مسألة حق تقرير المصير: في حل قضيَّة جبال النُّوبة والنِّيل الأزرق (2 من 2)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk


الحكم الذاتي.. والطبيعة المتغيِّرة

كلمة الحكم الذاتي "أتونوميا" (Autonomy) أصلها يوناني، ومعناها حكم سياسي لمجموعة من البشر في تجمُّع مدني واحد تُسن قوانينه دون أي تدخل من عناصر خارجيَّة. وقد انتشر هذا المصطلح في اليونان منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ثمَّ أصبح بعد ذلك مصطلحاً سياسيَّاً مرادفاً للسُّلطة المستقلَّة والحرَّة. أما تعريف المصطلح اليوم فهو يعني علاقة معيَّنة لجهة سياسيَّة أو اجتماعيَّة تخضع لقوَّة سياسيَّة أو اجتماعيَّة أكثر شموليَّة واتِّساعاً، على أنَّ المجموعات الدِّينيَّة والعرقيَّة، أو المجموعات الثقافيَّة والاقتصاديَّة تحافظ على استقلاليَّة معيَّنة عن السُّلطة المركزيَّة للحكومة.
إذ أنَّ هناك ثمة فرقاً بين حكم ذاتي إقليمي يُمنح لمجموعة من النَّاس يعيشون على أرض معيَّنة، وبين حكم ذاتي شخصي يُمنح لأصحاب معتقدات معيَّنة غير متمركِّزين في إقليم معيَّن لبلد ما، ولكنهم موزَّعون على كل مساحة البلد، ومختلفون مع باقي السكَّان. إنَّ مصطلح الأتونوميا مصطلح عام وغير محدَّد، ويستعمل على الحكم الذاتي المحدود، ومدى التحديد، وطبيعته متغيِّرة من حال لأخرى. وبشكل عام يأتي الحكم الذاتي وفقاً لمجموعة الصلاحيات الممنوحة له والصلاحيات التي بقيت خارج سلطته.


أسباب الحكم الذاتي

هناك أسباب كثيرة تدفع بأطراف القوى السِّياسيَّة لإعطاء الحكم الذاتي، ويمكن الاطِّلاع على تلك الأسباب من خلال المعرفة بالسوابق التأريخيَّة له. فهناك قرابة 91 نموذجاً لمناطق الحكم الذاتي في العالم متشكِّلة في 52 دولة، وهذا عدد كبير إذا ما أدركنا أنَّ تعداد دول العالم يزيد عن 150 دولة. ففي بعض الحالات يُعطى الحكم الذاتي لمنطقة معيَّنة عندما تنتقل فيها السِّيادة لدولة أخرى أثناء الحرب، وأقرب مثال لذلك مدينة "مملة" الواقعة على بحر البلطيق. ففي الحرب العالميَّة الأولى انتقلت السِّيادة علنيَّاً من ألمانيا إلى ليتوانيا، ومُنحت هذه المدينة الحكم الذاتي بقرار من الحلفاء.
وسبب آخر لمنح الحكم الذاتي هو مركزيَّة الحكم، كأن تكون مساحة الدَّولة كبيرة، مما يصعب على الدولة المركزيَّة متابعة وضبط السيطرة على كل مناطق الدولة، فتُعطى الحكم الذاتي لبعض المناطق، وهذا مشابه إلى حد ما للوضع في الدول الفيديراليَّة (الاتِّحاديَّة) كما في جمهوريَّة روسيا الاتِّحاديَّة، حيث توجد شعوب تُحظى بالحكم الذاتي مثل جمهوريَّات الشيشان والأنجوش وداغستان وأدريغا وغيرها.
وسبب ثالث لمنح الحكم الذاتي هو الوحدة بين الدُّول، فعندما تتَّحد دولتان تبقى إحداهما في وضع الحكم الذاتي مثل الوحدة بين تنجانيقا وزنجبار في شرق إفريقيا. فقد حصلتا في الستينيَّات على استقلالهما، وفي العام 1964م اتَّحدتا فيما بينهما وسُمِّيت الدَّولة الموحَّدة تنزانيا، وتُحظى زنجبار بحكم ذاتي، وهناك ثمة حالات يُمنح فيها الحكم الذاتي كخطوة مرحليَّة للحصول على الاستقلال كما تمَّ في الاتِّفاق بين الحكومة المصريَّة وحكومة المملكة المتَّحدة لبريطانيا العظمى وشمال أيرلندا بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسُّودان في 12 شباط (فبراير) 1953م، وناميبيا قبيل استقلالها العام 1990م. وهناك أسباب أخرى أيضاً منها: أن تطالب مجموعة من السكَّان في منطقة معيَّنة بالانفصال عن الدَّولة التي تعيش تحت سيطرتها، ولكن هذه الدولة ترفض الانفصال، فالتسوية الممكنة في نهاية الأمر في هذه الحال هي إعطاء حكم ذاتي، ومثال ذلك الأكراد في العراق الذين طالبوا بالانفصال عن العراق وتشكيل دولة كردستانيَّة، إلا أنَّ المفاوضات مع السُّلطة في بغداد أدَّت إلى التوصُّل إلى اتِّفاق الجزائر العام 1975م، والذي بموجبه مُنح الأكراد الحكم الذاتي بدلاً عن الانفصال. وكذلك الحال في جنوب السُّودان حينما توصَّلت الحكومة السُّودانيَّة مع حركة تحرير جنوب السُّودان، التي كانت تطالب بالانفصال، إلى اتِّفاق أديس أبابا العام 1972م، ومُنح أهل الجنوب الحكم الذاتي الإقليمي بموجب الإتِّفاق إيَّاه.


