المتاهة الأخيرة
د. الوليد آدم مادبو
10 October, 2019
10 October, 2019
يحار السودانيون في المتاهة التي دخلوها مؤخراً، بل ويعجز أكثرهم عن التفكر في شأن الإجماع الذي تحقق لحمدوك، وكأنه ظاهرة ميتافيزقية (أو غيبية بمعنى أن ملكاً أذَّن في السماء الأولى أن أحبوا حمدوك فأحببناه، كما هو وارد في أدبياتنا الدينية والتراثية)، علماً بأن الخاصة تعلم أن هذا الإجماع تحقق بجهد استخباراتي كان جزءاً مُعداً سلفاً من خطة الهبوط الناعم الذي أعدت له الإنقاذ بالتعاون مع عناصرها في كافة الأحزاب السودانية، بما فيها الحزب الشيوعي السوداني جناح الشفيع خضر سعيد. وذلك قبل أن تُطَوَّر الي "مشروع الإنتقال المتحكم فيه". أود في هذه السانحة أن أسجي للوبي الذي أتقن هذا الجهد الشكر، لأن نخبنا كتب عليها الشقاق وما كان بمقدورها الإتفاق على شخص. وها هم قد اختاروا لنا شخصاً يمكنه أن يؤدي دوراً مهماً إذا توفر لديه الوعي السياسي اللازم لتفهم المتاهة التي هو فيها الأن، عرف الإشتراطات والصلاحيات، قبِل المحددات، استدرك وعزم على التخلي عن موجهات الكارتيل والاعيب الليغ السياسي القديم.
تختلف خطة "الانتقال المتحكم فيه لصالح استقرار السودان" عن خطة الهبوط الناعم في ما تتضمنه من أجندة إعلامية تعمد إلى سلخ السودان عن هويته، وأجندة عسكرية تسعى إلى تفكيك الجيش تمهيداً لتفكيك السودان، وأجندة اقتصادية تهدف إلى استتباع الدولة لصالح أجندة إمبريالية عالمية وحرمانه من فرصة التحكم في اقتصادها ورسم سياستها المالية الوطنية. كل ذلك تمهيداً لفكرة"الحكومة العالمية" والتي تتولى أمرها أسر متنفذة عالمياً لا ترضى بأقل من الإذعان الكامل من رؤساء الدول وتقبيل يد الخاخام الكبير. عوضاً عن الجولة الماكوكية ذات الأهداف غير الواقعية (ما الذي فعلناه حتى نستحق أن يرفع اسم دولتنا من القائمة إياها وهي بعد لم تستطع التحقيق في مقتل شهيد واحد؟) ، لقد كان من الأولى لرئيس الوزراء التواصل مع السودانيين في الشأن السياسي والمهني؛ واذا كان يريد تأييداً لبرامجه المبهمة حتى الأن، فالتأييد يأتي من طابت الشيخ عبدالمحمود ومن كركوج ومن الزريبة ومن البطانة ومن جبال التكاكا، هذا إذا استعصى الوصول إلى كاودا وجبل مرة!
