“رحلات في شمال السُّودان وكُردُفان وجزيرة سيناء، وساحل الحجاز (1822م – 1827م) .. تقديم: أ.د. أحمد إبراهيم أبو شوك

 


 

 

 

 

"رحلات في شمال السُّودان وكُردُفان وجزيرة سيناء، وساحل الحجاز (1822م - 1827م)
تأليف
الدكتور إدوارد روبيل
ترجمة
الأستاذة فادية فضَّة والدكتور حامد فضل الله
مراجعة
الدكتور خالد محمد فرح
*******
تقديم
أحمد إبراهيم أبو شوك

ارتبطت نشأة أدب الرحلات الغربي عن الشرق، بحركة الكشوف الجغرافيَّة الأوروبيَّة، وتبلور هذا الجنس من الأدب في شكل مؤلفات ومدونات ورسومات، تصف جغرافياً الأمكنة والطرق التي اكتشفها الرحَّالة الأوروبيون، كما أنها توثق لسياحاتهم ومشاهداتهم عن الشعوب التي تعرَّفوا عليها، وعلى أجناسها، وتقاليدها، وأعرافها، ودياناتها، ومخلفاتها الأثرية، دون النظر في مكوناتها الأدبيَّة والفلسفيَّة التي شكَّلت منظومات واقعها الحياتي. تناولت الدراسات الأكاديميَّة المعاصرة أدب الرحلات الغربي عن الشرق وفق منهجين؛ أكتفى أحدهما بقراءة النصّ الواصف للمشاهدات والأحداث التي دونها الرحَّالة الغربيون؛ بينما اعتنى الآخر بتحليل النصِّ، وتفكيك خطابه الاستشراقي القائم على ثنائيَّة الغرب والشرق، والمُسْتعمِر والمُستْعمَر، ونحن وهم. بِيْدَ أن بعض الباحثين قد رفضوا هذا المنهج الذي تبناه إدوارد سعيد( ) وآخرون، متعللين بأن أصوات الرحَّالة الغربيين عن الشرق تتباين نصوصها، ولا تسير على نمط واحد، بل تختلف الصور التي رسمها الرحَّالة عن ثقافات الشعوب المشرقية، حسب اختلاف البلدان التي ينتمون إليها، والأزمنة التي ارتحلوا فيها، والخلفيات المرجعيَّة التي انطلقوا منها، والدوافع الكامنة وراء رحلاتهم وأهدافها الاستراتيجية. ولذلك نتفق مع هلال الحجري، أنَّ الرحَّالة الأوروبيين يجب ألا نضعهم في سلة واحدة، ونتهمهم بالعمالة للاستعمار الغربي؛ لأن بعض الدراسات المعاصرة قد أثبتت أنَّ بعضاً منهم كانوا مستقلين في أهدافهم وغاياتهم، ولم يوظفوا مدونات رحلاتهم في خدمة الدول الاستعمارية. لكن هذا الاستثناء لا ينفي أنَّ تأهيلهم الابستمولوجي (المعرفي) قد أثر في توصيفاتهم وتفاسيرهم لبعض المشاهد والأحداث والوقائع التي مرت عليهم.

