جرائم منغصة والقاتل مجهول!

 


 

أم سلمة الصادق
27 September, 2019

 


بسم الله الرحمن الرحيم
غرس الوطن 11

 

تمر بنا هذه الأيام الذكرى السادسة لثورة سبتمبر.وبمناسبة هذه الذكرى المجيدة نكتب مقال اليوم: فهي ذكرى يجب أن تعلق على أستار الذاكرة السودانية وتسطر في قوائم شرف التاريخ مع مقاومات سودانية سابقة ضد الغزاة والطغاة.

مقاومات سطرها سودانيون تحدوا الموت بجسارة، فإن لم تحقق تضحياتهم نصرا ماديا ساعتها لكنها أسهمت في إزكاء روح المقاومة متقدة وحفظت جباه العزة السودانية شامخة، وأسهمت بسهم وافر في نيل النصر المؤزر كاملا فيما بعد : استشهاد خليفة المهدي في فروته في ام دبيكرات 1899 كان هو الثيرموس الذي حفظ الدعوة المهدية حتى يوم الناس هذا وأوقر في الصدور أن الاستسلام ليس لنا، و غرس كرري أثمر بعد أكثر من 50 عاما استقلال السودان في الأول من يناير 1956، كما قطفنا ثمار سبتمبر 2013 بعد خمس سنوات في ديسمبر 2018م الثورة التي أسقطت حكومة المؤتمر الوطني وأقامت محلها حكومة مدنية محددة المهام ستعد بإذن الله لانتخابات نزيهة بعد انقضاء فترتها.
وسبتمبر هي الهبة التي امتدت خلال الاسبوع الأخير من الشهر من 23-29 سبتمبر 2013م، وقد خرج الناس في كل من الخرطوم العاصمة المثلثة ومدني،في تظاهرات حاشدة قامت في الأحياء على خلفية اجراءات تقشفية تم الإعلان عنها في 21 سبتمبر 2013 بتوصية من البنك الدولي لرفع الدعم عن المحروقات، تحريك سعر الصرف،و زيادة في الضريبة الجمركية وقد قابلت السلطات تلك الاحتجاجات بعنف زائد خلف وراءه مصابين ومعتقلين والشهداء الذين تتراوح أعدادهم بين 200 شهيد بحسب احصاءات الناشطين و 87 شهيد بحسب احصاءات حكومية تنحو نحو التقليل من أعداد الشهداء وما مورس ضدهم من عنف ، رحمهم الله وأنزلهم منزلة النبيين والأولياء الصالحين، وجزاهم عن وطنهم وعن مواطنيهم خير الجزاء، فقد رووا بدمائهم الطاهرة مقاومة ضد نظام الانقاذ بدأت منذ وقوعه الكارثي على البلاد والعباد في 30 يونيو 1989.
السبب الحصري للتباين الواسع في أعداد الشهداء يعود لكون هذه المجزرة لم تجد حتى اليوم عدلا يكشف طلاسمها ويسلم الجناة للقضاء لمحاسبتهم. والقضية الوحيدة التي تمت فيها محاكمة هي قضية الشهيدة سارة عبد الباقي التي لم تفلح وسائل العدل المتاحة آنذاك في إدانة الجاني و تم اطلاق سراحه لعدم ثبوت الأدلة مثلما قيل!
ولقد تعرض أهالي الضحايا الذين سعوا لفتح قضايا في مقتل أقاربهم، إلى عقبات، منها رفض التحقيق في قضايا فردية، وكذا رفض الإمداد بوثائق مهمة مثل تقارير الطب الشرعي، ومنعهم من التماس العدالة من خلال القضاء.