أنواع الحكم الذاتي

تتراوح أنواع الحكم الذاتي بين مناطق لها صلاحيات واسعة – بما فيها صلاحيات التشريع – ومناطق لا يتعدَّى فيها الحكم الذاتي الحكم الإداري فقط. وهناك نوع آخر من الحكم الذاتي هو الحكم الذاتي الشخصي – كما أشرنا إليه آنفاً – وهو الذي اقترحته دولة إسرائيل على الفلسطينيين في المناطق المحتلة، وهذا يسري فقط على أشخاص معيَّنين وعلى سكَّان معيَّنين، وهم القاطنون في المنطقة المنفَّذ بها الحكم الذاتي، ومثال هذا النوع من الحكم الذاتي يتمثَّل في الاتِّفاقيات التي تمَّ التوصُّل إليها بعد انتهاء الحرب العالميَّة الأولى، والتي تضَّمنها منح الأقليات التي تعيش في الدول التي نشأت بعد الحرب حكماً ذاتيَّاً شخصيَّاً في المواضيع الداخليَّة المختلفة مثل التَّعليم والدِّين والخدمات الاجتماعيَّة. وتحافظ الدولة المركزيَّة "الأم" التي منحت الحكم الذاتي لمنطقة معيَّنة على صلاحيتها وتأثيرها من خلال الطرق التالية:(4)
(1) أحقيَّتها في الحسم في قضيَّة تعيين القائمين على الحكم الذاتي.
(2) الحفاظ على بعض الصلاحيات بيد الدولة المركزيَّة في كثرٍ من الأمور، منها الأمن والعلاقات الخارجيَّة والنقل البحري والبري والجوي والاتِّصالات والجمارك والتجارة وما إلى ذلك.
(3) حق الدَّولة المركزيَّة في الاعتراض على ما تقوم به سلطة الحكم الذاتي خارج صلاحياتها.
(4) حق الدَّولة المركزيَّة في فرض عقوبات على منطقة الحكم الذاتي في حالة تجاوز هذه السُّلطة للصلاحيات الممنوحة لها.
مهما يكن من شيء، فدعنا ننظر إلى بعض المناطق أو الأقاليم التي فيها تمَّ إنفاذ هذا الإجراء الدستوري كحل للقضايا السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة في العالم عامة، أو الجوار الإفريقي خاصة.
ففي نهاية الحرب العالمية الأولى بعث الأكراد بمبعوث خاص بهم هو الجنرال شريف باشا إلى مؤتمر السَّلام الذي انعقد في فرساي في فرنسا العام 1919م، وكان المبعوث الكردي قد طالب بإنشاء دولة كرديَّة تضم القسمين الشمالي والجنوبي من كردستان. وفي 10 آب (أغسطس) 1920م أُبرِمت معاهدة سيفر بين حكومة السلطان العثماني في استانبول وبين الدول الأخرى المعنيَّة بالأمر،(5) وخصَّصت الاتِّفاقيَّة عدة نصوص منها لحل المسألة الكرديَّة، وذلك بإنشاء كيان كردي يتمتَّع في البداية بحكم ذاتي واسع، بحيث يتحوَّل فيما بعد إلى دولة مستقلَّة. ولكن في هذه الفترة حدث تغيُّر جذري في السِّياسة البريطانيَّة إزاء المسألة الكرديَّة، وذلك حين بدأت تعمل على إلحاق ولاية الموصل بالمملكة العراقيَّة التي تشكَّلت العام 1921م من ولايتي بغداد والبصرة. وفي تلك الأثناء أيضاً نظَّمت الإدارة البريطانيَّة المنتدبة على العراق وكردستان استفتاءً العام 1921م حول قبول الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، فرفضت المنطقة الكرديَّة بأغلبيَّة ساحقة قبول الأمير فيصل. ولم تصبح ولاية الموصل، ذات الأغلبيَّة الكرديَّة، جزءً من المملكة العراقيَّة إلا حينما أرسلت عصبة الأمم لجنة لتقصِّي الحقائق إلى ولاية الموصل، اتَّخذ بعدها مجلس عصبة الأمم قراراً في اجتماعه السابع والثلاثون، الذي انعقد في جنيف في 16 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1924م أُعطيت بموجبه جميع الأراضي الواقعة جنوب الخط المسمَّى ب"خط بروكسل"، إلى الدولة العراقيَّة الجديدة. ومنذ ذلك الحين، اندلعت ثورات وانتفاضات مسلَّحة طالبت في البداية باستقلال كردستان، ثمَّ بتحقيق الأهداف القوميَّة للشَّعب الكردي في اتِّحاد اختياري مع الشَّعب العربي في العراق. ومن تلك الثورات ثورة الشيخ محمود في الفترة ما بين (1918-1931م)، ثمَّ ثورات برزان في الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن المنصرم.(6) لقد طالب أبناء كردستان بحق تقرير مصيرهم بأنفسهم، وذلك بأن يكون لهم الخيار والحريَّة في نوع نظام الحكم الذي يناسبهم، وهذا الحق نابع من مبدأ المساواة بين الأمم والشُّعوب، والإخلال به يُعد إخلالاً بممارسة الحقوق الأساسيَّة للإنسان وللشُّعوب.
