفييتي متماسكاً لفترة ناهزت سبع حقب، وذلك قبل أن تنشطر أجزاؤها في مستهل التسعينيَّات من القرن المنقضي؟
لقد تمَّ تماسك قوميات الاتَّحاد السوفييتي، وتوقَّفت مشاعرها القوميَّة من أن تتطوَّر إلى الانفصال في ذلك الرَّدح من الزمان من خلال وسيلتين: أولاً، وفي حقيقة الأمر، استطاعت الشُّيوعيَّة أن تؤسِّس مثالية مقبولة بشكل عام دفعت بتقدُّم الاتِّحاد كليَّاً، وكانت هذه المثاليَّة هي الرابطة الروحيَّة التي جمعت هذه الشُّعوب كلها، وأمست شكلاً جديداً من القوميَّة، التي لم تكن سيئة لأنَّها تمَّ توجيهها إلى التقدُّم الداخلي، وليس من أجل التدخُّلات في الشؤون الداخليَّة للدول الأخرى، أو الاحتلال الخارجي. ثانياً، صار الاتِّحاد السوفييتي رابطة اقتصاديَّة، بحيث لا يمكن أن ينفصل أي جزء منه دون أن يؤثِّر على الجزء والكل معاً، وكذلك أمسى صرحاً دفاعيَّاً، وباتت هذه الأجزاء مهمَّة في الحين نفسه لبعضها بعضاً من وجهة النَّظر الإستراتيجيَّة. ومن ثمَّ بدا وجود الاعتماد المتداخل اقتصاديَّاً وعسكريَّاً في القمة، والحكم الذاتي المحلِّي والحكم الذاتي الثقافي، والمساواة القوميَّة في أسفل السُلم الاجتماعي.(2) هذا ما كان من أمر هذا المشروع المثالي. مهما يكن من شيء، فقد ظلَّت هناك ثمة أخطاء هي التي تضافرت – مع وجود العوامل الخارجيَّة بالطبع – وأدَّت إلى تشظِّي الاتِّحاد السوفييتي، وهذا مجال آخر للحديث حيث لا تسمح الورقة التي بين أيدينا لسرده هنا. ففي كل نظريَّة نجد بداخلها جرثومة الفناء، وبخاصة إذا لم يتدارك القائمون بالأمر، أو الآباء المؤسِّسون، الانتباه إليها، والعمل على تحييدها في بادئ الأمر.
تطبيق حق تقرير المصير في معاهدات السَّلام العام 1919م
حين تمَّ افتتاح مؤتمر السَّلام بعد الحرب العالميَّة الأولى العام 1919م في العاصمة الفرنسيَّة، باريس، كان المبدأ الشائع هو حق تقرير المصير لكل الأمم. ففي الحين الذي فيه أخذت القوى الأكثر رجعيَّة في المجتمع الغربي تسير في اتجاه الإمبرياليَّة المعسكرة، شرع اليسار تحت نفوذ الأيديولوجيَّة الاشتراكيَّة في اعتبار الحركة القوميَّة خدعة برجوازيَّة لانحراف العمال من مصيرهم الحقيقي. إذ أخذ بعض مدارس الفكر الاشتراكي، علاوة على استهجان القوميَّة، يستنكر الدِّيمقراطيَّة، على الأقل في ممارستها في المجتمع الرأسمالي. وقد كانت هناك ثمة أحزاباً اشتراكيَّة في النَّمسا وروسيا، وهي التي كانت لها الاستعداد في دعم الحركات القوميَّة كوسيلة لإضعاف الإمبرياليَّة الرأسماليَّة.