ولنرجع برهة: هل كان حمدوك كادراً شيوعياً سرياً، ولذا فلم يكن بمقدوره إبدا رأيه في أي قضية تهم الموطن فترة الثلاثين عاماً، أم إنها طبيعته الشخصية التي تفضل ألا تفصح عن رأيها حتى في الفضاء الخاص؟ قد يكون الاثنان معاً. فلا تكاد تعثر على ورقة علمية واحدة نشرها حمدوك في دورية مُحَكَّمة أو غير مُحَكَّمة، في مجاله أو غيره (راجع حديث بروفسير علام في الفيسبك). هل كان ذلك كسلاً أم تباطئاً عن حمل الهم الوطني؟ ما هو أخطر هو إنني قد تبنيت من خلال متابعتي لخطابته في هذه الفترة القصيرة أن الخبير الأممي المحترم لا يملك رؤية تحويلية تنموية يحتاجها الوطن في هذا الظرف السياسي العصيب، كما يفتقر الي الجسارة التي يحتاجها القيادي لإقتلاع دولة المركز المتجزرة بعمق في متاهات الشخصية السودانية وأوهامها الأيديولوجية قبل أن تتمكن من بنيتها وهياكلها. الأدهي، أنك لا تحس منه عمقاً حال التكلم في تخصصه ولا غضباً ولا حنقاً تجاه ما اغترفه الكيزان من جرائم في هذا البلد؛ مجرد تكرار لأدبيات متداولة وبرود حيال واقع اليم. أين ذهب الإرث العلمي، بل أين توارى الوهج الثوري؟ هل سنعايش ونشاهد للمرة الثالثة والرابعة والألف رئيساً تقوده بطانته فلا يقدر على مجرد القيام بالدور التنسيقي بين أعضائها؟
كان بإمكان حمدوك أن يُعَوِّض عن هذا النقص باختيار رجال ونساء لديهم جسارة سياسية ورؤية تحويلية لكنه فضل اختيار أناس من فصيلته أو خاصته، وإن غُلِف هذا التحيز بضرورة الموازنة بين الكفاءة والتمثيل. أنظر كيف انتقلنا من مفهوم التكنقراط إلى مستوى الذائقة الشخصية الموشحة بوشاح العدل. لقد اختار حمدوك وزراء لدى غالبيتهم تميز في مجالاتهم، بيد أن أكثرية هؤلاء لم يكونوا -- مثلهم مثله -- جزءاً من المعترك الثقافي والفكري والأدبي الذي صنع الثورة، بمعنى أنهم لم يخرجوا من رحم الثورة، ولذا فهم يفتقرون إلى الرؤية التي ستحمل السودان إلى رحاب وآفاق المستقبل. وإذ إنه ظل يقول ويكرر أن السلام جزء من أولويات المرحلة، فمَن مِن هؤلاء الوزراء سيوفد للتفاكر مع الجبهة الثورية مثلاً في شأن السلام؟
لقد زعم الدكتور الموقر أنه دقق في خلفية الوزراء للتأكد من سلامة السجل من أي عمل إجرامي، علماً بأن هذا لا تعتبر مزية، إنما فرضية أساسية. يقول الناس هذه الأيام أن فلان نزيه، هل من المفترض أن يكون لصاً، وإذا لم فنعطيه درجة، أمّا ماذا؟ بعد أن تبين حمدوك من سلامة السجل للمرشحين هرع لإنصاف الجيمات الثلاثة، جندرة، جغرافية وجيل، إذا جاز لي استخدام عبارة الأستاذ صلاح شعيب، بحجة أنهم، أي الجيمات، شاركن مشاركة فاعلة في الثورة، علماً بأن المجموعة التي اختارها لتمثيل هذه الجيمات جاءت من بقعة جغرافية محددة ومن ذات المجموعة المتنفذة تاريخياً.
لعل اللجان التي تولت الترشيح في قحت لم تر نساء متميزات أو شباب متميزين من الريف أو من أطراف المدينة باستثناء قلة استطاعت أن تنفذ من الغربال بعد أن تماهت مع رؤية التنسيقية واللجنة العليا للدولة والمجتمع. فلا عجب إذ رأينا نساء بلادنا الماجدات يتم الإستعاضة عن أدوارهنّ بنساء لم نسمع أنهم كن يوماً جزءاً من حركة النهضة النسوية لا في السودان ولا في المنطقة العربية. هل نسينا أنّ مثل أولاء النسوة كن الأكثر إضراراً بشرائحهنّ في حكم الإنقاذ إذ قنن للسلطة الذكورية والمركزية السياسية والهرمية العرقية؟ إن الأهلية والأيمان بالمبادئ الثورية لا تغني عن الممارسة والإختبار، فليس الإنفعال كالتفاعل وليس التصور كالمشاهدة حال الإبتهال.