وعند إبرام معاهدة لوزان بين حكام أنقرة من جهة، وحكومات كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان ورومانيا والصرب والكروات من جهة أخرى في 24 تموز (يوليو) 1923م نسخت نصوص معاهدة سفر، وحصلت هذه الدول بموجبها على مبتغاها. وفي كانون الأوَّل (ديسمبر) 1925م ألحقت بريطانيا الموصل بالدولة العراقيَّة، وكانت قد مهَّدت لعمليَّة الإلحاق هذه بإصدار تصريح رسمي مشترك في 24 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1923م، وجاء في هذا التصريح "أنَّ حكومة صاحبة الجلالة البريطانيَّة والحكومة العراقيَّة تعترفان بحق الكرد الذين يعيشون داخل حدود العراق في إقامة حكومة كرديَّة ضمن هذه الحقوق، وتأمل الحكومتان أنَّ العناصر الكرديَّة على اختلافها ستتوصَّل بأسرع ما يمكن إلى اتِّفاق فيما بينها حول شكل تلك الحكومة، وحول الحدود التي ترغب أن تمتد إليها، وأن يرسلوا موفدين ذوي صلاحيات إلى بغداد للتداول في العلاقات الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة مع حكومة صاحبة الجلالة البريطانيَّة والحكومة العراقيَّة."
برغم من العبارات الصريحة الواردة في هذا الاتِّفاق البريطاني-العراقي التي توضِّح أنَّ الكرد في كردستان العراق لهم الحق في تأسيس حكومة كرديَّة، والدخول في مفاوضات مع الحكومتين البريطانيَّة والعراقيَّة، إلا أنَّ الحكومة العراقيَّة لا في العهد الملكي ولا في العهد الجمهوري لم تتقيَّد بنصوص هذا الاتِّفاق، الذي اشترط لدي إصداره عدم صدور أي تشريع في المستقبل يخالف أحكامه. وفوق ذلك كله، نجد أنَّ بريطانيا والدول ذات المصالح السِّياسيَّة والاقتصاديَّة في المنطقة قد أضاعوا حقوق الأكراد في العراق وإيران وتركيا وسوريا، برغم مما ورد في الإعلان الأطلسي في آب (أغسطس) 1941م "أنَّهم (أي بريطانيا العظمى وأميريكا) يحترمون حق الشُّعوب في اختيار شكل الحكومة التي يرغبون العيش في كنفها، وأنَّهم يرغبون في أن يروا إعادة حقوق السِّيادة والحكم الذاتي إلى أولئك الذين حرموا منها عنوة."
ثمَّ ندلف إلى الهند. ففي الهند – على سبيل المثال – كانت المرحلة الأولى في سبيل حل المشكل القومي هو الإقرار بأنَّ هناك ثمة سبيل إلى الاعتراف بحق تقرير المصير، ويستوجب تطبيقه على كل المجتمعات ذات الوعي الذاتي. إنَّ أي مجتمع إقليمي يملك سكانه وعياً بأنَّهم يمثِّلون أعضاء المجتمع إيَّاه، ويرغبون في الاحتفاظ بهُويَّة مجتمعهم، فإنَّهم يشكِّلون أمَّة. إذ أنَّ هؤلاء المواطنين لم يختاروا مجتمعهم بإرادتهم، ولا قوميَّتهم عن طريق الاختيار الحر، بل جاءت قوميَّتهم عن طريق الإرادة الطبيعيَّة والتأريخيَّة المطلقة، وهي ميزة حاسمة بالميلاد، كما أنَّ الطفل لا يختار والديه. إذاً، إنَّ تعريف الأمَّة في استخدامها في نظريَّة تقرير المصير هو تعريف سياسي في الأساس. وهو أنَّ الأمَّة هي المجتمع الذي يرغب أن يصير دولة. بناءً على هذا الأساس رأت الهند أنَّه إذا كان هناك ثمة مجتمع ما يسكن إقليماً محدَّداً، فإنَّه يستحق تلقائيَّاً الحكم الذاتي الإقليمي بصلاحيات تتراوح حسب حجمه وانعزاله.