تمهد لنا هذه التوطئة النظر في الترجمة العربيَّة لكتاب الدكتور إدوارد روبيل (1794- 1884م)، الموسوم بـ "رحلات في شمال السُّودان [بلاد النُوبَة]، وكُردُفان، وجزيرة سيناء، وساحل الحجاز [البتراء]، 1822م - 1827م، ثم توطينها في إطار الرحلات السابقة لها، وأدبيات الرحلات التي استأنس بها المؤلف روبيل في تكملة صور مشاهداته ورواياته للأحداث والوقائع التي مرت عليه. ومن زاوية أخرى، تساعد هذه التوطئة في ابراز أهمية النسخة المترجمة لهذا الكتاب؛ لأن الدكتور روبيل لم يكن أول رحالة تطأ قدماه الأمكنة المشار إليها أعلاه؛ بل سبقه رحالة أخرون، أمثال المغامر اليهودي ديفيد روبيني (David Reubeni)، الذي وصل إلى سنَّار عن طريق سواكن عام 1522م، قادماً إليها من مكة المكرمة، ومدعياً انتسابه إلى البيت النبوي. ومن سنَّار انتقل إلى سوبا، ثم إلى دار الجعليين، ومنها إلى دنقلا عبر صحراء بيُّوضَة، وأخيراً استقر المقام به في قاهرة المعز عام 1523م. لكن بعض الدراسات التاريخية المعاصرة تصف رحلة روبيني بالغموض، وتشكك في صدقيَّة بعض المعلومات الواردة بين دفتيها. ويزيد هذا الغموض تعقيداً، إنَّ يوميات روبيني قد كتبت باللغة العبريَّة، ولم تنشر بعد، بل أُودعت بمكتبة بودليان في جامعة اكسفورد حتى عام 1867م، ويقال إن نسختها الأصليَّة قد فُقدت بعد ذلك التاريخ. ونشر هيللسون( )، وإشكولي( ) أجزاء منها، وعلَّقوا عليها. لكن المهم في الأمر أن ديفيد روبيني كان رحَّالةً ومغامراً، زار بلاط الفونج في سنَّار، وبلاد النُوبَة، وكتب عنها. وبعد أكثر من قرن ونصف من زيارة ديفيد روبيني إلى السُّودان، زار الطبيب الفرنسي شارلس جاكيوس بونسيه (Charles-Jacques Poncet) بلاد النُوبَة، ومنها واصل سيره عبر صحراء بيُّوضَة إلى سنَّار، ثم الحبشة؛ لعلاج إمبراطورها الذي كان يعاني من مرضٍ جلدي. وأخيراً تجسَّدت سياحات بونسيه في كتاب بعنوان "رحلة إلى أثيوبيا"، تُرجم إلى اللغة الإنجليزية، ونُشر في لندن عام 1709م( )، كما نقله الدكتور فضل الله إسماعيل علي والأستاذ خضر محمد سعيد إلى اللغة العربية، ونشرته جامعة السُّودان المفتوحة عام 2012م. وحوى الكتاب وصفاً مفصلاً عن الطرق التي مر بها بونسيه، وجغرافيَّة الأمكنة التي زارها، وعادات أهلها، وتقاليدها، وأنشطتهم الاقتصادية، كما قدم صورة حيَّة عن البلاط السلطاني في سنَّار، وأفاض في وصف رحلته إلى أثيوبيا، ومنها إلى القاهرة، حيث وافته المنيَّة عام 1706م. وبعد زيارة بونسيه إلى السُّودان (1698م) بسنوات قلائل، حضر القس الكاثوليكي ثيودور كرمب (Theodor Krump) على رأس بعثة تبشيرية، أرسلها البابا كليمنت الحادي عشر من روما إلى أثيوبيا؛ لكن مسار رحلته انتهى به في بلاد النُوبَة وسنَّار، ولم يسافر إلى إثيوبيا، ثم أخيراً غادر سنَّار، وساح قافلاً ببلاد الجعليين والشايقيَّة والنُوبَة إلى أن حطَّ رحاله بالقاهرة عام 1702م. وفي عام 1710م ألَّف كتاباً عن وقائع رحلته باللغة الألمانية، ترجمه البروفيسور جي أسبولدنق (Jay Spaulding) ترجمة أوليَّة إلى اللغة الإنجليزية، ويُذكر أن الدكتور أحمد المعتصم الشيخ قد نقله إلى العربية، لكن لم ينشر بعد في طبعته العربية. الرحَّالة الثالثة هو الإسكتلندي جيمس بروس (1730 -1794م)، الذي وصل إلى الإسكندريَّة في يونيو 1768م، ومنها واصل رحلته جنوباً إلى أن حطَّ رحاله بسنَّار، ومنها إلى غوندار بإثيوبيا، حيث دون مشاهداته عن أخلاق الإثيوبيين وعاداتهم وتقاليدهم، ووسائل كسب عيشهم، فضلاً عن البحث عن منابع نهر النيل؛ وفي السُّودان سجَّل مشاهداته والمرويات التي سمعها عن بلاط الفونج في سنَّار، ومدينة شندي، وكتب عن الحرب بين سلاطين الفور والمسبعات في كردفان. وأخيراً صدر حصاد رحلاته في خمسة مجلدات بعنوان "رحلات اكتشاف منابع النيل في السنوات: 1768- 1773"، في لندن عام 1790م( ). وأعقب ذلك، رحلات السويسري جون لويس بوركهارت (1784 -1817م) إلى جنوب مصر، وبلاد النُوبَة، وشبه الجزيرة العربية، بتكليف من الجمعيَّة الجغرافيَّة البريطانيَّة الملكية. ويبدو أنَّ بوركهارت يختلف عن الرحَّالة الذين سبقوه؛ لأنه قد أعدَّ لتلك الرحلات عدتها. والدليل على ذلك أنه قد درس اللغة العربيَّة في جامعة كمبردج، وتلقي محاضرات في الكيمياء والتعدين، والطب، والجراحة. وكان في أوقات فراغه، يدرب نفسه على المشي لمسافات طويلة، حافي القدمين، وحاسر الرأس تحت وطأة حرارة شمس صيف بريطانيا المشرقة، كما كان يجرب النوم على الأرض، ويطوع نفسه على أكل الأطعمة التي تناسب مناخ البلاد التي ينوي زيارتها. أبحر من لندن إلى طرابلس الشرق عام 1809م، وقضى بها عامين ونصف، حيث أضحى يُعْرَف بين الناس بحاج إبراهيم بن عبد الله، وفي الوقت نفسه طوَّر لغته العربية، ووسَّع مداركه بثقافة أهل الشرق وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم. غادر طرابلس الشام إلى القاهرة