ومنذ إعلان حق تقرير المصير وفاءً بما أعلنه الرئيس الأميريكي الأسبق وودرو ويلسون العام 1919م في مؤتمر الحلفاء في باريس بعد أن وضعت الحرب العالميَّة الأولى أوزارها، بدا جليَّاً أنَّ ويلسون كان يهدف إلى إعادة ترسيم خارطة أوروبا، حتى يصبح الذين يتحدَّثون لغات مشتركة مجتمعين في دول مستقلَّة.(3) بيد أنَّه كان واضحاً أنَّ الوفد البريطاني كان يرغب في أن يكون حق تقرير المصير محصوراً في أوروبا، بينما اتَّضح أنَّ الوفدين الفرنسي والإيطالي كانا يسعيان إلى أن يكون ذلك الحق مثاليَّاً. ومن هنا يتَّضح أنَّ تحويل النظريَّة من الفكر أو المفهوم إلى التطبيق يمكن أن يكون أمراً شاقاً. وحينما أرسلت لجان التحقيق إلى السكَّان المعنيين بالأمر لاستطلاع آرائهم كانت وجهات نظرهم متطابقة بينهم وبين قادتهم، وكانت إجابتهم هي أنَّ غياب العدالة هو الذي يدفعهم إلى المطالبة بحق تقرير المصير. وفي هذه الأثناء كان أغلب القوميين في سلوفاكيا يرغبون في الاستقلال، ولم تكن لهم الرَّغبة في الاتِّحاد مع التشيك، لذلك نرى أنَّ الاتِّحاد الذي تمَّ قهراً يومذاك انهدَّ في نهاية الأمر، ومن ثمَّ انشطرت الدولة إلى جمهوريَّتي سلوفاكيا والتشيك العام 1993م، وكان ذلك لأنَّ الاتِّحاد كان في بادئ الأمر يعبِّر عن الرَّغبة في الهُويَّة القوميَّة لجزء من العناصر الرائسة في الدَّولة الوليدة، ولم يكن يمثِّل حقيقة ماثلة في ذلك الرَّدح من الزمان.
على أيٍّ، فقد فشلت الدول في التطبيق الأمثل لحق تقرير المصير نسبة للمصالح الذاتيَّة للنُّخب الحاكمة في الحكومات المركزيَّة في هذه الدول نفسها. ففي نهاية الأمر أعلن ويلسون أنَّه إذا كانت رغبة النَّاس أي ناس في العالم في حق تقرير مصيرهم، وكان من المحتمل أن تؤثِّر الرَّغبة إيَّاها على السَّلام في العالم، أو العلاقات الجيِّدة بين الأمم، فيصبح هذا الأمر قضيَّة عصبة الأمم (الأمم المتَّحدة لاحقاً). فالديبلوماسيُّون الذين تبنوا فكرة عصبة الأمم كانوا يُحظون بمثاليات، حيث وضعوا هذه المثاليات في مسألة حق تقرير المصير؛ وهذه المثاليات كانت تتمثَّل في الإيمان بحتميَّة وجود دول مهما كانت صغيرة أو كبيرة، والإيمان بحق السِّيادة القوميَّة المطلقة. والسؤال الجوهري الذي بدأ يطرح نفسه بإلحاح هو إذا كان حق تقرير المصير يعتبر من منطلق هذه النظريَّة حقاً من الحقوق، إذاً كيف يُفهم هذا النوع من الحق؟ وهل هو حق تقرير المصير الذي تسمح به حالات معيَّنة، وتحدَّه مزاعم الحقوق الأخرى المنافسة؟ أم أنَّه حق مطلق لا تحدُّه حدود؟
على أيَّة حال، نستطيع أن نقول إنَّ قوَّة حق تقرير المصير كانت قد حقَّقت نصرها الحقيقي قبل وقف الهدنة في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) من خلال التمرُّدات القوميَّة، حيث أوجدت ظروف الحرب هذه الفرصة. وفي أثناء مؤتمر السَّلام في باريس تحوَّل حق تقرير المصير من موضع الهجوم إلى الدِّفاع، ثم أخذ حق تقرير المصير يظهر باستمرار في كل النقاشات التي تمَّت من أجل حسم أي نزاع للأراضي. إذ لم يأت حق تقرير المصير بمجرَّد صدفة في حسم الصِّراع بعد الحرب، بل اعتبره الرأي العام العالمي – مع المبادئ التي حملتها عصبة الأمم – الأساس الأخلاقي للسَّلام.
وللكلام بقيَّة،،،،،