بيد أنَّ الدولة الهنديَّة لم تتقيَّد بهذه المبادئ السامية في ناهية الأمر. ففي 5 آب (أغسطس) 2019م ألغت السلطات الهنديَّة على لسان وزير الداخليَّة أميت شاه المادة 370 من دستور البلاد. وبذلك يكون القرار – الذي أُعلِن في البرلمان – قد ألغى حق مواطني كشمير في القطاع المتنازع عليه مع باكستان، والذي تحت سيطرة السِّيادة الهنديَّة. إذ ألغى القرار حقهم في الاحتكام إلى دستورهم الخاص ورفع علمهم الخاص أيضاً، وحق المقيمين الدَّائمين في كشمير باحتكار وظائف الدولة، وعدم السماح للهنود خارج الإقليم من شراء الأراضي في ولاية كشمير، وكذلك الامتيازات الأخرى التي ساعدت على حفظ الوضع الخاص للولاية. وبرغم من أنَّ الحكم الذاتي في كل القضايا الخاصة بالإقليم باستثناء الشؤون الخارجيَّة والدِّفاع، والذي بات أهل كشمير يتمتَّعون به عمليَّاً، كان قد تمَّ التقليل من صلاحياته بمرِّ الحقب بواسطة التدخُّلات المستمرَّة من الدولة المركزيَّة، إلا أنَّه كان يُعتبر ذا أهميَّة رمزيَّة كبيرة للسكَّان المحليين. ويُعتبر الإجراء الهندي الأخير، الذي أخذ القوميُّون الهندوس يطالبون به منذ حقب عديدة، هو الأكثر راديكاليَّة منذ منح الإقليم الحكم الذاتي كشرط للالتحاق بالاتِّحاد الهندي بعد الاستقلال العام 1947م. وقد جاء القرار بمرسومٍ رئاسي، حتى يتم التصويت عليه في البرلمان الذي يسيطر عليه حزب بهاراتيا جناتا الحاكم برئاسة رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي، وذلك برغم من أنَّه حسب الدستور الهندي فإنَّ الأمر يتطلَّب موافقة مشرَّعي ولاية كشمير قبل إلغاء وضعها الخاص.
إذ يعود تأريخ إقليم جامو وكشمير السِّياسي إلى ذلكم الحين من الزمان الذي كانت المنطقة عبارة عن إمارة يحكمها مهراجا هندوسي، وهو الذي لم يستطع عشيَّة انشطار شبه القارة الهنديَّة إلى دولتي الهند وباكستان في آب (أغسطس) 1947، وبأغلبيَّته المسلمة، أن يقرِّر في الانضمام إلى باكستان أو البقاء كجزء من الهند. وكان بالإمكان الانضمام إلى إحداهما، إلا أنَّه تمنَّى أن يحتفظ باستقلاليَّته، لذلك لم يفعل في الأمر شيئاً. وفي خلال هذه الحقب عاش المسلمون والباندت الهندوسيُّون جنباً إلى جنب في كشمير، ولم يخطر ببالهم طموح الالتحاق بباكستان. وفي العام 1989م ونتيجة الأثر الذي تركه المجاهدون المنتصرون في أفغانستان بعد دحر السوفييت وإنهاء احتلالهم لأفغانستان، ظهرت حركة احتجاجيَّة في كشمير وكانت شرارتها تزوير انتخابات المجلس التشريعي للولاية. وبدلاً من خوض غمار الحرب للانضمام إلى باكستان، كان شعار المحتجِّين هو الحريَّة – أو بعبارة أخرى الاستقلال – وكان المحتجُّون يأملون في حشد الدَّعم الكافي من أقاليم الولاية المختلفة، وبخاصة وسط الكشميريين الذي ظلوا يحتفظون بالولاء للهند. إزاء ذلك الاستياء العارم وجدت باكستان الفرصة الذهبيَّة، وبات خطها الرَّسمي – أو بالأحرى زعمها – هو أنَّها تقدِّم الدَّعم الأخلاقي والديبلوماسي لأهل كشمير في سبيل تقرير المصير. أما فعليَّاً فقد أقدمت باكستان على برنامج عسكري سرِّي لدعم الجماعات الجهاديَّة بما فيها التدريب العسكري في قطاع كشمير الذي أمسى تحت سيطرتها. ومع ذلك، لم تتوقع باكستان أن تستحوذ على كشمير أو تساعد في استقلاله، لكنها كانت تفعل ذلك انتقاماً عن المساعدة الهنديَّة لتجزئة باكستان واستقلال بنغلاديش العام 1971م، ثمَّ كان هناك ثمة غضب في إسلام أباد من احتلال الهند لنهر سياشين الجليدي في شمال كشمير العام 1984م، وأمست هذه المنطقة واحدة من أعلى المناطق الحربيَّة في العالم.
ففي خلال الثلاثة حروب التي خاضتها الهند ضد باكستان نجد أنَّ اثنتين منها كانتا قد اندلعتا بسبَّب النِّزاع حول كشمير، وفي خلال ثلاث حقب شهدت المنطقة كثراً من التمرُّدات خلفت 70.000 من الضحايا كان أغلبهم من المدنيين. والجدير بالذكر أنَّ ولاية جامو وكشمير تتكوَّن من ثلاثة أقاليم: إقليم جامو حيث تقطنها الأغلبيَّة الهندوس، وكشمير ذي الأغلبيَّة المسلمة، ولاداخ ذي الأغلبيَّة البوذيَّة. إذ قرَّرت الحكومة تجزئة الولاية إلى إقليمين في الاتِّحاد الهندي: جامو وكشمير بمجلسه التشريعي، ولاداخ الذي سوف يتم حكمه مباشرة من الحكومة المركزيَّة، وذلك دون أن يكون له مجلس تشريعي خاص به.(7)
وكحل لقضيَّة الفلسطينيين تمَّ منحهم الحكم الذاتي في الضفة الغربيَّة وقطاع غزَّة، إلا أنَّهم ما زالوا تحت سيطرة الدولة الإسرائيليَّة في السِّيادة والاقتصاد والشؤون الأمنيَّة، ويعيشون فقط على الهبات والمنح من المنظمات الدوليَّة والاتِّحاد الأوروبي.