عام 1812م، حيث حظي باهتمام محمد علي باشا، ومنها واصل مساره جنوب إلى بلاد النُوبَة، ثم إلى مدينة شندي الشهيرة، وبعدها اتجه شرقاً إلى التاكا، ثم سواكن، ومنها عبر البحر الأحمر إلى جدة عام 1814م. استخدم اسمه المستعار، حاج إبراهيم بن عبد الله، لزيارة مكة والمدينة، وسيناء في خليج العقبة، وتوفي فجأة في القاهرة عام 1817م، عن عمر بلغ ثلاثة وثلاثين عاماً. وبعد وفاته، نشرت الجمعيَّة الجغرافيَّة البريطانيَّة الملكيَّة بلندن مدوناته تحت العناوين الآتية، "رحلات في بلاد النُوبَة والسُّودان"، 1819م( )؛ ورحلات في سوريا والبلاد المقدسة، 1822م؛ ورحلات في بلاد العرب، 1829م. ونقل فؤاد أندراوس كتاب "رحلات في بلاد النُوبَة والسُّودان" إلى العربية، وأصدر المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الثانية، عام 2007م. ويَعتبر نسيم مقار جون لويس بوركهارت "عمدة الرحَّالة الأوربيين الذين زاروا بلاد النُوبَة والسُّودان في العصر الحديث، لما امتاز به من دقة في الملاحظة والمشاهدة، وتحري الصدق والأمانة، فيما أمدنا به من معلومات قيمة، شملت مختلف نواحي الحياة في أقاليم النُوبَة والسُّودان، التي قدر له زيارتها، ولقد حاز إعجاب وتقدير الرحَّالة الذين زاروا النُوبَة والسُّودان من بعده، وشهدوا له بصدق رواياته. ولذلك تحظى المعلومات التي جاء بها عن النُوبَة والسُّودان باهتمام وتقدير الدراسين والباحثين في تاريخ السُّودان الحديث خلال تلك الفترة"( )، أي الفترة السابقة للغزو التركي المصري. وبعد وفاة بوركهارت بثلاث سنوات، قرر محمد علي باشا، والي مصر من (1805- 1848م)، غزو بلاد السُّودان، فأرسل حملتين لهذا الغرض، إحداهما بقيادة ابنه إسماعيل إلى سنَّار، والثانية بقيادة صهره محمد بك الدفتردار إلى كردفان. رافق حملة إسماعيل ثلاثة رحالة أوروبيين، تركوا خلفهم مؤلفات كان لها أثرها البالغ في التعريف ببلاد السُّودان، والتحديات التي واجهت حملة إسماعيل باشا، والنتائج التي ترتبت عليها. وكان أحد هؤلاء الرحَّالة الفرنسي فريدريك كايو (1787 -1869م) الذي سجل مشاهداته التي امتدت لثلاث سنوات، زار خلالها مملكة (مروي القديمة)، وآثار المصورات الصفراء، والنيل الأبيض، وفازغلي، وسنَّار حاضرة سلطنة الفونج. ورسم بريشته لوحات نادرة عن المناطق التي زارها، وعزز تلك الرسومات بنصوص توضيحيَّة عظيمة الفائدة، وكما تحدث عن الغطاء النباتي، والأمكنة التي مر بها، وعادات أهلها، ولغاتهم، وتقاليدهم، ودياناتهم. وبعد عودته إلى باريس عام 1823م عرض مدوناته على مجموعة من العلماء، أشادوا بمحتوياتها، وأوصوا بطبعها في أربعة مجلدات، بعنوان: "رحلة إلى مروي والنيل الأبيض وإلى سيَّوة في خمس واحات أخرى في السنوات: 1819م، 1820م، 1821م، 1822م."( ) وترجم الدكتور فضل الله إسماعيل علي هذه المجلدات إلى العربية، ونشرتها جامعة السُّودان المفتوحة (الخرطوم) عام 2012م. وصف البروفيسور قاسم عثمان نور رسومات كايو عن آثار السُّودان "بالروعة، والدقَّة، والجمال".( ) أما الرحَّالة الثاني فهو جورج وادنجتون (1793- 1869م)، الذي كان زميلاً بكليَّة ترينتي بكمبردج، ومؤرخاً كنسياً، ثم أسقفاً بمدينة درم (Durham) البريطانيَّة. أصطحب في رحلته إلى السُّودان صديقه برنارد هنبري، ورافقا سوياً حملة إسماعيل باشا إلى سنَّار، وقدما وصفاً حياً لسير الحملة والتحديات التي واجهتها، وتطرقا إلى عادات وتقاليد أهل المناطق التي مرت بها الحملة، وسجلا وصفاً مفصلاً عن المعارك التي خاضها الجيش الغازي، وكذلك إحراق إسماعيل باشا في شندي. وكتبا سجلاً مفصلاً عن الآثار التي زاراها في شمال السُّودان. وبعد عودتهما إلى إنجلترا نشرا مدوناتهم في كتاب بعنوان: "صحيفة زيارة إلى بعض أجزاء من إثيوبيا".( ) لم تُترجم رحلة وادنجتون وصديقه هنبري إلى العربية؛ لكن المؤرخ نسيم مقار كتب عنها مقالاً مطولاً بعنوان "رحلة ودانجتون في السُّودان، 1820- 1821م، قدم فيه عرضاً مميزاً عن ظروف الرحلة ودوافعها الرئيسة، وأهميتها التاريخيَّة والعلمية، وسير حملة إسماعيل باشا وموقف الشايقيَّة منها، وشخصيَّة إسماعيل باشا، وقصة حرقه في شندي.( ) والرحَّالة الثالث هو الأمريكي جورج انجلش (1787- 1828م)، الذي تخرج من جامعة هارفرد عام 1807م، والتحق بعدة وظائف في الولايات المتحدة الأمريكية؛ لكنه لم يستطع الاستمرار فيها، وكان آخرها في القوات البحريَّة الأمريكية. وفي إحدى رحلاته البحريَّة إلى الإسكندرية، استقال انجلش من منصبه، واعتنق الإسلام، ثم التحق بجيش محمد علي باشا، الذي عينه قائداً لقوات المشاة في حملة ابنه إسماعيل باشا إلى سنَّار. وقدَّم وصفاً حياً للحملة والمعارك التي خاضتها، وبعد سقوط سنَّار، استقال من منصب وعاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشر مذكراته في كتاب بعنوان: "رواية عن الحملة من دنقلا إلى سنَّار"، عام 1822م. ( )