دعني أوضح أكثر عندما يرفض حمدوك مقترح قحت بتعيين أحد الناشطين والداعمين لموقف الجنائية، في وزارة الخارجية ويفضل تعيين امرأة دبلوماسية مكانه، هل هذا إعلاء لقيمة الوطنية أم توطين لمبدأ الهبوط الناعم؟ عندما يتم اختيار أكاديمي متميز مثل نصرالدين عبدالبارئ لوزارة العدل، هل يُقْصَد من هذا تسكين أفئدة النازحين أم تفعيل قضايا المتضررين؟ أم إنهم يريدون أن يوهموا العامة بأنهم قد أولوا مهمة القصاص من القتلة والمجرمين الدوليين لواحد من أبناء الفور، بل من نجبائهم، وإذا أخفق يكون ذلك قصوراً منه وليس قصوراً في الإتفاقية التي أعطت القتلة حق تعيين رئيس القضاء والنائب العام؟ علماً بأن مهمة وزير العدل تقتصر على الدفاع عن الحكومة في القضايا المدنية، الإشراف على المعاهدات وتوقيع العقود الداخلية والخارجية. لن تبلغ الثورة غايتها حتى يتبين للناس الظروف التي أفضت إلي هذه الوثيقة المعيبة وجعلت غاية همها تقنين حصة القحتين -- المتأمرين منهم -- في السلطة دون التفكر في مآلات هذا الحنث العظيم.
مكث دكتور الأصم فترة ليس بالقصيرة في الفاشر قبل أن يذهب للولايات المتحدة متفكراً في التحول المفاجئ لوجهة الجماهير دون أن يدري أن أهل دارفور لم يعدوا أنفسهم لصدامه قدر ما أعدوا أنفسهم لمواجهة التيار التاريخي الذي أنتجه. ولن تجرؤ سارة نقدالله أن تهمس في أذنيه وتبلغه الحقيقة: لقد كفر أهل دارفور وأهل السودان قاطبة بالجبت والطاغوت، وعزموا على تحمل مسؤوليتهم في التخلص من أنظمة الإفك كافة. لقد اكتشف الشعب الطريقة التي اصطنعت بها الايقونات، السبل التي روج بها لبعض الشخصيات، غُيِّب بها آخرون، والأدهى إطلاع أفراد الشعب على مدى استعداد الإعداء التاريخيين من ذات اليمين ومن ذات اليسار، للتوافق مع بعضهم البعض في سبيل الحفاظ على وضعيتهم المتمايزة غير المتميزة في الساحة السياسية السودانية.
إن مناخاً مثل هذا يشكل عبئاً حقيقياً على الحكومة التي يعقد الشعب آماله عليها دون أن يتفحص أفكارها أو يتتبع مسارات وزرائها. لم أشأ أن أفسد على الشعب فرحته، لكنني أردت أن أوضح للعقلاء منهم الحقائق كي يكونوا أكثر واقعية. ستكون كارثة اذا ما أتبعت قحت ذات النهج في اختيار نواب البرلمان والأشخاص الذين من المفترض أن يشغلوا كافة الوظائف السيادية، وسيجهد رئيس وزراء نفسه في محاولته لتلافي أخطاء هؤلاء الناشطين كل مرة. هذا إذا استثينا خطله هو شخصياً وأعضاء المجلس السيادي المتمثلة في انجرارهم وراء العسكر والنزول تحت رغباتهم والعمل بموجهاتهم. لعمري إنها لكارثة أن ترى ممثلي الثوار في معية الفجار وهم ينساقون ورائهم بكل انبهار ودونما قرار.
إن جل هؤلاء الوزراء سيتم اختبار ملكاتهم وستفحص قدراتهم الإدارية والتنفيذية في هذا الظرف التاريخي الحرج وهم في مواقع المسؤولية، وهذا أمر فيه إجحافاً بهم بقدر ما فيه إغرار بالشعب. فلا يعقل أن تسند المسؤولية لشخص وهو في طور التأهل ويطلب منه في ذات الوقت إبداء الرأي في قضايا متشعبة وشائكة خارج دائرة تخصصه. بل سيكون مطلوباً منهم التعامل مع واقع اجتماعي وسياسي معقد. سيما أن هنالك فقط 4 من بين وزراء حمدوك لديهم الحنكة والدربة والدراية اللازمة لخوض هذا المعترك بالكفاءة اللازمة، فهل يمكن أن تنجح حكومة بنسبة لا تتجاوز 35 في المئة (نصت الوثيقة على ضرورة انتقاء كفاءات وطنية مستقلة، فلا يوجد غير (4) أكفاء ووطنيين ومستقلين، البقية منهم من هو وطني غير كفؤ، ومنهم من هو وطني غير مستقل، ومنهم من هو كفؤ لم يحمل الهم الوطني وليس لديه وعي سياسي، وهلم جر)؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
لاحظ تصريح سيادة رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي الذي أعلن فيه وزارته بخصوص الوزارتين اللتين تم تخصيصهما لأهل الشرق. لا يقال مثلاً، يتم البحث عن إمرأة لتشغل منصب مساعد العميد، حبذا لو كانت سوداء وعرجاء، إنما يحصر الأكفاء حتى إذا ما استواء في الأداء فُعِّلت ذات المعايير للتأكد من تحقق التنوع الذي سيكون حينها مصدراً للإثراء، وبغيرة يكون سبباً للخلاف والشقاء. فمجرد ذكر معايير التمييز الإيجابي قبل التأكد من سلامة الإجراء سيلحق ضرراً بالأخرين وإيذاءً يكون أشبه أو أقبح من الإقصاء.