أما في إندونيسيا، البلد الآسيوي الذي نال استقلاله العام 1945م بعد حروب طاحنة في سبيل التحرُّر من الاستعمار الهولندي ثمَّ الياباني، فقد منحت إقليم "آتشيه"، الذي يقع شمال جزيرة سومطرة غرب البلاد حكماً ذاتيَّاً العام 2002م، وذلك بعد عدَّة جلسات حوار ومشاورات نُظِّمت تحت وساطة الأمم المتَّحدة في العاصمة الفنلنديَّة هلسنكي. ويُعد "آتشيه" من أغنى الأقاليم في إندونيسيا، لما يتوفَّر فيه من مخزون معدني ونفطي هائل، ولكن سكَّانه – ومنذ عقود سابقة – لم يستفيدوا من العوائد الماديَّة لتلك الثروات، مما ولد لديهم شعوراً بالظلم وغياب العدالة في اقتسام خيرات البلاد، حتى شكَّل شرارة انطلاق احتجاجات ضد الحكومات السَّابقة. إذ توالت الاحتجاجات وظهرت مطالب الانفصال عن إندونيسيا، وكذا إقامة دولة إسلاميَّة تبنَّتها حركة "جام" المتمرِّدة، وبخاصة عقب سقوط حكم سوهارتو. ومن ثمَّ رأت حكومة جاكرتا المركزيَّة الرِّسالة القويَّة من سكان الإقليم البالغ تعدادهم 3 ملايين نسمة، فاستجابت لهم العام 2002م بمنحهم الحكم الذاتي. إذ يتمتَّع الإقليم بحكومة مستقلة، وقضاء مستقل عن السُّلطة المركزيَّة، وميزانيَّة مستقلَّة أيضاً، مع الاتِّفاق على اقتسام الثروات وفق نسبة محدَّدة.
أما الجارة إريتريا فكانت تدار من قبل الإدارة البريطانيَّة حتى العام 1952م، وذلك بعد هزيمة الجيش الاستعماري الإيطالي العام 1942م. وبعد قرار الجمعيَّة العامة للأمم المتَّحدة العام 1952م أمست إريتريا تحكم نفسها بواسطة البرلمان الإريتري المحلِّي، ولكن في قضايا الشؤون الخارجيَّة والدِّفاع كان لزاماً عليها أن تدخل في وضع فيديرالي مع إثيوبيا لمدة 10 أعوام. ومع ذلك، في العام 1962م ألغت حكومة إثيوبيا البرلمان الإريتري، وضمَّت إريتريا إلى إثيوبيا رسميَّاً. ولكن الإريتريين، الذين جادلوا بالاستقلال الكامل ما وسعهم الجدال منذ الإطاحة بالإيطاليين، توقعوا ما هو قادم. ففي العام 1960م نظَّمت جبهة التحرير الإريتريَّة المعارضة، ودخلت في الكفاح المسلَّح منذ العام 1961م. وفي العام 1991م – أي بعد 30 عاماً من النِّضال المسلَّح – دخل مقاتلو جبهة التحرير الإريتريَّة العاصمة الإريتريَّة، أسمرا، وأعلنوا استقلال إريتريا عن إثيوبيا العام 1993م.
أما في السُّودان فقد تمَّ تطبيق نظام الحكم الذاتي الإقليمي في جنوب السُّودان (1972-1983م)، ولكن سرعان ما قوَّضت الحكومة السُّودانيَّة اتِّفاقيَّة أديس أبابا التي وُقِّعت بين حكومة السُّودان وبين حركة تحرير جنوب السُّودان العام 1972م، والتي بموجبها أقرَّت االحكم الذاتي الإقليمي في جنوب السُّودان؛ ومن ثمَّ عاد الطرفان (الحكومة السُّودانيَّة وأهل جنوب السُّودان) إلى حرب أهليَّة شعواء شملت – في ذلكم الحين من الزمان – المناطق التي لم تكن في الماضي جزءً من مديريات جنوب السُّودان المعروفة (أعالي النيل وبحر الغزال والإستوائيَّة). إذاً، ما هي أسباب انهيار اتفاقيَّة أديس أبابا؟ لقد كتب كثرٌ من البِّحاث عن أسباب انهيار اتفاقيَّة أديس أبابا، وتذخر المكتبة السُّودانيَّة بكثرٍ من هذه البحوث والمؤلَّفات.(8) بيد أنَّنا يمكن أن نسلِّط الأضواء على بعضٍ من هذه الأسباب على النحو التالي:
(1) عدم وجود شوكة عسكريَّة لحراسة الاتِّفاقيَّة من قبل المتمرِّدين، أو ضامن أممي أو إقليمي، والاكتفاء فقط بضمانات ممثِّل الإمبراطور هايلي سيلاسي، واثنين من مجلس الكنائس العالمي، والأمين العام لمؤتمر كل إفريقيا للكنائس، وممثِّل لمجلس الكنائس السُّوداني، وشهادة بيرجيس كار، الذي ترأس جلسات المفاوضات. إزاء ذلك القصور كان الضابط الشاب حينئذٍ في صفوف الأنيانيا جون قرنق قد اعترض عى الاتِّفاق لقصوره في الإجراءات الأمنيَّة، وقد سعت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان لاحقاً سعيَّاً حثيثاً في تلافي هذه النواقص في اتفاقيَّة نايفاشا للإجراءات الأمنيَّة في 25 أيلول (سبتمبر) 2003م، وتمَّ تضمينها في اتِّفاقيَّة السَّلام الشَّامل في 9 كانون الثاني (يناير) 2005م.