أما بالنسبة لمصر وشبه الجزيرة العربيَّة فقد سبق إدوارد روبيل القبطان الدنماركي، فردريك لوفيج نوردن (Frederik Ludvig Norden)، الذي زار مصر عام 1737م، وأبحر في نهر النيل جنوباً إلى منطقة الدُر، وكتب كتاباً عن مشاهداته وملاحظاته في مصر ونهر النيل، نشره عام 1755م باللغة الدنماركية( )، ثم تُرجم النصّ الدنماركي إلى اللغتين الألمانيَّة والإنجليزيَّة لاحقاً. ويأتي بعده، المكتشف الألماني كرستن نيبور (Carsten Niebuhr)، الذي عمل في خدمة الحملة العربيَّة الملكيَّة الدنماركية، وزار الجزيرة العربية، وبلدان أخرى في الشرق الأوسط (1761 -1767م). وقد حظي كتابه عن الجزيرة العربيَّة ( ) باهتمام إدوارد روبيل، الذي رجع إليه في أكثر من موضع في رحلاته عن ساحل الحجاز.

يقودنا هذا العرض إلى أن هناك العديد من الرحَّالة الأوروبيين الذين زاروا السُّودان، ومصر، والجزيرة العربية قبل الرحَّالة الألماني إدوارد روبيل، وسجَّلوا مشاهداتهم وملاحظاتهم عن الطرق التي سلكوها، والأمكنة التي زاروها، والشعوب التي وقفوا على عاداتها وتقاليدها، وأديانها، وسبل كسب عيشها، ومخلفاتها الأثرية. لكن بعضهم تناول هذه القضايا وفقاً لمنطلقاته الثقافيَّة ونظرته الدينية- الاستعلائيَّة تجاه الآخر؛ لذلك كانت مدونات بعضهم، كما يرى روبيل، قد كُتبت "بلا ضمير، ليس فقط لخداعهم الجمهور عن طريق تكرار الأوصاف المعروفة منذ وقت طويل، ولكن أيضاً في تمرير جزء كبير من الوقائع غير المتجانسة التي لها اهتمام أحادي الجانب وعابر، وتحويل أعمال علميَّة محددة كي تصبح مواد تشبه الرواية للقراءة، وهي عادة ما تكون رؤى محددة معروفة منذ زمن طويل إلى حد ما."( ) ويبدو أن هذا كان واحداً من الأسباب التي شكلت انتقائية روبيل في الاستئناس بمدونات الرحَّالة الذين سبقوه في زيارة بلاد النُوبَة، وكردفان، والبتراء العربية. ولذلك نجده قد عوَّل على بوركهارت، وتعامل مع كايو ودانجتون بحذر، لا ينفي أن هؤلاء الثلاثة قد وثقوا مشاهداتهم وملاحظاتهم، والمرويات التي نقلت إليهم بمهنيَّة وموضوعيَّة تحسب لهم. ولتجاوز إخفاقات الرحَّالة الذين وصفهم بعدم النزاهة العلمية، يقول روبيل: "لتجنب هذه التجاوزات المختلفة، وضعت نصب عيني على النقطة الرئيسة، أثناء تعاملي مع المواد، وهي تقديم عدد قليل من الصفحات للجمهور. ولتجنب أي رسالة يُظن منها مصلحة مؤقتة وشخصية؛ ولتسهيل استخدام ملاحظاتي بصفة عامة، فإنّي لا أقدم كتاب رحلات يومية، وانما أضع جميع ملاحظاتي مجتمعة، التي كانت لي في أزمنة مختلفة، فيما يخص نفس المكان والمناسبة؛ ودون إغراق نفسي بالتفاصيل، أقدم حكمي النهائي المتواضع بأقل إيجاز ممكن."( ) وفي ضوء هذه الإشراقات يبقي سؤال جوهري، ما الأهمية التاريخيَّة والعلميَّة لرحلات إدوارد روبيل ؟


