رواية (أفران الشمال) لدكتور أسامة عبد الحفيظ
{عندما انقشع الضباب الذي يلف أشياء المستقبل، تبين لي أن ذلك الحديث الغريب الذي دار بيننا في تلك الليلة الباردة كان المُستهل والبداية لقصة معقدة، حلقاتها كانت تنسج بصورة مصيرية في رحم القدر، وعندما تم حياكة المستحيل وتوزعت الأدوار، عرفت أن في أعماق البشر عامة تكمن مشاعر نبيلة وأخرى رخيصة، ولكن كلها مشاعر إنسانية. وأن هناك أشخاصاً يخبئون في حناياهم جروح وحروق، لم يستطع الزمن كبلسم أن يزيل آثارها. وأن تحت البريق والثراء يقبع أشخاص تعساء.}
مقطع من رواية أفران الشمال
(1)
قال " سومرست":
{ إن الكاتب لا ينسخ نماذجه نسخاً من الحياة، ولكنه يقتبس منها ما هو بحاجة إليه. بضع ملامح استرعت انتباهه هنا، أو لفتة زاهية أثارت خياله هناك، ومن ثم يأخذ في تشكيل شخصيته، ولا يعنيه أن تكون صورة طبق الأصل، بل ما يعنيه حقاً، هو أنه يخلق وحدة منسجمة، محتملة الوجود، تتفق وأغراضه الخاصة }
*
إن الفن والحياة مختلفان ،والشخصية في أحدهما تختلف عن الأخرى، فالحياة تفرض وجوداً مستمراً، بينما الرواية لا تظهر شخوصها إلا في الأوقات التي يُنتظر أن تقوم بعمل ما، بينما تقبع شخوص الحياة أياماً أو حتى سنين، دون أن تقوم بعمل يلفت الانتباه.
بعض الكتاب يخلقون شخوصاً، ويملؤونها بالحب والتقديس، قد تصل أحياناً لدرجة العبادة، ولكننا نجد كتاباً آخرين، منهم " فلوبير" و"زولا" و"مورياك " و "نجيب محفوظ"، ينظرون إلى شخصياتهم نظرات احتقار أو عداوة، فيعاملونها بقسوة وعنف، ففلوبير مثلاً، كان يدرس تصرفات بطلته الأولى "مدام بوفاري"، وكفاحها المرير وجلادها القاسي مع طبيعتها ومحيطها ، درساً حيادياً، خالياً من التعاطف. و"نجيب محفوظ" يقسو على شخصياته ويرهقها بالمظالم، يهلب ظهورها دائماً بسوطه، وذلك لكي يبين أثر المجتمع القاسي عليها، وعدوان الطبقات بعضها على بعض.
أما صاحبنا الدكتور "أسامة عبد الحفيظ" فقد اختار شخصياته بعناية حاذق، تارة يتعاطف معها، وتارة يعاملها بموضوعية، عال الحيادية. وقد أخذت مهنته كمختص في علوم نفس في الفضاء السيكولوجي الرحيب، من دأبٍ في حفره في عميق شخصياته، حفر النحّات الفنان. لا يترك شخوصه للواقع مرتمية في أحضانه، بل فاعلة بالقدر الذي تسعى لتغيير ذواتها وفق قدرتها على التغيير.
تلمح أنت حين يكتب الروائي بصوت الراوي، يجيد الإصغاء للآخرين، يدلف من أجسادهم إلى نفوسهم العميقة، ينثر أشتاتها، ويُعري حقيقتها. ولن تجد مفراً من أن تعبر الرواية جسراً يقودك فيه إلى الروايات العالمية، من أبوابها الواسعة دون ضجيج، ودون تعالٍ وتضخيم ذات، يجعلنا نصرح أنها من مصاف الروايات الخالدات، التي أخذت بصمتها في عالم الرواية الباذخ.
(2)
الرواية تأخذ من الواقع، كأنها من نسيجه، من تربة تتحد في رؤى الكاتب، أنهما من فصيلة واحدة، لكن الواقع قبل أن يصبح من التاريخ له قضية أخرى. الرواية تزخر بشخصيات تبدو كأنها من الواقع، ولكنها مُضخمة أكثر، وتنزلق من سفوح عالية، ولا تصل إلى سكون المهابط.