(2) عدم تحديد الوضع المالي للإقليم: إذ لا يمكن الاعتراف للإقليم بممارسة اختصاصاته إن لم يكن بإمكانه فرض ضرائب ورسوم خاصة به. كذلك كان ينبغي تخصيص جزء من واردات الميزانيَّة المركزيَّة بحيث يتناسب مع عدد سكَّان الإقليم والتدمير الذي أصابه من جراء استغلال خيراته وموارده لتعمير شمال السُّودان، وفي المقابل لتخريب وتدمير المدن والمنشآت القليلة التي كانت موجودة في الجنوب آنذاك.
(3) وجوب تحديد حدود الإقليم الجنوبي: وذلك بموجب الثوابت التأريخيَّة والجغرافيَّة المعلومة للجميع، وليس ترك بعض المناطق ليتم تحديد تبعيَّتها للإقليم في وقت لاحق، مثلاً مسألة أبيي وبعض المناطق المتاخمة لجنوب دارفور والنيل الأزرق.
(4) لم تُمنح ضمانات خاصة وكافية للإقليم الجنوبي تمنع تدخُّل المركز في شؤونه الداخليَّة أو تهديده، وحرمانه من ممارسة صلاحياته.
(5) أطماع الشمال في موارد الجنوب – بما فيها النفط الذي تمَّ اكتشافه بكميَّات مأهولة في الإقليم الجنوبي – قد دفع القادة السِّياسيين الطائفيين في شمال السُّودان إلى الإيعاز إلى الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري بالتلاعب بالحدود الإقليميَّة بين الشمال والجنوب، مما أدَّى في نهاية المطاف إلى ذبح الاتفاقيَّة.
من خلال بعض أمثلة الحكم الذاتي التي أوردناها إيَّاها، نجد أنَّ الحكومات المركزيَّة قد احتفظت بصلاحيات الشؤون الخارجيَّة والدِّفاع والأمن والسِّيادة وبعض الإجراءات الاقتصاديَّة، مع العلم أنَّ بعضاً من الأسباب التي دفعت أغلب هذه الأقاليم ذات الأوضاع الدستوريَّة الخاصة إلى المطالبة بحق تقرير المصير هو العامل الاقتصادي المتمثِّل في عدم التنيمة، فضلاً عن العوامل السِّياسيَّة والثقافيَّة. ومواطنو جبال النُّوبة والنيل الأزرق لهم الحق كل الحق في المطالبة بحق تقرير المصير.


إذاً، لماذا يطالب سكان جبال النُّوبة والنيل الأزرق بحق تقرير المصير؟

هناك عدة أسباب تأريخيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة دفعت مواطني المنطقتين إلى المطالبة بحق تقرير المصير، ويمكن اختصار هذه الأسباب في الآتي:
(1) تأريخيَّاً كان السُّودان عبارة عن ممالك مستقلة ومتنازعة في بعض الأحايين، وقد تمَّ تشكيلها في شكل دولة حديثة في عهد الغزو التركي-المصري العام 1821م. وقبلئذٍ كانت منطقة النيل الأزرق الكبرى تحت حكم سلطنة سنار (أو السلطنة الزرقاء، أو سلطنة الفونج)، وفي جبال النُّوبة كانت هناك مملكة تقلي، والتي عجزت الحكومة التركيَّة-المصريَّة في إخضاعها.
(2) كانت المنطقتان عبارة عن مستودع ضخم لصيد الرَّقيق في عهدي التركيَّة-المصريَّة (1821-1885م) والفترة المهديَّة (1882-1898م)، وقد تركت معاملات الرِّق في هاتين المنطقتين آثاراً سالبة، حيث لا يزال يُنظر إليهم بنوع من الاستحقار والاستهزاء، ويتم اضطهادهم بناءً على هذه الخلفيَّة التأريخيَّة والإثنيَّة.
