القدم الرحالة: حكاية طبيب: تأليف: ألكساندر كروكشانك: ترجمة: طارق عبد الكريم الهد .. تقديم: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 

 

أسعدني الدكتور طارق عبد الكريم الهَد، استشاري أول السُكري والغدد الصماء والباطنية بمؤسسة حمد الطبيَّة (الدوحة)، بدعوته لقراءة مسودة ترجمته العربية لكتاب الدكتور ألكساندر كروكشانك (Alexander Cruickshank)، "القدم الرحّالة: حكاية طبيب"، والتي ذكرني نصها البديع قول الدكتور إحسان عباس في فن السيرة: "إنَّ الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم، هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل، أما أولئك الذين يذهبون بنا في شعاب من الصنَّعة الرسمية؛ فإنهم يستنزفون جهودنا على غير طائل، وينقلون تفاهة الماضي الذي عاشوا فيه إلى حاضرنا الذي نرجوه لما هو أجدى."( ) فالنص المترجم فيه طلاوة أدب الرحلات، الذي يصور المشاهد الحية والمواقف الداعية للانتباه، والتي تضفي على النص متعة وتسلية، بما تقدمه من معلومات أولية مفيدة عن جغرافية المكان، وتاريخه، وتقاليده الموروثة، وتجارب المؤلف في ربوعه. وأدب الرحلات المُدوَّن عن الشرق (The Orient) من وجهة نظر غربية، يُصنف في قائمة الأدبيات الاستشراقية، التي ينعتها إدوارد سعيد بأنها ليست سوى أدوات في مشروع استعماري ذا نزعة إمبريالية( ). نعم أنَّ "القدم الرحّالة" يحمل بعض السمات الاستشراقية من حيث ثقافة للمؤلف، والموضوعات التي تناولها، والفضاء الجغرافي (السُّودان) والحيز الزمني اللذين تحرك فيهما (1924 -1948م)؛ لكن ليس بالضرورة أن يكون صاحب ذلك العمل مجرد أداة من أدوات المؤسسة الاستعمارية، دون النظر إلى الدوافع الشخصية التي انطلق منها، والنتائج التي حققها في محيط البيئة المحلية التي تعامل معها. ولذلك يقول كروكشانك، عندما تمَّ اختياري للعمل في "وظيفة مفتش طبّي في السُّودان الإنجليزي-المصري، انطلقت منّي صيحةُ فرحٍ، أثارت دهشة من كان معي داخل الغرفة. لقد استيقظ الحلم النائم عن إفريقيا فجأة، مدغدغاً مشاعري، وإذا بكل حكايات وقصص عمي القسيس المبشر تخرج كالمارد من القمقم. لقد أحسست حينها أنّ إفريقيا هي مربط فرس آمالي، ومحط أحلامي، ومهد وظيفتي المستقبلية. لم أدر هل ساقني المصير المحتوم، أم دفعت بي بنات الخيال نحو إفريقيا؟" والشيء المهم في هذا الاقتباس عبارة "مهد وظيفتي المستقبلية"؛ لأن رسالة هذا الكتاب تتجسد فيما حققه كروكشانك من إنجازات طبية في مجال تخصصه، وكذلك الفوائد التي جناها المواطن البسيط في بوادي السُّودان وحواضره طيلة فترة إقامة كروكشانك (1924- 1948م)، وطبيعة المصاعب والتحديات التي واجهها هذا الأخير لتحقيق تلك الأهداف الإنسانية ذات الروح المغامرة-الخلاقة. 