الأهمية التاريخيَّة والعلميَّة لرحلات إدوارد روبيل
تتبلور الأهميَّة التاريخيَّة والعلميَّة لرحلات إدوارد روبيل في النقاط الآتية:
أولاً: اعتقد أنَّ الدكتور خالد محمد فرح قد أفلح في اختيار كتاب إدوارد روبيل بأن يُترجم إلى اللغة العربية؛ لأن الكتاب لم يحظ باهتمام الباحثين في مجال الدراسات السُّودانية، والدليل على ذلك أن المؤرخ المصري نسيم مقار قد أصدر كتاباً بعنوان "الرحَّالة الأجانب في السُّودان، 1730 – 1851م"، لم يتطرق فيه إطلاقاً إلى الرحَّالة الألماني إدوارد روبيل. ويبدو أنَّ مقاراً قد تأثر في ذلك بما كتبه عالم المصريات البريطاني، السير بدج (1857- 1934م) عام 1907م، عن "السُّودان المصري"، حيث خصص في مجلده الأول فصلاً كاملاً (ص: 1-63) عن "الرحَّالة وعلماء الآثار في النُوبَة والسُّودان المصري"( )؛ إلا أنه لم يتناول فيه رحلات روبيل. وأخيراً جاء كتاب البروفيسور قاسم عثمان نور عن "السُّودان في كتب الرحَّالة والمؤرخون"، عام 2013م، دون أدنى إشارة إلى رحلات روبيل وأهميتها العلميَّة لتاريخ السُّودان الحديث. وفوق هذا وذاك، أنَّ روبيل كان أول رحالة أوروبي يزور كردفان، ويكتب عن واقعها السياسي والاجتماعي في بدايات العهد التركي المصري في السُّودان؛ ولذلك يعتبر كتابه سابقاً لكتاب الرحَّالة الألماني، ألفريد أدموند بريم، الموسوم بـ "رحلة دارفور، 1847- 1852م"، والذي ترجمه النور عثمان أبكر إلى اللغة العربية، وأصدرت دار مدارك بالخرطوم للطباعة والنشر طبعته الأولى عام 2010م.