لا أعرف كيف تسنى لهذا الكاتب الروائي، أن يكتب روايته بالإسبانية، ثم يترجمها إلى لغته العربية الأم، ثم ينسى أنه كاتب روائي حاذق، يمتلك تلك الموهبة الغامضة التي منْ يمتلكها يمتلك النفوس، في صيرورة جاذبة، لن تتوقف أنت إلا حين تكمل قراءة الرواية. عبرت الرواية بلداً كإسبانيا والأرجنتين والمغرب العربي ومست الوطن، تتبعت المدائن وأشباهها ومقاهيها وأزقتها، وأناس خليط من أجناس ولغات مختلفة، تلاقت وتزاوجت، وحملت ربما سفاحاً. تصطرع الطبقات بأناسها وأغراضهم الملتبسة، وأهدافهم، ونواياهم الظاهرة والباطنة.
(3)
تزدهي الحبكة الروائية وأنت تقرأ، لا تعرف كيف تيسِّر الريح لسفينتك الطريق، ولا أي اتجاه تسلك، وكيف يعبث الريح بمصائر بعض الشخوص. وتلعب الصدف في إبراز ملامح من شخصيات، تحسبها ساكنة، ولكن تتفجر براكينها حين تعترضها الأحداث.
كتب دكتور" أسامة عبد الحفيظ " روايته بين عام 1999 وعام 2000، كأنها تستفتح قرناً جديدا في مدريد الإسبانية، التي قضى فيها نصف عمره، تزوج من أحد بناتها، وأنجب ابن وابنة، وكبرا. وربما صار الآن جداً. عاد إلى موطنه بعد أن انجز دراسته الجامعية وأنجز مبحث الماجستير في علوم النفس المتنوعة في إسبانيا، وعمل هناك بالشرطة الإسبانية ثم عاد للسودان عام 2005. عاد أستاذاً بجامعة الرباط، وأنجز رسالة الدكتوراه، ثم التحق بجامعة الأحفاد للبنات محاضراً بعد أن تقصَّدته أذرع السلطة الإخوانية بملاحقات من يختلفون معها، ثم ذهب لأحد بلدان الخليج. قدم دراسات أسبوعية في علم النفس للشرطة الإماراتية، في عمل غير نظامي. عاد قبل سنتين محاضراً في جامعة الأحفاد بأم درمان.
(4)
شارك بروايته في مسابقة الطيب صالح للأعمال الكتابية الإبداعية، عام 2009. وأحرزت المركز الثاني، لا أعرف لماذا لم تكن الأولى بامتياز!. حاول نشرها في دار نشر متواضعة في السودان، لم تهتم بالتدقيق اللغوي كذراع ناصع من أذرع دور النشر، ما اضطره لطباعتها في دار( رفيقي للطباعة والنشر) بجنوب السودان عام 2018. تقع الرواية في حجم متوسط و ( 268) صفحة.
*
تلمح أنت التراكيب اللغوية العربية، وهي تمسك بالبساطة والجزالة معاً، لا تشوش عليك وأنت تقرأ، عن تدفق أحداث الرواية، وسلاسة التشبيهات وغزارة الذخيرة الثرية للكاتب، تكشف عن مدى هو كان مجرِباً للحياة بمستوياتها المتنوعة، هاربة ومستكينة أو مصادمة، في فضاء عوالم هجرة لا متناهية الأفق، حين كان الشمال الأجنبي غير شمال الآن، الطارد للمساواة، والهاضم للحقوق.
*
يتعين لهذا الكاتب الروائي، أن يتابع الكتابة الروائية، فقد وُلد عملاقاً ومتألقاً في أثوابه الزاهية، وأن الذين يكتبون من الروائيين العالميين، لا يقل هو عنهم دراية بالطرق التي تسلكها الكتابة، ولا بالتدفق السلس النمير.
عبدالله الشقليني
29 أغسطس 2019
alshiglini@gmail.com