تتكون النسخة المترجمة لكتاب القدم الرحّالة من مقدمة لابن المؤلف، كولن . ج. كروكشانك، الذي أشرف على طباعة مسودة الكتاب بعد وفاة والده عام 1991م، مؤكداً أن الكتاب يشكل لوحة مكملة للكتاب الأول "الجذوة المشتعلة"( ) عن ذكريات والده وانجازاته في السُّودان، كما أنَّ القارئ سيشاركه متعة التعرف على تجارب كروكشانك المثيرة للدهشة واسهاماته البديعة في تطوير طب المناطق الحارة. وتأتي بعد هذه التبصرة مقدمة المترجم، الدكتور طارق الهد، التي ألقت الضوء على جوانب متعددة من سيرة المؤلف، والقضايا التي تناولها في فصول كتابه التسعة عشر، وخاتمتها الناظمة لحياة المؤلف المعاشية في لندن. والكتاب من حيث الموضوع، يمكن أن يُقسم إلى أربعة محاور رئيسة.
يتناول المحور الأول حياة المؤلف ونشأته في مدينة أبردين، في كنف أسرة كان ربها نجاراً في إحدى الشركات التجارية بالمدينة، وسكن أفرادها في منزلٍ بدائيٍ وبسيطٍ. يقول عنه المؤلف: "فعندما انتقل والداي إليه، كان مصدر المياه الوحيد في الدار، داخل المطبخ! وكان المرحاض في فناء الدار مجاوراً سور البيت الخارجي. المرحاض كان بدائياً بسيطاً أوّل الأمر؛ لكن حينما قام والدي بتركيب دولاب تشطيف مائي، بدأ ذلك غايةً في الرفاهية! كان حمام الدار داخل غرفة الغسيل، حيث يوجد حوضان من الخشب، كانا يُملآن بالماء البارد في الصيف، وبالماء الساخن في الشتاء. في فناء الدار -على طرف الحديقة- كانت هنالك (ماسورة) مياه البئر، التي تُرفع بآلة رافعة معقوفة." في كنف هذا المنزل المتواضع نشأ الصبي ألكساندر، وبدأ مشواره الدراسي بتفوق بين أقرانه، وتوج ذلك التفوق بإكمال المرحلة الجامعية بكلية الطب في جامعة أبردين عام 1922م، وبعدها حصل على رخصة مزاولة العمل الطبي، حيث عمل في أبردين، ولندن، وبرمنغهام، إلى أن تمَّ اختياره للعمل في وظيفة مفتش طبي في السُّودان عام 1924م. يعكس هذا المحور الخلفية الأسرية لكروكشانك، والتأهيل المهني الذي حصل عليه في مسقط رأسه، وتطلعاته للعمل في إفريقيا جنوب الصحراء.
ويركز المحور الثاني على جوانب من حياة كروكشانك العملية في المديرية الشمالية (1924م)، ومديرية كردفان (1925 -1927م)، ومديرية النيل الأزرق (1928م) والمديرية الاستوائية (1928- 1940م)، ومديرية كسلا (1941- 1942م)، ومديرية الخرطوم (1943- 1948م)، والتي تعكس جانباً مهماً من أوجه التباين الثقافي بين الحداثة والبداوة، ومظاهره المتمثلة في وسائل المواصلات، وعمارة المساكن، وأنواع الطعام، وعادات الناس وتقاليدهم. وبشأن هذا التباين يحضرني وصف كروكشانك إلى حركة الحيوانات البرية الموسمية، قائلاً: "في الركن الجنوبي الشرقي للسودان، تحدث رحلة موسمية للحيوانات البرية، بصورة تدعو إلى الدهشة والاستغراب. ومن المثير حقاً أن تلك الرحلة الموسمية، تشمل أعداداً هائلة من مختلف الحيوانات البرية، قد تربو أعدادها على بضعة ملايين! لقد كانت مشاهدة الرحلة الرائعة لتلك الحيوانات، على اختلاف أنواعها وألوانها وأشكالها، وتجلّي صورها الطبيعية البديعة على سهول الأرض الإفريقية البكر، واحدة من أمتع اللحظات التي عشتها، وأجمل المشاهدات التي مررت بها في حياتي." وفي المقابل يذكر المؤلف: تجمهر أفراد قبيلة (الزاندي) لاستقبال طائرة مروحية قادمة إلى المنطقة، يقول عندما بدأت الطائرة في الهبوط" سري طنين وأزيز غريب في الأفق، وحدّقت مئات الأعين صوب مصدر الصوت! مئات الأعناق اشرأبت، ومئات الأعين ارتفعت تنظر إلى السماء! وفجأة؛ برز ذلك الطائر العجيب المدهش! يا للعجب!!" فاندهاش الزاندي مثل اندهاش كوركشانك وإن اختلاف المشهد. فغرابة المشهد تشكل مصدر الاندهاش والأعجاب بين الثقافتين؛ لذلك نلحظ أن معظم عناوين مؤلفات الرحّالة لا تخرج عن دائرتي غرائب الأسفار وعجائب الأمصار. علماً بأن تلك الغرائب والعجائب تشد اهتمام القارئين، وتشكل موضوعات اسمارهم وحواراتهم، عندما كانت وسائل الاتصالات والمواصلات عسيرة.