ثانياً: قد أعدَّ الدكتور إدوارد روبيل نفسه إعداداً جيداً من الناحيتين المعرفيَّة والميدانيَّة قبل أن يشرع في تنفيذ رحلات إلى بلاد النُوبَة وكردفان، والبتراء العربية، والدليل على ذلك قوله "تشكلت لدي فكرة القيام برحلة طويلة في شمال شرق إفريقيا، وللتحضير وفقاً لذلك عدتُ عام 1818 إلى أوروبا. وفي طريقي إلى موطني مررت بجنوة، حيث حالفني الحظ، وتعرفت شخصياً على البارون فون زاك؛ أبلغته بخططي المستقبلية، لم يشجعني هذا الرجل ...، بل قدَّم ليَّ عرضاً بتدريسي علوم الفلك العمليَّة المفيدة للمسافر، مما استوجب بقائي بعض الوقت في جواره. ... [كما اخترت] ... جامعة بافيا؛ لتنمية معارف أكثر في تاريخ العلوم الطبيعية، والعلوم المرتبطة بها. لقد احتجت لعدة سنوات للحصول على ما احتاجه من معارف ضرورية، ولشراء كل ما يلزمني من معدات متعلقة بمخطط سفري." وإلى جانب هذا الإعداد الأكاديمي والاستعداد الميداني، يبدو أن المؤلف قد أطلع على منشورات من سبقوه، أمثال بوركهارت، وكايو، وادنجتون؛ وبموجب ذلك قد وضع خطةً علميَّةً رصينةً، أسهمت لاحقاً في إصدار كتابه المرجعي، متعدد المشارب المعرفيَّة في تاريخ وجغرافيا وانثروبولوجيا وآثار المناطق التي زارها (1822- 1827م)، فضلاً عن فرضيته القاضية بأن العمارة المرويَّة القديمة قد تأثرت بفن العمارة الهنديَّة. ولا عجب في أنَّ هذه الفرضية تفتح المجال لعصفٍ ذهنيٍ أوسع، كما أنها تحتاج إلى تحقق مهني من علماء الآثار المعاصرين.