وكانت أصابع الاتهام قد أشارت الى قوات الدعم السريع بارتكاب أكبر مجزرة بشرية وسط الخرطوم، طالت الشباب وصغار السن من طلاب مدارس ثانوي وأساس. لكن في إحدى حلقات برنامج حال البلد على قناة سودانية 24 نفى قائد قوات الدعم السريع الفريق حميدتي مشاركتهم في احداث سبتمبر 2013، وفي ظل غياب تحقيق شفيف لن يٌعرف مدى صحة هذا الإدعاء وهل قٌتل المدنيون بواسطة الدعم السريع أم بواسطة جهاز الأمن ومليشيات الحركة الاسلامية..
الانكار وتقليل حجم العنف الذي مورس كان دوما موقف الحكومة ومن يتحدث عنها وهذا ما سجله تقرير هيومن رايس واتش بعد ستة أشهر من مجزرة سبتمبر: (كان رد الحكومة السودانية على الأدلة المشيرة إلى مسؤولية قوات الأمن عن أعمال القتل غير القانوني والاحتجاز التعسفي والتعذيب وغيره من الانتهاكات ذات الصلة هو الإنكار أو التقليل من التقديرات لحجم العنف وانتهاكات حقوق الإنسان. ورغم أن السلطات قد وعدت بالتحقيق في المزاعم، لكن لم تظهر أدلة علنية على أي تقدم أحرز حتى الآن في التحقيق مع المسؤولين عن أعمال القتل والانتهاكات الأخرى. في الوقت نفسه يستمر السودان في استخدام القوة المفرطة، بما في ذلك الذخيرة الحية، في قمع الاحتجاجات السلمية، ما أدى إلى سقوط المزيد من القتلى في الاحتجاجات بالعاصمة خلال عام 2014 ).
وفي أكتوبر 2018 تقدمت منظمة العفو الدولية ببيان أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قالت فيه (إن السلطات السودانية لم تقدم إلى العدالة، حتى وقت كتابة التقرير ، شخصًا واحدًا بسبب مقتل ما لا يقل عن 185 شخصًا أصيبوا برصاص في الرأس أو الصدر أو الظهر، على أيدي أفراد من جهاز المخابرات والأمن الوطني والشرطة، خلال احتجاجات شهر سبتمبر/ أيلول 2013 السيئة السمعة في البلاد، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة).
بل حتى اليوم وحتى بعد نجاح ثورة ديسمبر ظل قتلة شهداء سبتمبر بدون أسماء مثلهم كمثل من فضوا اعتصام القيادة في 3 يونيو 2019 و لم يُعرف على وجه التحديد من قتل الناس في شوارع المدن في سبتمبر 2013! فيا لها من حسرة ويا له من تنغيص.
ربما وجدنا جانبا أكثر اضاءة عند تقليبنا لهذا الملف فالهبة السبتمبرية أفلحت في حفر جرح غائر في جسم الانقاذ مما جعلها تتهاوى وتتساقط شيئا فشيئا وقد أشار محللون إلى أن ثورة سبتمبر تعد أكبر تطور سياسي ديمقراطي في البلاد منذ انتفاضة أبريل في العام 1985.وأن السودان بعد سبتمبر أخذ يعد عمر الانقاذ عدا تنازليا .
كان للتحدي الكبير الذي وقفه الشارع السوداني في سبتمبر في مواجهة جبروت قوات مدججة بالسلاح وللعنف الدموي الكبير الذي مارسته تلك السلطات الغاشمة لردعهم آنذاك أثرا كبيرا وردود أفعال أضعفت الانقاذ وأسقطتها فيما بعد ، فقد حققت هبة سبتمبر الآتي:
- دفعت حكومة المؤتمر الوطني لإجراء تعديلات أساسية في تكتيكاتها السياسية من أجل اجهاض أو تعطيل اي حراك يدفع بعجلة التغيير. وفي ذلك الاطار حاولت كسب الوقت باطلاقها لحوار دعت له الأحزاب السياسية في مطلع يناير 2014.