ويتطرق المحور الثالث إلى الفترة التي قضاها المؤلف في خدمة قوات دفاع السُّودان التي اشتركت في الحرب الكونية الثانية، حيث عمل في طرابلس، والقاهرة، واسمرا. وينعت بعض دعاة ما بعد الحداثة مثل هذه المشاركات بالأعمال الاستشراقية الداعمة للاستعمار الأوروبي. لكن مثل هذه النظرة الجزئية الضيقة يجب ألا تحجبنا عن رؤية الإنجازات الكبيرة التي حققها المؤلف في تطوير طب المناطق الحارة في السُّودان.
أما المحور الرابع فيركز على بدايات حياة كوركشناك الزوجية في الخرطوم، حيث رزق طفليه (كولن) و(بريجدت)، وعلى خدمته المعاشية في كينيا والمملكة المتحدة. هكذا انتقل المؤلف من عالم الحياة العمالية التي عاشها في كنف أسرة رقيقة الحال في مدينة أبردين إلى حياة طبقة مهنية وسطى في مجتمع لندن، حيث اشترى قطعة أرض في منطقة (ريفرهيد) جنوب (سفن أوكس)، وبنى عليها منزلاً فاخراً، وأسس في بهو المنزل حديقةً لإقامة مباريات الكريكيت، ثم سعى كلباً من فصيلة (جاك رسل) أطلق عليه اسم (رنجو)، كما آثر الحركة بالقطار من ضاحية (ريفرهيد) إلى مكان عمله في مدينة لندن ذهاباً وإياباً، وداوم على رفقة كلبه (رنجو) في رحلة العودة من محطة القطار إلى المنزل.

قواسم مشتركة بين المؤلف والمترجم
أهم القواسم المشتركة بين المؤلف والمترجم الخلفية الابستمولوجية؛ إذ تخرج ألكساندر كروكشانك في كلية الطب بجامعة أبردين عام 1922م، وتخصص في جراحة العظام، واهتم أيضاً بطب المناطق الحارة. أما طارق عبد الكريم الهد فقد تخرج في كلية الطب جامعة الخرطوم عام 1983م، وتخصص في أمراض السكر والغدد الصماء في انجلترا (1991- 1999م). أهلته هذه الخلفية الأكاديمية بأن يترجم كتاب "القدم الرحّالة" بكفاية مهنية عالية. وإلى جانب ذلك نلحظ أن لطارق الهد اهتمام مشتركة مع المؤلف في توثيق تاريخ الطب في السُّودان. علماً بأن المؤلف، كما ذكر المترجم في مقدمته، قد شرع مع زميله الدكتور جون بلوس في إعداد كتاب عن تاريخ الطب وتطور الخدمات الطبية في السُّودان؛ إلا أن ذلك العمل لم ير النور، وظلت مسوداته الأولية حبيسة أضابير أرشيف السُّودان بجامعة درهام. ولذلك اهتم الهد بتلك المسودات، واعتمد عليها في مشروع بحثه عن تاريخ الطب وتطور الخدمات الطبية في السُّودان، ولذلك نأمل أن يرى هذا العمل النور قريباً، لما فيه أثراء للمكتبة العربية في السُّودان وخارجه.