(3) في عهد الحكم الثنائي (1898-1956م) تمَّ وضع هاتين المنطقتين – مع مناطق أخرى في السُّودان بما في ذلك المديريات الجنوبيَّة الثلاث – ضمن إطار قانون المناطق المقفولة العام 1922م، وذلك لحماية هُويَّتهم المتمثلة في عاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم من خطر الاستعراب والأسلمة، ومن ثمَّ ضياع إرثهم. كذلك كان الغرض من تلك السِّياسة هو حماية مواطني هذه المناطق من الاستغلال الاقتصادي من قبل التجار الجلابة الشماليين، حتى لا يستغلوا الأميَّة المتفشية وسطهم، وجهلهم بأسلوب التعامل في المال والأعمال التجاريَّة وغيرها. ثم كان الغرض أيضاً من السِّياسة إيَّاها هو مكافحة تجارة الرِّق الذي ما زال تجار الرِّق يمارسونها ضد شعوب هذه المناطق، برغم من محاولات الدولة الاستعماريَّة المستمرَّة في محاربتها.
(4) لم تشهد المنطقتان أيَّة تنمية اقتصاديَّة واستثماريَّة، أو مشاركة حقيقيَّة في السُّلطة بحيث يعود عائدها لأبناء الإقليمين منذ استقلال السُّودان العام 1956م. ومشاريع الزراعة الآلية التي تمَّ إنشاؤها في جبال النُّوبة والنيل الأزرق جاءت خصماً ونهباً لأراضي السكَّان المحليين، حيث صُودرت أراضيهم بطريقة تعسفيَّة وبواسطة أحكام جائرة، فضلاً عن استغلالهم كأيدي عاملة رخصية في هذه المشاريع، أو كعمال موسميين فقط. إذ كان المستفيد الأوَّل هم طبقة من التجار الجلابة ورجال الخدمة المدنيَّة وضباط الجيش والشرطة المتقاعدين وهم جلهم من المركز والجزيرة.
(5) من أكثر التظلُّمات التي تستعين وتسترشد بها الجماعات الإثنيَّة أو القوميَّة في اللجوء إلى المطالبة بحق تقرير المصير هو التهميش الاقتصادي، وبمان أنَّ الحكومات المتعاقبة على السُّلطة في السُّودان قد مارست هذا النمط من التهميش على أطراف الدولة، إلا أنَّ وزير مالية حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الأسبق عبد الرحيم حمدي كان قد قدَّم ورقة في إحدى المؤتمرات في الخرطوم حثَّ فيها حكومة المؤتمر الوطني الحاكم يومئذٍ على تركيز التنمية في بقعة جغرافيَّة حدَّدها بالخرطوم وكوستي والأُبيِّض، فيما باتت هذه الرقعة الجغرافيَّة تُعرف لاحقاً في الأدب السِّياسي السُّوداني ب"مثلَّث حمدي".
(6) لقد اشترك سكان هاتين المنطقتين في حرب أهليَّة ضروس مع أهل الجنوب في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان (1983-2005م)، والآن (2011م-؟)، وأثناء المفاوضات بين الحكومة السُّودانيَّة من ناحية، والحركة الشعبيَّة من ناحية أخرى، وقبيل التوقيع على اتِّفاقيَّة السَّلام الشَّامل العام 2005م طالبت جماهير المنطقتين بحق تقرير المصير أسوة بأقرانهم في جنوب السُّودان، وجاءت تلك المطالبة في مؤتمر عموم أبناء النُّوبة في كاودا في كانون الأوَّل (ديسمبر) 2002م، ومؤتمر عموم شعب الفونج في الكرمك في كانون الأوَّل (ديسمبر) 2002م.
(7) إنَّ تجاوزات حقوق الإنسان بواسطة قوات الحكومة السُّودانيَّة وميليشياتها المسلَّحة، والتي تمَّت في حق المواطنين العزل في المنطقتين والمناطق الأخرى في دارفور وجنوب السُّودان سابقاً، قد خلقت أثاراً اجتماعيَّة ونفسيَّة وسياسيَّة سالبة، حتى باتت مسألة التفكير في التعايش تحت سلطة المركز دون أيَّة إجراءات دسستوريَّة وقانونيَّة حقيقيَّة جديدة لترميم الوحدة الوطنيَّة أمراً صعباً للغاية.
(8) للمركز تأريخ سيئ في نقض العهود والمواثيق، ولقد صار الأمر صعباً جداً مجرَّد تصديق أيَّة وعود جديدة من قبل الحكومة السُّودانيَّة دون أن تكون لمواطني المنطقتين شوكة عسكريَّة قويَّة لحماية مكتسباتهم التي نالوها بالدِّماء والدُّموع ولعشرات السنوات من النِّضال السِّياسي والكفاح المسلَّح.