إنّ أكثر الناس فرحاً بهذه الحكومة الهذيلة هم "الكيزان"، فقد أطمأنوا إلى أن خطتهم تسير على قدم وساق، وأنه لن تطالهم العدالة إذ طالما المحققون لا يدرون عمّا يبحثون، أي الطرق يسلكون، أي الأدوات يعتمدون، إلى آخره. كما إنهم بخبثهم وخبرتهم يدركون أنّ هذه حكومة أقلية أيديولوجية فكرية وعرقية لن يطول عمرها قبل أن تكتشف شرائح من الشعب المُغَيّب أمرها، وإن طالت أيامها فلن يكون ذلك إيذاناً بالانفراج إنما ازدياداً في الوحل الذي سيؤدي إلى تفتت السودان وانقسامه.
لولا تمترس اليسار -- تحديداً الحزب الشيوعي، تخليه عن فكره الطليعي وقراره الركون إلي موجهات "الليغ السياسي القديم"، لكان بالإمكان عقد تحالف عريض يجسر الهوة بين المدينة والريف ويعقد تفاهماً أشبه بالعقد الإجتماعي بين الطبقات. كما إن اليمين كان بمقدوره الإلتزام بمرجعيته الأصلية في نشدان العدالة، رفض الضيم، والوقوف مع الشرائح المستضعفة، لكنّه آثر العاجلة، ارتضى لنفسه المهانة واعتقلها في ردهات الأيديولوجية والمصالح الشخصية. أيعجز الإسلاميون عن تقديم قيادة مستنيرة، أمينة وصلبة تهيئ له المثابة والإنسجام مع الذات كي تلحق راشدة بجموع الشعب الأبي؟
وها هو القائد عبدالعزيز الحلو يفجرها داوية و من جوبا عاصمة جنوب السودان ويضع النقط فوق الحروف فيما تصف لجنة النظام الجديد للمفاوضات المطالب المنطقية بالتعجيزية. طالب الحلو بضرورة تسليم جميع مرتكبي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضد الإنسانية للعدالة الدولية مع ضمان استقلالية القضاء السوداني؛ ضمان حقوق الإنسان المضمنة في المواثيق والمعاهدات الدولية، والمشاركة العادلة والمناسبة للثروة وتفكيك المركزية القابضة وبناء نظام حكم لا مركزي مع إعادة هيكلة السلطة؛ مع ضرورة إعطاء الأولوية للوحدة الطوعية واحترام الإرادة الحرة للشعوب السودانية إلي جانب الاعتراف بالتعدد الإثني والثقافي واللغوي والعرقي علي أن ينعكس ذلك على هياكل السلطة والمؤسسات الإعلامية والمناهج التعليمية.
بإيراده فقرة واحدة أبطل المخضرم الحلو كل أباطيل قحت وخذلناها المتمثل في استسالها التنازل عن حقوق المظلومين بدعوى الواقعية والضغوطات الخارجية التي أنكرها الوسيط الموريتاني (الذي ظهرت من بين طيات حديثه أن الجماعة كانوا متلهفين لسطلة لا سبيل لتقنينها إلا عبر محاصصة حزبية وجهوية)، وطالب ببسالة وكبرياء بحقوق المتضررين الحقيقين غير المصطنعين في كل مناحي السودان. لا أظن أن الليغ السياسي القديم ينصت جيداً إلى نبض الأرض وهي تهتز تحت قدميه، فالملايين الغاضبة تتهيأ لخوض معركة فاصلة ضده ولن تحول حكومة حمدوك التي يباركونها بألسنتهم وتلعنها قلوبهم.
هذا هو التيه الأخير لهذه الجماعة التي لم تدرك بعد أن الوعي الذي تحقق للجموع الصامدة قادر على تخطي هذه العقبات والمتاريس الواهية. وأن أي محاولة لإثناء الجماهير عن غايتها سيُعَجِل بانقضاء "الليغ السياسي القديم" الذي يكون قد استنفد بحكومة حمدوك آخر حيل الالتفاف حول مطالب الجماهير. وما نبذله من جهود ينصب في دائرة المحاولة لتجنيبهم المصير الأليم الذي سيواجهونه حتماً إذا ما أصروا في محاولات الفهلوة تلك.
هل صحيح أن الأستاذ ساطع الحاج والأستاذ نبيل أديب، هذان الرجلان اللذان نكن لهما كل التقدير والإحترام إذا تجاوزنا الإعجاب بشجاعتهما وصمودهما، عبثا بالوثيقة وأغفلا أهم فقرة فيها تتعلق بدور الحكومة المدنية في تعيين رئيس القضاء والنائب العام مقابل وعود تلقوها برئاسة أحدهما للبرلمان القادم؟ لماذا لا يخرجان للملأ ويعلنان له عن الملابسات التي أحاطت بتدوير هذا الملف بالذات؟ لماذا يكتفي قادة قحت بالشجب واللعن في الدوائر الخاصة؟ وإذا قال الشعب مدنية، فلماذا لا تُمَّلِكُه قحت كل الحقائق المدوية، قبل أن يكتشفها بنفسه فيغضب ويذهب لإحراق بيوتهم أو يعمد على تعليقهم في أعمدة الكهرباء؟ لك أن تتوقع كل شئ من رجل قتل إبنه أو إغتصبت زوجته أو سرقت ثروته ودمرت باديته وهو لا يرى أعمدة لعدالة قد أزمع قيامها، بل يرى كروتة وإستهبال ومحاولة للإستغفال. هنا تكمن المعضلة فمفهوم العدالة تمت تسيسه ولا يمكن تقويمه بأي حال من الأحوال في ظل نظام معوج!
لقد تم اختيار حمدوك ووزرائه بعناية تتوافق ومتطلبات المرحلة القادمة التي يهيئ فيها "الكارتيل السياسي والمالي" الحفاظ على رأسماله المتداول والذي يقدر بـبلايين الدولارات (راجع مقالات د. صلاح بندر الأخيرة)، الاستحواذ على مقدرات البلاد من خلال استتباعها للمنظومة الاقتصادية العالمية وذلك بتطبيق السياسات المالية البنك الدولي وفرض موجهات تنموية تحرم السودان من الاستقلالية وتجعله مزرعة خلفية تفي احتياجات الآخرين ولا تستطع إطعام أهلها. كم مرة قاوم فيها الوطنيون السودانيون دعم القطاع المروي على حساب القطاع المطري التقليدي حتى في زمن اللص الكبير عمر البشير وشريكه الإسلامي ذات السمات المريبة أسامة عبدالله، كمثال فقط. بل كيف وصلنا أصلاً إلي هذا المستوى من الفقر؟ هل يمكن انتشال السودان من هذه الردهة الجهنمية بذات السياسات الإقتصادية التي أورده إياها البنك الدولي بسياسات الإصلاح الهيكلي؟ فقد جاوب دكتور ابراهيم البدوي بلباقة فائقة ونباهة "ناظمة" في مؤتمره الصحفي عن سؤالي: ماذا ولماذا (ما يجب فعله والأسباب)، لكنه لم يشرح كيف يود تحقيق أهداف استراتيجيته الطموحة.