أهمية هذا الكتاب
تكمن أهمية هذا الكتاب في الآتي:
أولاً: يقدم نموذجاً فريداً لقدرة الإنسان في تطويع آليات التواصل بين عالمين مختلفين؛ أحدهما ذا طابع حضري متأثر بمنجزات الحداثة الأوربية، والآخر ذا طابع بدوي، يقوم على ضروريات الحياة، ويخضع لظروف بالبيئة المحلية المحيطة في معاشه وترحاله وتواصله مع الآخر. ويؤكد هذا الكتاب أن صاحب الرسالة يستطيع أن يتجاوز تحديات الواقع المحلي بإمكاناته المحدودة؛ ليحقق هدفه المنشود. والدليل على ذلك عبارات الدكتور أوليفر أيتكي (Oliver F Atkey)، مدير الخدمات الطبية السُّودانية، عندما كلف كوركشانك قائلاً: "أريدك أن تذهب إلى كردفان، لكي تجري مسحاً شاملاً عن مرض البلهارسيا" في بيئة لا يعرف المُكلف لسان أهلها وعاداتهم وتقاليدهم. وبعد أن حط رحاله في مدينة أم روابة، يقول كوركشانك: "كانت المعضلة؛ في كيفية شرحي للأهالي ما يلزمني القيام به، لإنجاح ما أنا بصدده. كان الحل في أن أبدأ بحثي وسط تلاميذ المدارس الأوّلية... أبدى ناظر مدرسة (أم روابة) الأوّلية للبنين -على مضض- موافقته على مساعدتنا في مهمتنا تلك. ولم أنجح في ذلك؛ إلا عندما قمت بالكثير من الشرح والإسهاب فيما نحن بصدده! كانت المفاجأة؛ أنّ ناظر المدرسة أبدى كثيراً من الدهشة والإعجاب، حين وضَّحت له أنّني أريد ابتداءً الكشف على عيّنات البول لكل التلاميذ! وابتدرني صائحاً "والله ... إنّك تحدثنا عن البول الحار!". وكان اصطلاح (البول الحار)، هو المتعارف عليه بين الأهالي لمرض البلهارسيا البولي! كانت سعادتي غامرة، حين صارت كل فصول التلاميذ في مدرسة (أم روابة) الأوّلية تعج بالصياح، لإعطائنا عيّنة من البول. بين أول عشر عيّنات تم فحصها، كانت اثنتان منهما إيجابيّتين! ولم تصادفني صعوبة في رؤية الشكل البيضاوي لبيضة البلهارسيا، وشوكتها التي عند مؤخرتها. قمت حينها بحيلة أخرى؛ ناديت ناظر المدرسة، وشرحت له كيفية استعمال جهاز الميكروسكوب، والنظر في شرائح العيّنات، بل؛ كيفية ضبط العدسة حتى يتحصل على صورة واضحة لبيض البلهارسيا! وكانت سعادتي غامرة حين قام بعدها -على الفور- بتوجيه تلاميذه لإخبار أهلهم، وتحفيزهم على الحضور لإعطاء عيّنات من البول، لكي يتم فحصها. لقد نجحت الحيلة؛ ويا له من نجاح!" وعن معاناته الممزوجة بحلاوة النجاح يحدثنا كوركشانك، قائلاً: "أذكر ذات يوم، أن قمت بالكشف على زهاء ثلاثمئة وعشرين مريضاً، جملة واحدة. كنت عادة ما أستريح من مثل هذا العناء، إلى عشاء يطبخه (فضل المولى) ويقدّمه (سعيد)! كان (فضل المولى) دوماً ما ينجح في عمل الطعام من مخزوننا الضئيل وممّا أصيبه من صيد البر! إذ كان الحصول على الخضروات الطازجة، أو الجبن، أو الزبادي