ثالثاً: ترجع أهمية رحلات روبيل إلى أنها اتسمت بالدقَّة والموضوعيَّة والمهنيَّة العالية في توثيقها للمواقع الأثريَّة وتعزيزها برسومات توضيحيَّة، ومن الشواهد في ذلك وصفه الدقيق لآثار جزيرة "تُمْبُسْ "في الطرف الجنوبي من شلال حَنِّكْ. على الضفة الشرقيَّة لنهر النيل هناك كتل صخريَّة ضخمة من الغرانيت المائل لونه للحُمرة، وبينهما هناك تمثال ضخم مصنوع بشكل جيد، وهو أيضاً من الغرانيت. وهو معمول بشكل كامل على الطراز المصري. القدم اليسرى هي، كالعادة إلى الأمام؛ الرأس والوجه مشوهان. اليدان مشدودتان إلى قضبان أسطوانيَّة قصيرة تستريح على الوركين. يحيط عورته بمئزر مخطط؛ أما أساور اليدين، وقلائد الرقبة، فهي بمثابة الزينة. طول التمثال بالكامل هو اثنا عشر قدماً. على كتلة صخور قريبة من الغرانيت، حفر نقش هيروغليفي طويل بحروف صغيرة."

رابعاً: إنني لا أدعي معرفةَّ في اللغة الألمانيَّة؛ لكنني أثمِّن النصّ العربي المترجم، لرحلات إدوارد روبيل، من واقع أنه قد كُتب بلغةٍ سلسةٍ، وأسلوبٍ عربيٍ مبينٍ، ومستوفٍ للقواعد المرعيَّة في اللغة العربيَّة، وحسب مبلغ علمي أنَّ ذلك يرجع إلى براعة المترجمين، الأستاذة فادية فضَّة، التي تعمل في مجال الهجرة واللاجئين بألمانيا، ولديها خبرة واسعة في مجال الترجمة والتأليف؛ والدكتور النطاسي حامد فضل الله، صاحب المواهب المتفردة في مجال الترجمة، والتأليف، والقصة القصيرة. كما يُحمد للمترجمين الجهد القيم الذي بذلاه في إعداد الحواشي التوضيحيَّة والفذلكات التعريفيَّة التي لامست في أهميتها هامات المتون.

خامساً: تقدم هذه الترجمة، لكتاب الدكتور إدوارد روبيل، إضافة نوعيَّة للمكتبة العربية؛ وذلك لما تكتنزه من معلومات مهمة عن مصر، وشمال السُّودان، وكردفان، وشبه جزيرة سيناء، وحوض خليج العقبة، والحجاز، والحبشة. وبذلك تسجل فتحاً جديداً للباحثين العرب؛ ليعيدوا النظر في قراءاتهم لبعض السرديات التاريخيَّة في ضوء النصوص المترجمة؛ لأن صيرورة كتابة التاريخ تكمن في اكتشاف المعلومات الجديدة، والمناهج البحثيَّة الفاعلة في تعديل النتائج التي تمخضت عن أبحاث السابقين. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ رحلات روبيل تتناول مرحلة تاريخية مفصلية، شهدت انهيار الدولة السعوديَّة الأولى (1744- 1818م)، وإحكام المصريين قبضتهم على نجد وسواحل الحجاز، كما شهدت بدايات الغزو التركي المصري للسَّودان الذي أحدث قطيعةً مع تراث أهل البلاد الوسيط، ومهد الطريق لميلاد حقبة جديدة.

سادساً: وفي الختام تبقي لي كلمة أخيرة، مفادها الشكر والتقدير إلى الذين رشحوني لقراءة هذه النصّ البديع في نسخته النهائية قبل الطبع؛ والتهنئة الصادقة إلى الدكتور خالد محمد فرح على انتخاب هذا النصّ الجدير بالقراءة والترجمة إلى العربية؛ والثناء والعرفان إلى المترجمين الأستاذة فادية فضَّة، والدكتور حامد فضل الله، على عنايتهما الفائقة والمهنيَّة المتميزة في إخراج النصّ المترجم بصورة جيَّدة ورائعة بين يدي القارئ الكريم، وعلى ربطهما لمتون النصّ بحواشٍ اضافيةٍ ومفيدةٍ للقارئين والباحثين. وبناءً على ذلك، آمل أن تفتح هذه الترجمة الباب لبقية أدبيات الرحَّالة الألمان وغيرهم عن السُّودان؛ لتحظى بترجمات عربيَّة حاذقة، تخرجها إلى دائرة الضوء.


أحمد إبراهيم أبوشوك
الدوحة، 21 أكتوبر 2018م

ahmedabushouk62@hotmail.com

///////////////////

 

آراء