فيما تتوجه سهام السودانيين نحو الإسلاميين، فإن الكارتيل الذي وصف أعلاه كان المجموعة الأكثر إستفادة من الإنقاذ، بل إنه بالإضافة إلى الإتجار في الدقيق والإتصالات والقطارات والحاصدات والمشاريع الزراعية، كان يتولى إستثمار أموال الأمنيين والعسكريين التي جنوها من الحروب ومن غسيل الأموال. هي ذات المجموعة التي دعيت للإسهام في فاعلية شتم هاوس، وتلك كانت حقاً شتم إذا لم نقل تفلة في وجه الشعب السوداني. يجب أن يكف السودانيون عن ترداد عبارة "الثورة المضادة"، فهؤلاء هم الثورة المضادة، قحت هي الثورة المضادة – على الأقل الفصيل الذي استحوذ "بقدرة قادر" على دور ال 132 فصيل – بل هم السد الذي يقف حائلاً منيعاً دون تحقيق السودانيين أهداف ثورتهم المجيدة المتمثلة في تحقيق السيادة الوطنية، تفكيك الدولة المركزية، وإعادة هيكلتها بغرض إنصاف الشرائح المستضعفة.
لقد نصحنا كتابة وشفاهة في إطار الحديث عن إعادة الهيكلة ووصينا بضم وزارتي الثقافة والرياضة لأن نتائجهما الوسيطة واحدة، ونوهنا إلى ضرورة استحداث وزارة تخطيط تنموي وإحصائي تتضمن أقسام اقتصادية واجتماعية وبيئية وقسم تنمية مؤسسية (فرفع الدعم مثلاً ضرورة يلزم أن يصحبها تعريف لشرائح بعينها، الأمر الذي يتطلب عمل إحصائي دقيق)، فإذا بنا نفاجئ بوزارة العمل والرعاية اجتماعية، علما بأن الرعاية أمر خدمي يمكن أن يسند إلى جهة خدمية غير سيادية. إذا ما انتقلنا إلى الدائرة الاقتصادية، يلزم رئيس الوزراء إعطاء تفاصيل وعدم الإكتفاء بذكر عموميات، لأن فكرة زيادة الإنتاج تعتمد على سياسات السوق التي تعطي أولوية للإصلاحات البنيوية والهيكلية التي يلزم أن تتولاها الدولة مراعية مستوى تطور التشريعات والقانون، الأهم الوعي الأخلاقي للمنظمات والجهات الحقوقية والعدلية.
لا داعي أن يحرج حمدوك نفسه بالدخول في قضايا من مثل "دفع مستحقات السلام" لأن المسآلة والتي هي أولى أوليات هذا الإستحقاق أمر دونه القتات فثمة صفقة تمت بين قحت والمجلس العسكري وهو من الحصافة بإن يدرك ذلك؛ يكفي طاقمه فقط في هذه المرحلة وضع الخطط ورسم السياسات إذا كان بمقدورهم فعل ذلك وترك الباقي لرب البريات.
ختاماً، إلى جانب التناقضات البنيوية (الشيوعية والنيوليبرالية، الرجعية والتقدمية، النخب الريفية المحتارة والمغبونة وتلكم المدينية الجزلة والفرحة، الأهداف الثورية والثوابت الإنقاذية، إلى أخره)، فإن حكومة حمدوك لا تمتلك الرؤية ويفتقر معظم وزرائها للوشائج العاطفية مع البلد وأهله، وما لدى غالبيتهم من معرفة بالتنمية لا تعدو كونها معرفة باردة لم تنفعل يوماً بمواجع الناس ولم تر الأرق في جفونهم، فأنّى لهم بالجَلَد، دعك عن الحُلم والخيال؟ كان أملي معقوداً على تولي الخبير الأممي مهمة اعداد استراتيجية تنمية وطنية تستشرف عام 2050 بأفق جميل وسديد. لكنني رأيته شحذاً يتوهم في نفسه قدراً غير الذي أعد له وسينتهي الوقت قبل أن ينجز شيئاً مذكوراً، لا على المستوى المعنوي ولا على المستوى المادي. فلن يطول الوقت قبل أن يقرر الشعب استكمال ثورته واستعادة هيبته بالتخلص من المتواطئين من "ملة الثوريين" وإفشال أحلام المتربصين من الإنقاذيين.