من الاستحالة بمكان! بعد تلك الوجبات؛ كنت آوي إلى مخدعي متصفّحاً كتاباً - قبل إخلادي إلى النوم... وبعد زهاء ستة أشهر من العيش لوحدي، أصبت -ذات مرة- بنوبة إسهال أعقبتها حمّى الملاريا! ممّا جعلني أشعر بكثير من الإعياء، وصرت حاد الطبع والمزاج! كنت حينها قد أنجزت مهمتي في مسح البلهارسيا وسط السكان؛ وكانت النتيجة، أنّ حوالي 9% من السكان مصابون. لكنّما أدهشني؛ أنّ معظم الإصابات كان طفيفاً!" لا تتوفر مثل هذه العزيمة وهذا التجرد في أطباء السُّودان اليوم، وغيرهم من المهنيين، الأمر الذي يقلل من قيمة أدبيات ما بعد الحداثة التي تصف عمل كوركشانك وأمثاله بأنه عمل استعماري لا يسنده وازع أخلاقي، ولا تحركه قيم مهنية. والدليل على ذلك أن المهنيين الوطنيين الذين خلفوا المستعمرين لم يوفقوا في الحفاظ على أرثهم، كما لم يفلحوا في تحسين صورة الواقع الذي تركه المستعمر. ويجسد هذه المفارقة قول كروكشانك: "عند تقاعدي عن عملي في السُّودان عام 1948؛ كان السُّودانيون على استعداد لإدارة شؤونهم بأنفسهم، والاستمرار في بناء خدمة طبية متميزة. لقد كان ذلك الانتقال سلساً! إذ عاد البريطانيون إلى بلادهم زرافات ووحداناً، بعد أن قاموا بتسليم أفضل وأرقى خدمة صحية في إفريقيا الاستوائية -وهم واثقون- إلى أطبّاء سودانيين أكفاء جيّدي التدريب، وحريصين على تطوير وتحسين تلك الخدمة!" لكن بعد أربعة عقود من ذلك التاريخ قيَّم كوركشانك حصاد التجربة الوطنية، قائلاً: "وأنا إذ أدوّن هذه السطور؛ لم يندّ عن ذاكرتي ما صار إليه حال السُّودان اليوم، بعد مرور أربعين عاماً على مغادرتي له؛ كنت أحياناً أسأل نفسي وبين جنبي لاعجة من حزن عميق! هل ذهبت كل مجهوداتنا لبناء ذلك البلد أدراج الرياح؟ هل يا ترى، قد أضعت أربعة وعشرين عاماً قضيتها هناك، فغدت هباء منثوراً؟"
ثانياً: يعكس هذا الكتاب أهمية النظرة التكاملية لمفهوم الصحة، بشقيها الوقائي والعلاجي، مع القدرة على تطويع الظروف المحلية لخدمة هذه الغاية المنشودة. ويتجسد ذلك في عمل كوركشانك في مستوطنة الجذام التي أسسها في منطقة الزاندي بالمديرية الاستوائية، والتي بدأت بتكليف من رئيسه في الخرطوم، عندما أوعز إليه قائلاً: "أذهب إلى حيث النقطة الموبوءة بـالجذام على حدود الكونغو البلجيكي؛ لعمل مسح سكاني وتحديد نسبة انتشار المرض! .. أريد منك -كذلك- إنشاء مستشفى مدني في أكثر نقطة تراها مهمة، ومراكز صحية في مواضع استراتيجية حول ذلك المستشفى، وأن تقوّم مشروعاً للحد من انتشار مرض (الجذام)." وبعد سنوات من العمل المضني الدؤوب يقول كروكشانك: "تمّ عمل مسح لمنطقة مساحتها حوالي ثلاثين ميلاً مربعاً، مع تعبيد أربعين ميلاً من الطرق، وإنشاء