-أدت لانقسامات في جسم الحكومة ولخروج مجموعة غازي صلاح الدين (حزب الاصلاح الآن)ومجموعة السائحون. إضافة لتآكل القاعدة الاجتماعية للإسلاميين في السودان و لشعورهم بخطر إمكانية ازاحتهم من السلطة ربما لأول مرة خلال حكمهم المتطاول.
- أدى العنف العشوائي الى توسيع قاعدة المعارضة ضد الانقاذ ورفع من درجة الغضب التراكمي باضافة من مناطق وطبقات اجتماعية كانت تحسب الى جانب الانقاذ.
- كما دفعت الحكومة لتشديد القبضة الامنية في ذات الوقت واعتمدت على المليشيات كمدافع أوحد عن السلطة التي تمركزت حول البشير والدوائر المقربة منه. وزاد تمركز السلطة بيد البشير بسبب الشعور بعدم الثقة بين مكونات الإسلاميين عقب الانقلابات والانقسامات التي ظهرت في أوساطهم تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية.
- أدى هذا الاعتماد على فصيل المليشيات من قبل البشير الى تململ في الجيش (برغم أدلجته) وعدم رضا.
- كما أدى العنف المفرط الى ادانات دولية،صحيح لم تبلغ ما بلغته الادانات الدولية الصريحة في ديسمبر لكنها هزت النظام المتداعي.
كما كان لهبة سبتمبر أثر غير مباشر ساهم بصورة مباشرة في تحقيق التغيير فيما بعد: ذكرنا أنه كنتيجة مباشرة لسبتمبر جنحت الانقاذ لحوار قصد به امتصاص الغضب وتوسيع قاعدة الحكم لكنه لم يكن بالجدية ولا المصداقية المفترضة والمطلوبة وثبت ذلك حينما ضاقت حكومة الانقاذ بمطالبة الحبيب الإمام وأستاذ ابراهيم الشيخ بتحقيق شفاف في انتهاكات يتهم بها الدعم السريع إذ سارعت باعتقالهما موجهة لهما اتهامات تحت المادة 50 والتي عقوبتها الاعدام.
أوضح هذا الضيق بلا لبس فشل حوار الوثبة وضرورة صرف النظر عنه .نعلم أن حزب الأمة رفض التغيير بالعنف نظرا لهشاشة الوضع في السودان لذلك كانت سياسته تعمل في اتجاه انجاح حوارٍ باستحقاقاته مع المؤتمر الوطني ،حوار لا يهيمن عليه أحد ولا يقصي أحدا. فشل هذا المسعى أدى الى ضرورة محاصرة الانقاذ باتفاق مع الحركات المسلح لاقناعها بنبز العنف وتبني المطالبة بحوار باستحقاقاته أو التغيير عن طريق وسائل الجهاد المدني السلمية فكان إعلان باريس مع الجبهة الثورية في 8 اغسطس 2014 والذي تطور فيما بعد لنداء السودان في الرابع من ديسمبر من العام نفسه.ونداء السودان ليس جسما فاعلا في ثورة ديسمبر فقط بل كانت له بصمته المباشرة التي ضمنت السلمية للثورة ولم تطلق الحركات المسلحة طلقة واحدة لنصر الثورة بل التزمت بذلك حتى الحركات غير المنضوية تحت النداء.
ومن النتائج غير المباشرة لهبة سبتمبر أيضا انتباه دولي أكبر لمساعدة السودان للعبور بسلاسة فكانت خارطة الطريق برعاية الاتحاد الأفريقي وبتكليف من الأمم المتحدة .
في خاتمة هذا المقال أقول لا شك أن في نجاح ثورة ديسمبر بعضا من رد اعتبار لشهداء سبتمبر لكن يظل سؤال من قتل الشهداء قديما وحديثا سؤالا مؤرقا ولن يهدأ الشهداء في عليائهم ولن تهدأ الأمهات والآباء واليتامى والثكالى والأصدقاء والأخوان والأحباب إلا بعد أن تتحقق العدالة كاملة وينال الجناة عقابهم المستحق.
وسلمتم

umsalsadig@gmail.com
////////////////

 

آراء