(9) هاتين المنطقتين تتميَّزان بمؤسَّسات وعادات وتقاليد خاصة، ويدين سكانها بالإسلام والمسيحيَّة وكريم المعتقدات الإفريقيَّة، فأيَّة حكومة مركزيَّة تريد تطبيق الشريعة لا تجد رضا من مواطني هاتين المنطقتين. إذ تمثِّل القضيَّة الثقافيَّة إحدى عناصر المطالبة بحق تقرير المصير، حيث يقر سكَّان هذين الإقليمين بأنَّهم سودانيُّون أفارقة، ويعتنقون العقائد المذكورة أعلاه، وليسوا بعرب في شيء كما تزعم الدولة المركزيَّة في تبنِّيها لمسألة الهُويَّة ومحاولاتها المستمرَّة في أسلمة جميع شعوب السُّودان. هذه الهُويَّة التي يدعو لها سكَّان المنطقتين تجعلهم يطالبون بحق تقرير المصير حتى يتمتَّعوا بكينونتهم، ويعبِّروا عنها بكل حريَّة وديمقراطيَّة في التعليم، والممارسات الثقافيَّة، والنشاطات الاجتماعيَّة، والخدمة المدنيَّة وغيرها، وذلك دون التعرُّض للاضطهاد أو القهر من الدولة أو المؤسَّسات الرسميَّة الأخرى.


خلاصة

لا مُراء في أنَّ الرَّب قد قسَّم البشريَّة إلى مجموعات إثنية متباينة على سطح البسيطة، وبذلك نجده كان قد غرس بذور الأمم والشُّعوب، ولكن الحكومات هي التي شوَّهت تصميم وهندسة الرَّب. ولعلَّنا نشاهد هذه المجموعات البشريَّة جليَّاً على ضفاف مجاري الأنهار، وفي الجزر، وسهول الصحاري على الواحات، وسفوح سلاسل الجبال، والبقاع الرِّيفيَّة والحضريَّة، ثمَّ في المواقع الجغرافيَّة الأخرى. ولعلَّ بسبب سوء إدارة الأزمات تغيَّرت الخارطة الجيوبوليتيكيَّة في السُّودان العام 2011م بذهاب جزءٍ عزيزٍ من الوطن ألا وهو جنوب السُّودان؛ فإذا لم يتدارك الساسة في الخرطوم المخاطر السِّياسيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة المحدقة بالبلاد فستبزغ دولٌ أخرى من حطام السُّودان القديم، وذلك لتعبِّر عن أصوات الأحرار الذين انتفضوا في أريافهم وأقاليمهم ضد النُّخب النِّيليَّة "المتخرطمة".
كذلك ينبغي على القائمين بالأمر والنهي في السُّودان أن يدركوا أنَّ أغلب المجتمعات في آسيا وإفريقيا هي في الأساس مجتمعات قبليَّة، ولكن حين تكون القبائل مرتبطة مع بعضها بعضاً بعلائق وثيقة – كحال أفغنستان والمملكة العربيَّة السعوديَّة – فهناك احتمال انصهارها لتمسي أمَّة واحدة، وذلك بعد فترة طويلة من تحكُّم الدولة المركزيَّة القويَّة القابضة على كل شيء. بيد أنَّ الدِّين – إسلاميَّاً كان أم أيَّة عقيدة أخرى – لم يكن عاملاً موحِّداً في هاتين الدَّولتين، أو أيَّة دولة أخرى. فهناك ثمة صراعات دينيَّة وسط مجتمعات الدُّول حتى في العقيدة الواحدة ووسط مللها ونحلها، وقد تؤدِّي إلى احتراب مستعر ومستمر كما هي الحال في أفغانستان.
أيَّاً كان من أمر تينك الدولتين، فإنَّ سكَّان منطقتي جبال النُّوبة (جنوب كردفان) والنيل الأزرق، مع تشبُّعهم الواعي بهُويَّتهم، يطالبون بحقوقهم السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وذلك في دولة علمانيَّة ديمقراطيَّة يسود فيها السَّلام والحريَّة والعدالة والمساواة. وفي حال إخفاق الدولة المركزيَّة في الإيفاء بهذه الحقوق المشروعة في دولة المواطنة، فإنَّ الحل الأمثل هو السماح لهم بحق تقرير المصير ليختاروا النِّظام الأمثل للحكم بحيث يحتكمون إليه، ويعيشون تحت رحمته وكنفه. بالطبع، أي موقف سياسي تتَّخذه أيَّة دولة أو جماعة أو فئة اجتماعيَّة كانت أم سياسيَّة لا بدَّ أن تضع في الحسبان الموقف المحلِّي والإقليمي والدَّولى. فبالنسبة للموقف المحلِّي أو الإقليمي هناك ثمة أمثلة مُورست فيها حق تقرير المصير في هذين الإطارين (جنوب السَّودان وإريتريا). أما بالنسبة للموقف الدَّولي فإنَّه لا ينبغي أخلاقيَّاً وتأريخيَّاً أن تعترض كل من الولايات المتَّحدة وفرنسا على حق أي شعب – بما فيه شعوب منطقتي جبال النُّوبة والنيل الأزرق – من ممارسة حقه في تقرير المصير، لأنَّ تمرُّد المستعمرات البريطانيَّة في الولايات المتَّحدة كان أول تأكيد ناجح في ممارسة الحق القومي والدِّيمقراطي في تقرير المصير في تأريخ العالم العام 1776م. والأمر نفسه يمكن أن يسير على فرنسا حين أقرَّت حق تقرير المصير إبَّان الثورة الفرنسيَّة العام 1789م.

////////////////////
/////////////////
///////////////

 

 

آراء