العديد من الجسور، وحفر مجموعة من الآبار، وزراعة الكثير من أشجار الفواكه، وإصلاح وزراعة الهكتارات الزراعية من الأرض بالغلال، وأخيراً تشييد مهبط للطائرات. ضف إلى ذلك مليون قطعة من الطوب الأحمر، أنتجتها كمائن الطوب! كما تمّت صناعة العديد من قطع أثاث المنازل، على أيدي فريقنا من النجّارين وقاطعي الأخشاب. وعن تأهيل العنصر البشري يقول: "لقد جرى تدريب ستة من شبّان (الزاندي) ليصبحوا ممرّضين، فيما تمّ تدريب أربعين آخرين على القيام بمهام التمريض البسيطة. وشرعت كذلك في تأسيس مدرسة لمساعدي الصيدلة. إلى ذلك؛ فقد أجريت خمس عمليات كبيرة، وقدّمت العلاج لكثير من المرضى في أقسام التنويم والعيادات الخارجية. كما تمّ بناء كنيسة ومدرستين، وزراعة الكثير من الأشجار والزهور، التي أكسبت المستشفى والمستوطنة منظراً يشرح الصدور ويبعث الحبور." وداخل هذه المستوطنة الرائدة لمكافحة مرض الجذام ظل كروكشانك يمارس عمله الروتيني: "عند كل صباح؛ تكون هنالك جلسات طويلة في العيادات الخارجية"، لتطبب حالات متنوعة، مثل حقن مرضى "الزهري، وتضميد الجروح، وعلاج الديدان، وفتح الخرّاج الصديدي، وعلاج التهابات الأذن، وعلاج رمد العيون، واستنفاذ الدودة الغينية، وعلاج حالات الالتهاب الرئوي." في ضوء هذه التجربة الناجحة هناك سؤال يطرح نفسه: هل استطاع الأطباء السُّودانيون الوطنيون الذين خلفوا كروكشانك ورصفائه أن يطوروا مثل هذه الرؤية التكاملية في بلادهم؟ أو يحافظوا على ما ورثوه من المستعمر؟
ثالثاً: تكمَّل ترجمة "القدم الرحّالة" إلى العربية الصورة التي رسمها الأستاذ الدكتور حسن بلة الأمين عن تجربة مدرسة القابلات بأمدرمان، في كتابه "أطباء السُّودان الحفاة"( )؛ لأن كلاً من التجربتين تشكلان "قصة نجاحٍ بهرت العالم"، كما وصف البروفيسور ت.ه. ديفي، أستاذ الصحة المدارية بمدرسة طب المناطق المدارية، جامعة ليفربول، عندما زار مدرسة القابلات بأمدرمان عام 1945م.
رابعاً: يؤكد هذا الكتاب أنَّ الإمكانات المادية ليست الأساس الوحيد لإنجاز كل مشروع رائد؛ لأن المشروعات الرائدة تقوم على الرؤى الاستراتيجية الثاقبة، والخبرات البشرية المتراكمة، والعزيمة الإنسانية القادرة على تطويع الإمكانات المادية والموارد البشرية لتحقيق الأهداف المنشودة. ولذلك اعتقد أن تجربة ألكساندر كوركشانك (1924- 1948م) في السُّودان يجب أن تُدرَّس في الجامعات والمعاهد العليا باعتبارها نموذجاً ناجحاً للتجارب الاستعمارية، التي يمكن أن تدفعنا للتفكير خارج الصندوق، والانعتاق من شماعة شح الإمكانات المادية.

أحمد إبراهيم أبوشوك
الدوحة، 6 أغسطس 2018م.

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء